Салах ад-Дин Айюби
صلاح الدين الأيوبي وعصره
Жанры
فما زال الجيش يجد صعوبة بعد صعوبة حتى وصل أخيرا إلى القسطنطينية، وكان ملك القسطنطينية هذه المرة غير محتاج إلى الصليبيين، بل لقد كان يخشى زيادة أعدادهم عنده ويكره أن يجوسوا خلال بلاده، ولم يكن سلوك الجيش الألماني سلوكا يطمئنه على سلامة بلاده؛ فقد أوقعوا شيئا من النهب فيها وطلبوا منه كثيرا من الأموال كأنهم في بلاد معادية. وكان عند «فردريك» نفسه سوء ظن بالإمبراطور الشرقي، وهذا ما جعله يطلب منه الرهائن على حسن نيته، ولعل هذا يفسر لنا الخطاب الذي أنفذه إمبراطور القسطسنطينية «إيساكوس» إلى صلاح الدين يذكر له كرهه للألمان وولاءه له. نعم لقد تغيرت الأحوال منذ تلك الأيام التي كانت القسطنطينية تطلب مساعدة غرب أوروبا على المسلمين أيام أثار «ألكسيوس» نيران الحرب الصليبية في أواخر القرن الحادي عشر.
وبعد صعاب جمة عبر «فردريك» المضائق إلى آسيا الصغرى، وهناك لقي أشد الصعاب من التعب والجوع من جهة ومن المرض من جهة أخرى ومقاتلة فرسان مملكة الروم الإسلامية وملكها «قلج أرسلان». وقد جاءت الضربة القاضية لذلك الجيش أخيرا؛ إذ مات عميده الإمبراطور «فردريك» في نهر شرق آسيا الصغرى. قال جماعة: مات غرقا، ويقول متحمسو المسلمين: إنه غرق في ماء لا يتجاوز علوه نصف علو الرجل لإظهار يد الله في الأمر، ويقول جماعة آخرون: بل مات إذ نزل إلى ماء النهر - وكان شديد البرد - ليستحم فيه عقيب تعب عظيم، فمرض من ذلك وقضى المرض عليه.
سمع صلاح الدين أولا بالأخبار المريعة - وهي اقتراب جيوش فردريك من بلاده عند وصولهم إلى شرق آسيا الصغرى وبلاد الأرمن - فاتخذ الحيطة - وهو القائد الحذر - فأرسل جماعة كبيرة من أمراء جيشه ليرابطوا على منافذ الشام من الشمال، وحاول أن يهدئ الناس مما نالهم من الفزع لهذه الأخبار، ولكنه حاول عبثا، فبدءوا يخزنون الأقوات ويستعدون للشدائد، ولكن ما لبث أن أتته أخبار الضعف الذي انتاب ذلك الجيش العظيم، فتنفس الصعداء وفرح الناس بذلك، وما زالت الأخبار ترده كل يوم بزيادة الضعف إلى أن عرف أخيرا أن فلول ذلك الجيش قد لجأت إلى أنطاكية، وكانت البقية من الجيش العظيم ليست مما يحسب له حساب كبير.
وقد شعر الفرنج الذين حول عكا بنقص جنود صلاح الدين عندما أرسل بعض أمرائه إلى الشمال لحمايته من جيش «فردريك» فأحبوا أن ينتهزوا الفرصة وهاجموا الجهة التي نقصت جنودها نقصا كبيرا وهي ميمنة جيش صلاح الدين، وكان عليها أخوه الملك العادل، فدارت هناك معركة عظيمة تعرف باسمه وهي المعركة العادلية.
واستمر النضال أكثر النهار، واشترك فيه المحصورون في المدينة؛ فإنهم خرجوا على الفرنج من ورائهم أثناء المعركة، فتم النصر بذلك لصلاح الدين، وقتل من الفرنج عدد عظيم يقدره المسلمون بنحو ثمانية آلاف، فكان هذا النصر من جهة وأخبار ضعف الجيش الألماني وتشتته من جهة أخرى عاملين على فرح عام في جيش المسلمين زادت له الروح المعنوية في عكا، مع أن الحصار كان قد أثر في رخائها تأثيرا كبيرا. وهذه الموقعة العادلية أكبر مواقع الدور الثاني للحصار، ولكن الفرنج قد لحقتهم هذه الهزيمة فإنهم احتفظوا بكثير من ثباتهم بقية الصيف، ولا سيما وقد جاءتهم أولى مساعدات الصليبيين من غرب أوروبا بقيادة من يسميه العرب «الكند هري» أو «الكونت هري» وهو «هنري دي شمبانيا» قريب ملكي فرنسا وإنجلترة في آن واحد، فما كاد صلاح الدين يفيق من الحلم المزعج بالخطر الذي كان يتهدده من قبل الألمان من الشمال حتى أتته طلائع الإمداد العظيم الذي أرسلته أوروبا مجتمعة.
