فلما قعدا قال نجم الدين: «سرني يا يوسف ما رأيته من منزلتك عند هذا الرجل. ولكنني رأيتك لا تحترمه كثيرا وهو يرى نفسه خليفة وملكا.»
فضحك صلاح الدين وقال: «هل يخيفك يا أبي أن يرى نفسه كذلك ونحن نعلم أنه أسيرنا وصنيعنا؟»
فقطع نجم الدين كلامه قائلا: «ولكن الأمر لم يتم لنا بعد، فلا ضرر من المجاملة ومراعاة العادات الجارية. على أنني أراك من الجهة الأخرى تحاذر غضب رجاله وأنصاره رغم ما يأتيك من لدن نور الدين في أمر البيعة والدعوة للخليفة العباسي.» قال: «وكيف ذلك يا أبت؟» قال: «ألم نكتب إليكم منذ عام أن تدعو للخليفة العباسي على منابر القاهرة. ولماذا هذا التأخير؟»
فأطرق صلاح الدين لحظة وقد ظهر الاهتمام في محياه، ثم رفع بصره إلى أبيه وقال: «تدعوني إلى المجاملة ثم تعاتبني على تأخير الدعوة. وليست تلك الدعوة إلا إعلان سيادة العباسيين على مصر وسقوط دولة الفاطميين. ولا يخفى عليك ما يكون من تأثير ذلك في نفس هذا الخليفة المسكين. وما الذي يهمنا من مصر غير أن يكون لنا فيها الكلمة النافذة والصوت المسموع والريع المطلوب؟ لنترك هذا الخليفة الشاب يفرح بألقاب الخلفاء ومجاملاتهم حتى نرى ما يأتي به القدر. إن إعلان سيادتنا على مصر أمر ميسور متى شئنا. وعهدي بك أنك تحب التؤدة.»
قال: «نعم يا بني، ولكن نور الدين يلح في ذلك، وقد وعد الخليفة العباسي المستنجد بالله أن يدعو له على منابر مصر. فلما تأخرت الدعوة بعث الخليفة إليه يستبطئه فكتب نور الدين إليك خطابا يستحثك فيه على ذلك. وقد أوفدني لتبليغك هذه الرسالة، وهذا هو كتابه.» ودفعه إليه.
فتناول صلاح الدين الرسالة، وقرأها، وأكثر من الإمعان في فحواها ولا سيما قوله بعد التحريض على إعلان الدعوة: «وهذا أمر تجب المبادرة إليه لتحظى بهذه الفضيلة الجليلة والمنقبة النبيلة قبل هجوم الموت. ولا سيما أن أمام الوقت متطلع إلى ذلك بكليته وهو عنده من هم أمنيته.»
وأطال صلاح الدين النظر في ذلك الكتاب، وأبوه يراقب ما يبدو في وجهه من التغيير وقد أدرك ما في خاطره فقال: «ما بالك يا يوسف، وما الذي تحدثك نفسك به؟»
قال: «تحدثني نفسي بأمر لا تجهله يا سيدي.»
قال: «لا بد من إعلان الدعوة العباسية، هل ذلك صعب عليك؟»
قال: «كلا. ولكنني أراك تتجاهل أمرا آخر أضمره.»
Неизвестная страница