ثم تنبه فجأة لخاطر ما، فعاد يلتفت إلى ذلك الشاب الأفريقي النحيل الذي ينطق الإنجليزية بلكنة فرنسية طاغية ليسأله: ثم كيف تيقنت من كونها بولندية بالذات؟ هل تعرفها مسبقا؟ إنها زميلتي في العمل منذ سنة أو أكثر، ولم أعرف قط بلدها الأصلي، كنت أظنها روسية ربما.
ابتسم مارسيل بخبث وثقة قائلا: كلا يا صاحب! يمكنني أن أراهنك على عشرة دولارات أنها بولندية. اذهب واسألها ثم عد لي في استراحة الغداء، وادفع لي الدولارات العشرة.
ثم توقف قليلا وتطلع إلى السماء كمن يفكر ثم أردف: حسنا، أنا واثق من أنها بولندية، لكن هناك احتمال ضئيل أن تكون تشيكية. إذا كانت تشيكية نصبح متعادلين، لكنني أعرف منذ الآن أنك مدين لي بعشرة دولارات.
كانت ماجدالينا بولندية بالفعل، سألها ياسين يومها وفاجأته إجابتها بأنها قدمت من بولندا قبل ثلاثة أعوام فقط، وأنها لم تتأقلم بعد على الحياة خارج مدينتها الصغيرة الهادئة على تخوم الريف، حيث تنبسط السهول الخضراء على مد البصر. عاد إلى مارسيل في استراحة الغداء، ودفع له الدولارات العشرة رغم معارضة الأخير وتأكيده أنها كانت مجرد مزحة لا أكثر. ومنذ ذلك اليوم صارا صديقين، صارت عادة يومية لياسين أن يمر علي مارسيل كل صباح في طريقه إلى العمل ليلقي عليه التحية، ثم يأتي إليه في بعض الأيام خلال استراحة الغداء عندما لا يكون منشغلا فوق العادة ليمارسا معا هواية تمييز اللهجات تلك. التقط ياسين من طول عشرته لمارسيل بعض مفاتيح تلك الفراسة، بالإضافة إلى سابق خبراته في التعامل مع جنسيات مختلفة أثناء إقامته في بلدان الخليج العربي؛ فصار هو بدوره كذلك مرجعا لمارسيل في تمييز البنجالية من الهندية، أو العربية من الفارسية، كانا يشكلان معا ثنائيا فريدا، لم تربطهما قط ثقافة أو لغة أو مهنة، ليس ثمة ما يربط بينهما إلا تلك الهواية. لم يخبر ياسين أحدا قط عن ذلك الصديق العجيب، لا يدري لم أبقاه سرا، لكن مارسيل ظل كذلك وحسب. •••
ثم مرت على أنفه روائح أطباق برهان الحق بخلطاتها السحرية الغامضة، حينما رأى تلك الصورة الجماعية القديمة نسبيا، كانت بتاريخ مايو 2002م، وكانت تضم معه رجالا كثيرين لا يذكر بعضهم، لكن برهان الحق كان حاضرا بوضوح في منتصف الصورة؛ ذلك الطاهي المبدع القادم من قرية نائية في أحراش الهند الجنوبية، حيث تجود السماء بالمطر الغزير طوال الصيف؛ فتنبت من خيرات الأرض ما أثرى خبرات القرويين المحليين بوصفات وخلطات توارثوها عبر أجيال لا يعرفون لها بداية، موروث بالغ البذخ من النكهات والتجارب، بعضها يعود لأصول عقائدية وثقافية متشابكة الجذور، وبعضها الآخر يرجع فقط لمبدعين قدماء بحثوا عن سر السعادة أو الصحة بين أوراق وجذور تلك التشكيلة الهائلة من النباتات المحيطة بهم. جاء برهان الحق إلى تلك البلاد الصحراوية الجافة التي لا تشبه قريته من قريب ولا بعيد منذ عقود، قبل أن تخلق تلك التشديدات والقوانين الصارمة للدخول والإقامة، جاء عاملا على سفينة للحجاج أبحرت من ميناء تشيناي - الذي كان اسمها آنذاك مدراس - قاصدة جدة، لم يكن ذاهبا للحج؛ فما كان يملك وقتذاك حتى قوت يومه، ولم يكن حتى ينوي الهجرة من وطنه الذي لم يعرف قط غيره قبل تلك الرحلة، إنما ركب السفينة عاملا بسيطا، ينظف أرضياتها ويحمل أمتعة ركابها، أو يساعد في صيانة ماكيناتها إذا اقتضى الأمر، في مقابل قوت يومه وقروش قليلة يعود بها بعد أشهر لتعين عائلته الكبيرة على متطلبات حياتهم البدائية في القرية. لم يكن برهان الحق يدرك وهو يطالع ببصره مودعا تلك المباني الوردية العتيقة لعاصمة ولايته المطلة على ساحل المحيط أن عينيه لن تقعا عليها مرة أخرى.