وبدأ الحصار يشتد مرة أخرى بعد وصول هذه الإمدادات، وجعل الفرنج يقذفون أسوار المدينة بالمجانيق بقوة لم يسبق عهد بها، غير أن شجاعة المدينة لم تفل أمام هذه الهجمات العنيفة، فقد كان «بهاء الدين قراقوش» و«حسام أبو الهيجاء» بين العسكر يوقدون فيهم الشجاعة بأعمالهما وقدوتهما، فكان المدافعون يخرجون بين حين وآخر فيوقعون بالمحاصرين وقعات ذات شأن بين أسر وقتل ونهب، وكان الزراقون والنفاطون دائبين على الدفاع بالنيران بهمة تعادل همة المحاصرين في قذف المدينة من الخارج.
وقد ظهرت شجاعة الجانبين جليا في آخر ذلك الدور، وإذا كان لا بد من التمييز بين الجانبين فلا بد من تمييز المحصورين؛ لما بذلوه - في شدتهم - من التفاني في الدفاع والصبر، وكان من الأفراد من يبذل جهدا خارقا للعادة في أدء واجبه، فكان بعضهم يعوم من المدينة مخترقا صفوف السفن الفرنجية إلى أن ينفذ إلى صلاح الدين فيحمل إليه الأخبار ويعود بعد ذلك يحمل ما يراد منه أن يحمله من رسائل أو من أموال يشدها حول جسمه ليمد بها المحاربين. وإذا كان بين عامة الأفراد أبطال لا يسميهم التاريخ فقد سمى التاريخ بطلا من عامة أهل عكا أبلى بلاء عظيما في أثناء ذلك الدور حتى قضى نحبه وهو يؤدي واجبه؛ وذلك هو عيسى العوام، واشتد الحصار بعد ذلك اشتدادا أعظم حتى صار التراسل غير ممكن إلا بالحمام الزاجل بين المدينة وجيش صلاح الدين، ولكن مع هذا أمكن السلطان أن ينفذ إلى المدينة بعض السفن بين حين وآخر محملة بالمؤن التي أصبحت المدينة في أشد الحاجة إليها، ولكن كان دخولها المدينة بعد مشقة عظيمة؛ إذ كانت قوة الفرنج في البحر قد زادت بما انضم إليها من إمداد أوروبا. ولعل الذي كان يمكن سفن المسلمين من دخول الميناء أنه كان هناك عند مدخلها برج عظيم اسمه برج الذباب مبني على الصخر يحرس الميناء، فإذا عبرته المراكب أمنت غائلة العدو، فلما رأى الفرنج قيمته الحربية جعلوه همهم، ودارت حوله معركة عظيمة بذل فيها الجانبان مجهودا كبيرا، ولكن الفرنج عجزوا عن أخذه. وفي أثناء حصار برج الذباب وصلت بقية جيش الألمان بقيادة «المركيش» صاحب صور و«دوق سوابيا» ابن ملك الألمان، فزاد القتال شدة، واستمر هذا النضال بعد ذلك شهرين طويلين ظهرت فيهما نفس صلاح الدين وثباته رغم مرضه بحمى صفراوية، وقد تفشى المرض في الجيش للوخم الذي أصاب الهواء بقرب عكا من كثرة القتلى، ولكن عزيمة صلاح الدين كانت لا تفل، وقد نصحه ناصح أن يترك الميدان لما فيه من الخطر ثم يعود إليه بعد ذلك، فتذكر السلطان الحازم خطأه السابق إذ انصرف عن العدو في الدور الأول، وقال لناصحه: «إذا كان لا بد من الموت فليكن؛ فهو علي وعلى أعدائي.»
ثم تمثل وقال: «اقتلاني ومالكا واقتلا مالكا معي.»
وجعل صلاح الدين يحتال على عدوه بتدبير الكمائن والهبوط عليه بين حين وآخر، ولكن لم يجده ذلك، وهجم الشتاء قبل أن يستطيع رفع الحصار عن المدينة. وهكذا اضطر أن ينصرف بقلب ثقيل عن المدينة، وجعل يصرف جنوده للراحة مدة الشتاء وهو يشعر بأن المدينة قد حان أجل تسليمها. وقبل الرحيل انتهز فرصة هياج البحر وذهاب أكثر سفن الفرنج من تجاه ميناء عكا لاجئة إلى الشاطئ، فأدخل إلى المدينة جماعة من الجنود والأمراء بدل من فيها ممن طال عليهم الدفاع واشتد التعب، وأدخل معهم ما تيسر من المؤن والذخائر، ولكن لم يكن الإقبال على دخول البلد كثيرا؛ ولهذا لم يدخل من الأمراء والجنود عدد يعادل من خرج منها.
ولسوء حظ المدينة لم تستطع السفن الآتية من مصر بالمؤن أن تدخل إليها؛ وذلك لشدة هياج البحر، فغرقت وتكسرت وكان لذلك أثر كبير في نفوس من في المدينة، وسيكون أثر هذا أعظم بعد انقضاء الشتاء وعودة القتال واشتداد الحصار؛ فإن المدينة ستدخل على الدور الثالث من الحصار وليس بها من المدافعين ولا من المؤن ما يقيمها أمام هجمات عدوها العنيفة. (25) الدور الثالث للحصار
Неизвестная страница