Салат аль-Истиска
صلاة الاستسقاء
Издатель
مطبعة سفير
Место издания
الرياض
Жанры
٣٩
سلسلة مؤلفات سعيد بن علي بن وهف القحطاني
_
صلاة الاستسقاء
مفهوم، وأسباب، وأنواع، وآداب، وآيات، وحِكَمٌ، وأحكامٌ
في ضوء الكتاب والسنة
Неизвестная страница
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في: «صلاة الاستسقاء» وما يتعلق بها من أحكام، بيَّنت فيها بفضل الله تعالى: مفهوم الاستسقاء، وحكمه، وأسباب القحط وحبس المطر، وأنواع الاستسقاء، وآدابه التي ينبغي للمسلمين أن يلتزموا بها في الاستسقاء، وبيّنت كيفية صلاة الاستسقاء، وموضع خطبة الاستسقاء، وأن السنة في الدعاء المبالغة في رفع اليدين، ثم ذكرت أدعية نبوية ثبتت في الاستسقاء، وأن السنة تحويل الرداء في آخر
1 / 3
خطبة الاستسقاء واستقبال القبلة، وبيَّنت أن الاستسقاء بالكواكب والأنواء من أمور الجاهلية، ثم ذكرت الآداب المختصة بالمطر، وختمت بذكر آيات من آيات الله تعالى: الرعد، والبرق، والصواعق، والزلازل، فذكرت كلام أهل العلم على ذلك.
وقد استفدت كثيرًا من تقريرات، وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله ابن باز، رحمه الله تعالى.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل القليل: مباركًا، نافعًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه خير مسؤول وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أبو عبد الرحمن
سعيد بن علي بن وهف القحطاني
حرر في ضحى يوم السبت ٢٠/ ٣/١٤٢٣هـ
1 / 4
أولًا: مفهوم الاستسقاء:
الاستسقاء طلب السقيا، كالاستصحاء: طلب الصحو، وهو استفعال من أسقيت (١)، قال ابن منظور - رحمه الله تعالى -: «ذكر الاستسقاء في الحديث، وهو استفعال من طلب السقيا: أي إنزال الغيث على البلاد والعباد، يقال: استسقى، وسقى الله عباده الغيث، وأسقاهم، والاسم: السُّقيا بالضم، واستسقيت فلانًا: إذا طلبت منه أن يسقيك» (٢).
ولكن في عرف الفقهاء إذا قالوا: صلاة الاستسقاء إنما يعنون استسقاء الرب ﷿ لا استسقاء المخلوق (٣).
قال الجرجاني - رحمه الله تعالى -: «الاستسقاء: هو طلب المطر عند طول انقطاعه» (٤)، أي: من الله ﷿.
ثانيًا: حكم الاستسقاء: الاستسقاء سنة مؤكدة إذا
_________
(١) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام لابن الملقن، ٤/ ٣١٧.
(٢) لسان العرب، لابن منظور، فصل السين، باب الياء، ١٤/ ٣٩٣.
(٣) الشرح الممتع، لابن عثيمين، ٥/ ٣٦١.
(٤) التعريفات، للجرجاني، فصل السين، ص٣٩.
1 / 5
أجدبت الأرض وقحط المَطَر (١).
قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله تعالى -: «صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة ثابتة بسنة رسول الله ﷺ، وخلفائه ﵃» (٢).
وقال الإمام ابن عبد البر ﵀: «وأجمع العلماء على أن الخروج إلى الاستسقاء، والبروز، والاجتماع إلى الله ﷿ خارج المصر: بالدعاء، والضراعة إلى الله تبارك اسمه في نزول الغيث عند احتباس ماء السماء وتمادي القحط: سنة مسنونة سنها رسول الله ﷺ، لا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك (٣» (٤).
_________
(١) قحط: يقال: قُحِط وقَحَطَ: إذا احتبس وانقطع، وأقحط الناس: إذا لم يمطروا، والقحط: الجدب؛ لأنه من أثره، [النهاية في غريب الحديث والأثر، لابن الأثير،٤/ ١٧].
(٢) المغني، لابن قدامة،٣/ ٣٣٤،وانظر: الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم،١/ ٥٠٨.
(٣) التمهيد، لابن عبد البر، ١٧/ ١٧٢.
