فانتبهت «ليدا» من خواطرها وتنهدت ونهضت ومشيا جنبا إلى جنب في الطريق المفضي إلى قلب الحديقة الجهمة.
وكان البيت على الطريق الأكبر في البلدة، ولما كانت هذه صغيرة فقد امتدت أرض الحديقة إلى النهر ومن ورائه الحقول. والبيت قصر عتيق في عمده على الجانبين رخاوة وله شرفة رحيبة، وكانت الحديقة على سعتها مهملة هائجة حتى ليحسبها رائيها سحابة خضراء باهتة قد نزلت إلى الأرض. وهي بالليل كمثوى الأشباح وكأنما يغشاها طيف حزين يسري بين أغراسها المتوشجة أو يروح ويغدو في قلق على البلاط الترب بذلك البناء القديم. وفي الدور الأرضي جملة الحجر الفارغة تكسوها الأبسطة الحائلة والستائر الحالكة ثوبا مظلما، ولم يكن يتخلل الحديقة إلا طريق واحد ضيق أو ممر، مبعثرة في نواحيه الأغصان المصوحة والضفادع المسحوقة. وكل ما في الحديقة من دلائل الحياة الهادئة المطمئنة محشود في ركن واحد منها. وثم على كثب من البيت يلتمع الرمل الأصفر والحصى وهناك - إلى جانب حوض أنيق من الزهر يومض في نوره الطل - يرى المرء مائدة خضراء يجلسون إليها للطعام أو الشاي في الصيف. فكانت هذه الزاوية الصغيرة التي نفخت فيها الحياة السلسة الساذجة من روحها على نقيض ذلك القصر الضخم المهجور، المقضي عليه بالتداعي المحتوم.
ولما خفي البيت عن أعينهما وأحاطت بهما الأشجار الصامتة الساكنة كأنها الشهود تنظر وتروي. دفع سانين ذراعه فجأة حول خصر ليدا وقال بلهجة جامعة بين الرقة والعنف: «لقد صرت آية! وسيسعد بك أول من تحبين من الرجال.»
فأرسلت لمسة ذراعه وعضلاته الحديدية هزة نار في عود ليدا اللين الغض. وصبغ وجهها الخجل. واضطربت فتنحت عنه كأنما قاربها وحش غير مرئي.
وكانا قد بلغا حافة النهر فصعدت إليهما رائحة بليلة رطبة من الأعشاب المطرقة المترنحة في الماء، وبدت مما يلي النهر الحقول في رداء من غبش الغسق تحت سماء مترامية تومض فيها طلائع النجوم.
ومال سانين وتناول عودا جافا ذاويا ووقصه وألقى بكسره في تيار الماء، فانداحت في لجته الدوائر وزالت بأسرع مما ظهرت، وحنت الأعشاب النابتة رءوسها كأنما أرادت أن تحيي في سانين ندها ورفيقها.
الفصل الثاني
كانت الساعة السادسة والشمس ما زالت وضاءة، ولكن الحديقة ارتمت فيها الظلال الرقيقة، وكان الجو كله ضوءا وحرارة وسجوا، وكانت ماريا إيفانوفنا تصنع مربى، فانبعثت تحت شجرة الزيزفون الخضراء رائحة قوية من السكر المغلي والتوت البري. وكان سانين يكدح نهاره في أحواض الزهر معالجا أن ينفث الحياة في بعض أعوادها التي أضر بها التراب والحر.
فقالت له أمه مقترحة: «أولى لك أن تقتلع الحشائش أولا. قل لجرونكا تصنع ذلك لك.»
وكانت ترقبة وتنتحيه بعينيها من حين إلى حين من خلال اللهيب الأزرق المرتعش.
Неизвестная страница