أجاب في نبرة تحمل بعض الاعتذار أو ربما التبرير: أعرف كل ما تقولين يا فريدة وفكرت فيه كثيرا، ألا تعتقدين حقا أنني فعلت؟ لكنني لا أهرب، إنما أجرب طريقا آخر غير الطريق الذي أسير فيه، وأنا أعلم وأنت كذلك تعلمين أنه مسدود. الدنيا واسعة فلماذا نحتجز أنفسنا في هذه المساحة الضيقة؟ عندما نظرت إلى السماء في قرية أبي أحصيت عددا من النجوم لم يكن يخطر ببالي أنه يمكن أن يكون موجودا، لماذا إذن لا نختبر احتمالات أخرى؟
ثم أردف بلهجة أكثر حيادية كمن يقرأ تقريرا في اجتماع عمل: سأسافر لسنوات قليلة، أربع أو خمس سنوات على أقصى تقدير. لقد أجريت دراسة مالية محكمة للخطة كلها؛ السنوات الأربع الأساسية ستكون كافية لتوفير رأس مال جيد يمكنني العودة به والبدء في مشروع خاص، أو الاستثمار في مجال يضمن لنا عائدا مناسبا لاستكمال حياتنا. أما السنة الخامسة فيمكنها أن تغطي أية احتمالات لظروف قهرية قد تفسد الخطة. هذا صميم عملي يا فريدة، وأنا أعرف جيدا ما أتحدث عنه، يمكنني حتى أن أريك قائمة التدفقات النقدية التي أعددتها على الكمبيوتر للسنوات الخمس بالكامل؛ لكي تتيقني من دراستي للخطة جيدا وبطريقة علمية، ومن أن ما أقوله ليس محض أحلام.
استمعت إليه بصمت ثم أجابت في تصميم واضح: أنا غير موافقة يا ياسين، لن أترك هذه المدينة، لن أبتعد عن أمي وأبي في عمرهما هذا وأنا وحيدتهما؛ أمي مريضة ومرضها خطير وأنت تعلم ذلك، أنا من تنظم لها مواعيد أدويتها، وأنا من تصطحبها إلى عيادات الأطباء ومراكز الأشعة، فلم يعد أبي يملك العافية الكافية ليقوم بتلك المهام. لم تنفق تلك المرأة وذلك الرجل عمريهما في تربيتي لكي أتركهما عندما يحتاجان لي، ولا لكي أسافر إلى دولة أخرى ليصبح كل ما يربطني بهما مكالمة هاتفية أو بضع خطابات في المناسبات والأعياد، كما أنني كذلك لن أعيش في بلد لا أستطيع الخروج فيه إلى الشارع بمفردي، ولا أستطيع العمل، ولا يمكنني حتى مغادرته إلا بتأشيرة خروج، وبالتأكيد لن أنتظرك هنا لخمس سنوات ربما تمتد إلى سبع أو عشر أو عشرين. أنا أثق بدقة حساباتك بالطبع، ولكنني لا أثق بتقلبات الزمن. لقد أنفقت خمس سنوات من عمري في هذه الكلية الصعبة لكي أعمل وأنجح وأحقق ذاتي بعد التخرج، لا لكي أقبع وحيدة أمام التليفزيون في بلد غريب، ليس هذا ما أريده لحياتي يا ياسين، ليس هذا ما اتفقنا عليه.
ارتبك بعض الشيء من ذلك التصميم الذي لم يتوقعه، أطرق قليلا متطلعا إلى البحر ليفكر، ثم قال بعد برهة: هذه فرصة عمري يا فريدة، أتفهمين؟ أحتاج إلى المال ليمكنني أن أتنفس قليلا، ليمكننا معا أن نتنفس قليلا، لا توجد فرص كثيرة هنا، لقد كنت محظوظا بالحصول على هذه الوظيفة على أي حال، ولا أتوقع أن أحصل على أفضل منها في المستقبل القريب. هذا هو سقف المتاح هنا، هذه المدينة ضيقة جدا يا فريدة، هذه المدينة أضيق كثيرا مما تتصورين.
عادت نبرتها إلى التفهم والتعاطف فقالت في حنان: فلتذهب إلى القاهرة إذن، الفرص هناك أكثر والقاهرة ليست ببعيدة، ليست في دولة أخرى على أي حال.
هز رأسه كأنما ينفض عنه الفكرة، وقال في نفاد صبر: القاهرة كالإسكندرية، الفرص أكثر نعم، لكن الساعين وراء تلك الفرص أكثر كذلك، الجميع من كل المحافظات يذهب إلى القاهرة ليبحث عن عمل، هذا البلد كله يختنق ويخنقنا معه. أنا بالطبع لا أريد الاغتراب، وأعرف مسبقا أنها ستكون تجربة قاسية، فلست بطفل صغير، ولكنني لن أستطيع الاستمرار في التظاهر بأن كل شيء هنا على ما يرام، وأن المستقبل سيكون مشرقا. لا يا فريدة، يؤسفني أن أبلغك بأنه ليس كل شيء على ما يرام، الحياة ليست وردية، والمستقبل لن يكون مشرقا، لا توجد هنا وظائف كافية، لقد تخطى تعداد هذا البلد الستين مليونا، يتخرج في كل عام خمسة عشر أو ربما عشرون ألفا يحملون نفس شهادتي الجامعية، أي مستقبل يمكننا توقعه في بلد يتنفس هواء ملوثا وينخر الفساد في عظامه؟ يجب علينا أن نواجه أنفسنا بالحقيقة قبل فوات الأوان، هذا البلد سيئ.
ثم أمسك بكوب النسكافيه الموضوع أمامه ورفعه في وجهها وقال بصوت ارتفع قليلا من فرط الانفعال حتى لفت إليهما أنظار الفضوليين ذاتهم مرة أخرى: هذا النسكافيه سيئ يا فريدة، أنا وأنت نعلم ذلك جيدا، ولكننا نتجاهل هذه الحقيقة الواضحة ونواصل المجيء إلى هنا وطلب النسكافيه في كل مرة ودفع ثمن لا يستحقه، يجب أن نتوقف عن فعل ذلك يا فريدة فهذه حماقة، ونحن لا نملك ترف ارتكاب المزيد من الحماقات.
بسطت فريدة كفيها أمامها كتعبير عن العجز، ثم أجابت بعد برهة قصيرة في صوت منخفض محبط: أعرف ما تعنيه وأتفهم دوافعك، لكنني حقا لا أستطيع، عندي دوافعي وأسبابي أنا كذلك، لا أعرف ما يتوجب علي فعله، أنا فقط لا أستطيع ترك هذه المدينة.
أجابها في نبرة يائسة لكنها حازمة في آن واحد: تعرفين أنني تخليت عن حلمي بالهجرة لكندا من أجلك يا فريدة، ومن أجل أبي كذلك لكي أكون منصفا، فلم يكن باستطاعتي تركه هنا بمفرده ، ولا أظنني أرغب في الهجرة الآن على أي حال حتى بعد وفاته، لم أعد أحلم بالديمقراطية والحرية وتلك الرفاهيات، لم أعد أحلم إلا بدخل يكفيني أنا وأنت لنؤسس بيتا ولنعيش حياة طبيعية كالبشر، لكنني كذلك لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد.
أغسطس 1994م
Неизвестная страница