(٤) وهل يشترط لصلاة الاستسقاء إذن الإمام؛ اختُلِفَ في ذلك فقال في زاد المستقنع: «وليس من شرطها إذن الإمام»، وقال ابن قدامة على روايتين: إحداهما لا يستحب إلا بخروج الإمام، وعنه أنهم يصلون لأنفسهم ويخطب بهم أحدهم، فعلى هذه الرواية يكون الاستسقاء مشروعًا في حق كل أحد: مقيم، ومسافر، وأهل القرى، والأعراب؛ لأنها صلاة نافلة». المغني لابن قدامة، ٣/ ٣٤٦، والإنصاف مع المقنع والشرح الكبير، ٥/ ٤٣٥، لكن قال ابن عثيمين: «لكن حسب العرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بالإمام».الشرح الممتع،٥/ ٢٩١،وقَرَّرَ شيخنا ابن باز أنها تصلى في السفر وفي البادية وإذا لم يأمر بها الإمام، مجموع الفتاوى لابن باز،١٣/ ٦٦، ٨٥.
1 / 6
ثالثًا: أسباب القحط وحبس المطر: معصية الله تعالى ورسوله ﷺ؛ لحديث عبد الله بن عمرو ﵄ قال: أقبل علينا رسول الله ﷺ فقال: «يا معشر المهاجرين: خمس إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن:
لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مَضَوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجَوْر السلطان عليهم.
ولم يَمْنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطروا.
ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلّط الله عليهم
1 / 7
عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم.
وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» (١).
وهذا الحديث فيه من الفوائد: أن نقص المكيال والميزان سبب للجدب وشدة المؤونة وجور السلاطين، وفيه أن منع الزكاة من الأسباب الموجبة لمنع قطر السماء، وأن نزول الغيث مع وجود المعاصي إنما هو رحمة من الله تعالى للبهائم (٢).
وقد قال الإمام البخاري – ﵀ – في صحيحه: «بابُ انتقام الرب ﷿ من خلقه بالقحط إذا انتُهِكَتْ محارمُه» (٣).
وقد جاء عن مجاهد – رحمه الله تعالى – أن البهائم تلعن عصاة بني آدم إذا أجدبت الأرض، ذكر ذلك الإمام ابن
_________
(١) ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم ٤٠١٩، والحاكم وصححه، ووافقه الذهبي، ٤/ ٥٤٠، وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ٢/ ٢٧٠، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، ١/ ٧، برقم ١٠٦.
(٢) نيل الأوطار، للشوكاني، ٢/ ٦٤٩ – ٦٥٠.
(٣) البخاري، كتاب الاستسقاء، قبل الحديث رقم ١٠١٣.
1 / 8
كثير – رحمه الله تعالى – في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ﴾ (١).
فقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ الَّلاعِنُونَ﴾ قال ابن كثير: «يعني دواب الأرض .. وقال عطاء بن أبي رباح: كل دابة، والجن، والإنس، وقال مجاهد: إذا أجدبت الأرض قالت البهائم: هذا من أجل عُصاة بني آدم، لعن الله عُصاة بني آدم. وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة: «ويلعنهم اللاعنون» يعني: تلعنهم الملائكة والمؤمنون، وقد جاء في الحديث أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان في البحر (٢)،وجاء في هذه الآية: أن كاتم العلم يلعنه الله، والملائكة، والناس أجمعون، واللاعنون أيضًا: وهو كل فصيح، وأعجمي، إما بلسان المقال، أو الحال، أن لو
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ١٥٩.
(٢) الحديث أخرجه الترمذي، كتاب العلم، باب في فضل الفقه على العبادة، برقم ٢٨٢٥، وقال: «هذا حديث حسن غريب صحيح» وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي، ٢/ ٣٤٣.
1 / 9
كان له عقل ويوم القيامة والله أعلم» (١).
وقد بيّن الله ﷿ أن الابتعاد عن المعاصي والقيام بالواجبات من أعظم أسباب إنزال البركات، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ﴾ (٢). ذكر الله ﷿ أن أهل القرى لو آمنوا بقلوبهم إيمانًا صادقًا صدَّقَتْه الأعمال، واستعملوا تقوى الله تعالى ظاهرًا وباطنًا، بترك جميع ما حرَّم الله؛ لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارًا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا
_________
(١) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، ص١٣٧، وتفسير البغوي، ١/ ١٣٤.
(٢) سورة الأعراف، الآيات: ٩٦ – ٩٩.
1 / 10
تعب، ولا كدٍّ ولا نَصَب، ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا،
﴿فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ بالعقوبات والبلايا، ونزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو أخذهم بجميع ما كسبوا ما ترك عليها من دابة (١). كما قال ﷾: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ﴾ (٢). وكما قال ﷾: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا﴾ (٣).وكما قال ﷿: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (٤).