كانت المصادفة التي غيرت مجرى حياته عندما دلف إلى مطبخ السفينة الكبير الذي لم يكن يطهى فيه غير الأرز مع الكاري وبعض الخضروات، تبادل أطراف الحديث مع بعض الطهاة ثم عرض مساعدتهم في إعداد طعام ذلك العدد الهائل من المسافرين، كنوع من التخفيف من ضغط العمل عليهم فرحبوا بذلك. بدأ برهان الحق يحضر بعض خلطات التوابل التي تعلمها من أمه ونساء قريته عندما كن يتجمعن لطقوس الطهو المشترك في الأعياد، نثر خلطته على قدور الأرز الضخمة ففاحت منها الروائح الذكية، حتى أقبل الكثير من الركاب على المطبخ يتشممون ذلك الطعام الشهي، ويتعجلون تحضير وجبة الغداء. أبهرت خلطته كل من كان في السفينة؛ حتى طلبته الإدارة للعمل في المطبخ إلى حين رسو السفينة في جدة في مقابل قروش إضافية، فصار في كل يوم يحضر خلطة جديدة من التوابل البسيطة المتاحة في السفينة، ثم التقطه أحد التجار الذي كان يملك مطعما شعبيا في أحد أحياء جدة القديمة، وأقنعه بالعمل في مطعمه بعد أن يصلا إلى هناك، وبمجرد رسو السفينة تركا الحجاج يستقلون الحافلات في طريقهم إلى مكة، ثم ابتلعتهما معا حارات جدة العتيقة. لم يلبث برهان الحق أن صنع سمعة وشهرة كبيرة في أوساط الفقراء من زبائن ذلك النوع من المطاعم الشعبية؛ فصار اسم وعنوان ذلك المطعم هو السر الذي يتداولونه بينهم، ولا يجودون به إلا على البسطاء من أمثالهم، أو على من يثقون به من غيرهم. وهكذا تعرف ياسين على عالم برهان الحق السحري، حين أخذه إليه أحد سائقي الشركة من زبائن المطعم، كانت تجربته الأولى مع أطباق برهان الحق كتجربته يوم الليلة الصوفية في حضرة أبي العباس المرسي، حلق يومها في سماوات النشوة مع مذاقات ونكهات أخذته إلى بلاد برهان الحق البعيدة، مذاقات معقدة وغنية كتلك البلاد، تستحوذ على انتباهك كاملا وتستنفر إحساسك، تداعبك، لا يمكنك أن تجزم إن كانت مالحة أم حلوة أم حارة، إنها ليست بتلك البساطة، إنما تتبادل الأدوار فيما بينها فتتقاذفك من نكهة لأخرى وفق نظام محكم الصنع. طافت به أطعمة برهان الحق في غابات وأنهار وتلال ووديان لم يسمع بها قط، وربما لم يسمع بها برهان الحق ذاته الذي لم يغادر حدود ولايته قبل أن يأتي إلى جدة، وكأن تلك الوصفات القادمة من أحراش جنوب الهند كانت تحفظ بداخلها شفرات عتيقة أخفاها رجال قدماء، فبقيت محفوظة عبر الأجيال حتى التقت به - هو القادم من قارة أخرى - هناك على ضفاف البحر الأحمر.
قضى برهان الحق في جدة أعواما لم يعد يحصيها، كان يجيب من يسأله عما قضاه هنا من سنين؛ بأنه جاء إلى جدة قبل أن يولد غالبية الرجال الذين يراهم حوله الآن، كان يقول إنه هنا منذ لم تكن في جدة كلها عشرون سيارة، وأن عمره من عمر جدة، فقد كبرت تلك المدينة معه، نمت وترعرعت مع ازدهار شبابه ورجولته؛ يعرف متى أنشأ كل جسر فيها، ويعرف ما كان في موضع كل برج ومركز تجاري قبل أن تكون ثمة أبراج ومراكز تجارية. شاخت جدة كذلك مع شيخوخته، وهنت المدينة فلم تعد بها حيوية الماضي، وضعف بصرها فلم تعد تتعرف على أحبتها القدامى.
ظل برهان الحق يفتن زبائنه بأطعمته الساحرة رغم رخص أسعارها، ظلت الغالبية العظمى من مرتادي مطعمه - الذي صار يعرف منذ زمن بمطعم برهان الحق، لا بمطعم الأصدقاء كما هو مكتوب على اللافتة ذات الأضواء المتحركة قديمة الطراز - من الفقراء، التزم طوال تلك السنوات بعدم تقديم أطباق لا يقدر على ثمنها عامل بسيط، كان يجد سكينة روحه وسط أولئك الكادحين الذين كان يمكنه أن يرى في تجاعيد وجوههم السمراء المنحوتة نسائم قريته البعيدة، فلم يكن في قريته أغنياء أو سيارات أو مراكز تجارية.
ثم رحل برهان الحق في هدوء، فاضت روحه دون أن يعاني من أي مرض بعد أن كان قد عقد العزم على الخروج للحج ثم العودة إلى بلاده، كان قد سئم الغربة ولم يعد سعيدا بالحياة في جدة بعد أن اتسعت وترامت أطرافها ولم يعد يعرفها ولم تعد تتذكره، لم تكتمل أبدا رحلة برهان الحق إلى عرفات، اختطفته نكهات التوابل قديما واختطفه الموت مؤخرا، لكن روائح خلطاته بقيت عالقة في جدران حارات جدة العتيقة. •••
ثم توقف ياسين عند صورة زملاء القسم التي التقطها لهم مصور محترف استعانت الشركة بخدماته لأهداف دعائية، رأى عابدة تقف خلفه مباشرة في الصورة التي تحمل تاريخ أكتوبر 2014م؛ إنها بلا شك أصلب امرأة وقع عليها بصره، تلك المقاتلة الشرسة التي لم تحن ظهرها قط أمام ضربات الزمن، التي وقفت مرفوعة الرأس دوما، بل ردت الصفعة بمثلها، لم تستسلم ولم تتهرب من المواجهة منذ تركت - مرغمة - بيتها الصغير على أطراف البصرة حاملة طفلها على كتف، والصرة القماشية التي جمعت فيها ما استطاعت حمله من متاع على الكتف الأخرى، مخلفة وراءها زوجا تستقر في جمجمته رصاصات ثلاث راقدا على وجهه أمام عتبة البيت، وحياة كاملة عاشتها بين جدران ذلك البيت، وأحلاما عرضها كعرض السماء.
Неизвестная страница