وقد أوضح الله ﷿ أن أهل الكتاب لو قاموا بأوامر
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن، للسعدي، ص٢٩٨، ٢٣٨.
(٢) سورة النحل، الآية: ٦١.
(٣) سورة فاطر، الآية: ٤٥.
(٤) سورة الروم، الآية: ٤١.
1 / 11
التوراة والإنجيل وابتعدوا عن نواهيهما، لأدرّ الله عليهم الرزق، ولأمطر عليهم السماء وأنبت لهم الأرض (١)، فقال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ﴾ (٢).
ولا شك أن الناس قد يحرمون الأرزاق بالذنوب يصيبونها؛ لأن من لم يتق الله لا يجعل الله له مخرجًا ولا يرزقه من حيث لا يحتسب، وما استجلب رزق بمثل ترك المعاصي (٣)؛ لمفهوم قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (٤).
_________
(١) تيسير الكريم الرحمن للسعدي، ص٢٣٨.
(٢) سورة المائدة، الآيتان: ٦٥، ٦٦.
(٣) الجواب الكافي، لابن القيم، ص١٠٤.
(٤) سورة الطلاق، الآيتان: ٢، ٣.
1 / 12
ومعلوم أن المعاصي تُزيل النعم وتُحِلُّ النقم، فما زالت عن العبد نعمة إلا بذنب، ولا حلَّت به نقمة إلا بذنب، كما ذُكِرَ عن علي بن أبي طالب ﵁ أنه قال: «ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة» (١)،قال الله ﷿: ﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾ (٢)، وقال ﷿: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (٣)، فلا يغيِّر الله تعالى نعمته التي أنعم بها على أحد حتى يكون هو الذي يُغَيِّرُ ما بنفسه، فيغير طاعة الله بمعصيته، وشكره بكفره، وأسباب رضاه بأسباب سخطه، فإذا غيَّر غُيِّر عليه جزاءً وفاقًا، وما ربُّك بظلام للعبيد.
فإن غيَّر المعصية بالطاعة غيَّر الله عليه العقوبة بالعافية، والذلّ بالعزّ، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
_________
(١) الجواب الكافي لابن القيم، ص١٤٢.
(٢) سورة الشورى، الآية: ٣٠.
(٣) سورة الأنفال، الآية: ٥٣.
1 / 13
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ الله بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ (١).
ولقد أحسن القائل:
إذا كنت في نعمة فارعها ... فإن المعاصي تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد ... فربُّ العباد سريع النقم (٢)
رابعًا: أنواع الاستسقاء: الاستسقاء أنواع على النحو الآتي:
النوع الأول: الاستسقاء بصلاة جماعة أو فرادى (٣) على ما يأتي تفصيله، وهو أكملها، وصلاته ﷺ مستفيضة في الصحاح وغيرها، واتفق فقهاء الأمصار على هذا النوع (٤).
النوع الثاني: استسقاء الإمام يوم الجمعة في خطبتها،
_________
(١) سورة الرعد، الآية: ١١.
(٢) الجواب الكافي، لابن القيم، ص١٤٢.
(٣) قال الإمام ابن الملقن في الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، ٤/ ٣١٧: «واعلم أن الاستسقاء أنواع: الأول: الدعاء بلا صلاة ولا خلف صلاة، وأوسطها الدعاء خلف الصلوات وفي خطبة الجمعة، والاستسقاء بركعتين وخطبتين، والثاني أفضل من الأول، والثالث أكمل الكل وخالف فيه أبو حنيفة ...».
(٤) الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، ١/ ٥٠٤، والاستسقاء: سننه وآدابه، للشيخ عبد الوهاب بن عبد العزيز الزيد، ص٣١.
1 / 14
كما فعل النبي ﷺ، واستفاض عنه من غير وجه، وهذا النوع مستحب اتفاقًا، واستمر عمل المسلمين عليه (١)؛ لحديث أنس بن مالك ﵁ قال: أصابت الناس سنة على عهد النبي ﷺ، فبينما النبي ﷺ يخطب في يوم جمعة فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال فادع الله لنا، فرفع رسول الله ﷺ يديه ثم قال: «اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا»، وفي لفظ للبخاري: «اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا»، قال أنس: ولا والله ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة (٢) ولا شيئًا، وما بيننا وبين سَلْع (٣) من بيتٍ ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس (٤)، فلما توسطت السماء انتشرت ثم أمطرت، قال: والله ما رأينا الشمس سبتًا (٥) ... «وفي
_________
(١) الإحكام شرح أصول الأحكام، لابن قاسم، ١/ ٥٠٤.
(٢) قزعة: قطعة من سحاب. المفهم لِمَا أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي،٢/ ٥٤٣.
(٣) سَلْع: جبل بالمدينة.
(٤) الترس: أي تشبه السحابة الترس في كثافتها واستدارتها. المرجع السابق، ٢/ ٥٤٣.
(٥) سبتًا: أي من سبت إلى سبت، المرجع السابق، ٢/ ٥٤٣.
1 / 15
لفظ للبخاري: «أصابت الناس سنة على عهد النبي ﷺ، فبينما النبي ﷺ يخطب في يوم الجمعة فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة، فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحدر على لحيته فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد، ومن بعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال: يا رسول الله! تهدَّم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا، فرفع يديه فقال: «اللهمَّ حَوَالَينا ولا علينا»، فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مِثْلَ الجَوْبة (١)، وسال الوادي قناة شهرًا (٢) ولم يجئ أحد من ناحية إلا حدَّث بالجود»، وفي لفظ: «ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة المقبلة ورسول الله ﷺ قائم يخطب
_________
(١) الجوبة: الفجوة بين البيوت، المفهم للقرطبي، ٢/ ٥٤٥.
(٢) قناة: اسم واد من أودية المدينة، وكأنه سُمي مكانه: قناة وقد جاء في غير كتاب مسلم: «وسال وادي قناة شهرًا» على الإضافة، المرجع السابق، ٢/ ٥٤٥.
1 / 16
فاستقبله قائمًا فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل فادع الله يمسكها عنا، فتبسم النبي ﷺ، [وفي لفظ فضحك] قال: فرفع رسول الله ﷺ يديه ثم قال: «اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام (١)، والجبال، والظِّراب (٢) وبطون الأودية، ومنابت الشجر» قال: فانقطعت وخرجنا نمشي في الشمس» (٣).
النوع الثالث: الدعاء عقب الصلوات وفي الخلوات، ولا نزاع في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة» (٤).
_________
(١) الآكام: جمع أكمة: وهي دون الجبال، وقال الخليل: الأكمة: هي تلٌّ، المفهم للقرطبي، ٢/ ٥٤٤.
(٢) الظراب: الروابي، واحدتها ظرب، قال الخليل: الأكمة أعلى من الرابية، المفهم للقرطبي، ٢/ ٥٤٤،والظراب: صغار الجبال والتلال، جامع الأصول لابن الأثير، ٦/ ٢٠٣.
(٣) متفق عليه: البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة، برقم ٩٣٣، وكتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، برقم ١٠١٣، وباب الدعاء إذا كثر المطر: حوالينا ولا علينا، برقم ١٠٢١، وكتاب الأدب، باب التبسم والضحك، برقم ٦٠٩٣، ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، برقم ٨٩٧.
(٤) انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، ٦/ ٤٣٩، والإنصاف مع الشرح الكبير،
٥/ ٤٣٦،والمغني لابن قدامة، ٣/ ٣٤٨، والإحكام شرح أصول الأحكام ٨/ ٥٠٥.
1 / 17
وقد ذكر الإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى - أن النبي ﷺ استسقى على وجوه:
الوجه الأول: يوم الجمعة على المنبر (١).
الوجه الثاني: أنه ﷺ وعد الناس يومًا يخرجون فيه إلى المصلى، فخرج إلى المصلى فاستسقى فاستقبل القبلة، وحوَّل رداءه، وصلى ركعتين (٢).
الوجه الثالث: أنه استسقى على منبر المدينة استسقاء مجردًا في غير يوم جمعة، ولم يحفظ عنه في هذا اليوم صلاة (٣).
الوجه الرابع: أنه استسقى وهو جالس في المسجد فرفع يديه ودعا الله ﷿، فَحُفِظَ من دعائه: «اللهم اسقنا
_________
(١) لحديث أنس، عند البخاري برقم ٩٣٣، ومسلم برقم ٨٩٧، وتقدم تخريجه.
(٢) البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء وخروج النبي ﷺ في الاستسقاء، برقم ١٠٠٥،ولفظه في باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا: «أن النبي ﷺ خرج إلى المصلى فاستسقى، فاستقبل القبلة، وحول رداءه، وصلى ركعتين» برقم ١٠١٢.
(٣) انظر: سنن ابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء في الدعاء في الاستسقاء، برقم ١٢٧٠، وضعفه الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه، برقم ١٢٨٦، وإرواء الغليل، ١/ ١٤٥.
1 / 18
غيثًا مغيثًا مريئًا (١)، مريعًا (٢)، طبقًا (٣)، عاجلًا غير رائث (٤)، نافعًا غي ضار» (٥).
الوجه الخامس: أنه استسقى عند أحجار الزيت قريبًا من الزوراء، وهي خارج باب المسجد الذي يُدعى اليوم باب السلام، نحو قذفة حجر، ينعطف عن يمين الخارج من المسجد (٦).
الوجه السادس: أنه ﷺ استسقى في بعض غزواته، لَمَّا سبقه
_________
(١) مريئًا: المري الذي يمرئ، يقال: مرأني الطعام وأمرأني، قال الفراء: يقال: هنأني الطعام، ومرأني، فإذا أتبعوها: «هنأني» قالوا: مرأني بغير ألف، فإذا أفردوها قالوا: أمرأني. جامع الأصول، لابن الأثير، ٦/ ٢١١.
(٢) مريعًا: يروى على وجهين: بالباء والياء، فمن رواه بالياء جعله من المراعة وهي الخصب، يقال منه: مرع المكان: إذا أخصب فهو مريع، بوزن قتيل، ومن رواه بالباء، فمعناه: منبتًا للربيع، يقال: أربع الغيث يُربع فهو مربع بوزن مُكرم. جامع الأصول، لابن الأثير، ٦/ ٢١١.
(٣) طبقًا: أي مائلًا إلى الأرض مغطيًا، يقال: غيث طبق: أي عام واسع.
(٤) رائث: أي غير بطيء متأخر. جامع الأصول لابن الأثير، ١/ ٢١١.
(٥) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم ١١٦٩، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم ١١٦٩.
(٦) أبو داود، كتاب الصلاة، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم ١١٦٨، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم ١١٦٨.
1 / 19
المشركون إلى الماء (١)،وأُغيث ﷺ في كل مرَّة استسقى فيها (٢).
خامسًا: آداب الاستسقاء كثيرة ومهمة، ومنها:
١ - إذا أصاب الناس قحط لجؤوا إلى الله تعالى وصلوا صلاة الاستسقاء؛ لحديث عائشة ﵂ قالت: شكا الناس إلى رسول الله ﷺ قحوط المطر، فأمر بمنبر فَوُضِعَ له في المصلى ووعد الناس يومًا يخرجون فيه، قالت عائشة: فخرج رسول الله ﷺ حين بدا حاجب الشمس فقعد على المنبر، فكبَّر ﷺ، وحمد الله ﷿ ثم قال: «إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبَّان (٣) زمانه عنكم، وقد أمركم الله ﷿ أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم» ثم قال: «الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، ملك يوم الدين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل
_________
(١) زاد المعاد، لابن القيم، ١/ ٤٥٨.
(٢) المرجع السابق، ١/ ٤٥٩.
(٣) إبَّان: إبان الشيء: وقته وأوانه. جامع الأصول لابن الأثير، ٦/ ٢٠٥.
1 / 20
علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوةً وبلاغًا (١) إلى حين»،ثم رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدا بياض إبطيه، ثم حَوَّلَ إلى الناس ظهره، وقلب – أو حوَّلَ – رداءه وهو رافع يديه، ثم أقبل على الناس ونزل فصلى ركعتين، فأنشأ الله سحابة، فرعدت وبرقت، ثم أمطرت بإذن الله، فلم يأت مسجده حتى سالت السيول، فلما رأى سرعتهم إلى الكِنِّ (٢) ضحك ﷺ حتى بدت نواجذه، فقال: «أشهد أن الله على كل شيء قدير، وأني عبد الله ورسوله» (٣).
٢ - موعظة الإمام الناس، وأمرهم بتقوى الله تعالى، والخروج عن المظالم، والتوبة من المعاصي، وتحليل بعضهم بعضًا، والصيام والصدقة، وترك التشاحن؛ لأن المعاصي سبب القحط، والتقوى سبب البركات (٤)، وقد
_________
(١) بلاغًا: البلاغ: ما يتبلغ به ويتوصل به إلى الشيء المطلوب. جامع الأصول،٦/ ٢٠٥.
(٢) الكنُّ: ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن. جامع الأصول، ٦/ ٢٠٥.
(٣) أبو داود، كتاب الاستسقاء، باب رفع اليدين في الاستسقاء، برقم ١١٧٣، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود، برقم ١١٧٣.
(٤) المغني، لابن قدامة، ٣/ ٣٣٥، والكافي، لابن قدامة أيضًا، ١/ ٥٣٥.
1 / 21