وكان قد شعر بارتياح إلى تلك الحورية لحسن أدبها وكثرة ما بذلته في سبيل استرضائه واجتذاب قلبه، وهو شاب في مقتبل العمر، فغلب على اعتقاده أنه في جنة أو مكان يشبه الجنة جاءه بكرامة أو معجزة من معجزات راشد الدين، وأوشك أن يشتغل عن سيدة الملك. فلما سمع ذلك الصوت توهم أنه صوت ضميره يناديه بالثبات على حب حبيبته فلا يشتغل عنها بسواها، فأحس بانقباض، وود الخروج من ذلك النعيم.
وفيما هو يفكر في ذلك لا يلتفت يمينا ولا شمالا سمع وقع خطوات غير خطوات رفيقته فالتفت فرأى غلاما كالبدر طلعة وبهاء قد تمنطق بمنطقة من الخز أرسل جانبا منها إلى الأمام كالمئزر، وأرسل شعره ضفائر ذهبية وعليه ثوب سماوي اللون، فلما دنا من عماد الدين انحنى انحناء الاحترام وقال بصوت رخيم: «ألا يتفضل المولى لتناول الغداء؟»
فالتفت إلى رفيقته كأنه يستزيدها بيانا فابتسمت له قائلة: «تفضل يا مولاي إلى الطعام فقد آن وقت الغداء.»
وكان في شغل عن الطعام، فلما ذكر له أحس بالجوع. فمشى في طرقة مسواة كأنها فرشت بالزعفران يحف بها من الجانبين سياج من الأزهار الجميلة، ينتهي في آخره بباب كباب القصر الفخم. وقبل الوصول إلى الباب فاحت روائح الطعام الشهي مما لم يعرف مثله إلا في قصور الفاطميين في أثناء الأعياد. ولما اقتربوا من ذلك الباب فتح بنفسه، وتقدم غلامان آخران يرحبان بالقادم ومشيا بين يديه من باب إلى باب حتى وصل إلى غرفة المائدة وهو يلتفت إلى الجانبين، وقد أدهشه ما على جدران الممرات من الستائر المصورة تمثل البساتين والقصور ومواقف البذخ والرخاء، وتلفت النظر وتجتذب القلب. وأما غرفة المائدة فقد ذهبت برشده وأوقفته موقف الحيرة ونسي مكانه لأن جدرانها الأربعة مكسوة بالمرايا على طول الحائط. فيظهر الشخص الواحد عشرات من المرات من كل جانب.
فتقدمت الفتاة أولا وأشارت إلى عماد الدين أن يتفضل فجلس على مقعد مغشى بالديباج المزركش، وبين يديه مائدة مكسوة بملاءة من الحرير الوردي، ولم تمض دقائق قليلة حتى تواردت الأطباق وعليها الألوان من اللحوم والفاكهة. وجلست تلك الحورية بجانب عماد الدين وهي تلاطفه وتقدم له اللقمة بعد اللقمة وتبالغ في إكرامه، والغلمان وقوف بين أيديهما للقيام بالأوامر، فعاد عماد الدين إلى نسيان سيدة الملك وقد سحرته تلك الفتاة بجماله ولطفها. ولا سيما بعد أن دارت الأقداح وفيها الخمور اللذيذة، فأصبح لا يعرف غير تلك الساعة وقام في ذهنه أنه في النعيم الحقيقي.
ولما رأت الفتاة ميله ورضاه أخذت في الإعراض عنه وهو يزداد شغفا، وقد زادته الخمور اندفاعا حتى أصبح يتزلف إليها ويغازلها وهي تتمنع فلما تحققت افتتانه بها قالت: «لا تخرج عن حدك، فأنت إنما جئت إلى هنا على سبيل التجربة. وليس الوصول إلى ما تطمع فيه سهلا. إن من دونه بذل النفس في طاعة الإمام الأكبر.»
فشق عليه هذا الإعراض لكنه زاد افتتانا وقال: «قد كنت منذ هنيهة تتقربين وأنا أبعد فهل كنت تخادعينني؟»
قالت: «كلا، ولكن لا بد أن تأتي عملا يؤهلك إلى المقام في هذا النعيم دائما، وعند ذلك أكون طوع إرادتك، وإذا خاطبت الأطيار أجابتك، وتجد النعيم الحقيقي من كل شيء. وليس ما تراه إلا مثالا صغيرا من ذلك النعيم فعسى أن تعمل عملا يؤهلك لبلوغه. والحق يقال إني فتنت بجمالك وبسالتك، وشعرت نحوك بما لم أشعر به قبلا نحو أحد. ولكنني لا أقدر أن آتي أمرا يخالف رضا مولانا، ولا أقدر أن أخفي عليه شيئا؛ لأنه فاحص القلوب يطلع على خفايا السرائر، ولكنني تأكيدا لعلائق المودة بيننا أدهن شعرك بطيب خاص بي.» قالت ذلك واستخرجت علبة من بين أثوابها فتحتها ففاحت منها رائحة لم يشم مثلها في حياته. فأخذت بعض الطيب ودهنت به يديه وشعره. فلذ له ذلك وطابت نفسه. ثم قالت : «احفظ هذه الرائحة تذكارا بيننا حتى نلتقي اللقاء الدائم إن شاء الله.» وبان الإعجاب في عينيها فازداد هو تهيبا من ذلك الشيخ العجيب، فسكت.
وبعد الفراغ من الطعام والشراب أحس عماد الدين بميل إلى النعاس فتوسد فراشا من الحرير المحشو بريش النعام وتلك الحورية إلى جانبه تداعبه وتعرض عنه، ولم تمض دقائق قليلة حتى غلب عليه النوم واستغرق في رقاده.
وأفاق في اليوم التالي فإذا هو في قاعة راشد الدين كما كان من قبل وعليه الثوب الأبيض وشعره محلول. فجعل يتلفت يمينا وشمالا وينظر في ثوبه فتبادر إلى ذهنه أول وهلة أنه رأى حلما. ثم ما لبث أن شم رائحة الطيب في شعره ويديه فلم يبق عنده شك أنه رأى ما رآه حقيقة. وانتبه بعد قليل لنفسه فرأى راشد الدين جالسا كما تركه، ورأى صديقه عبد الرحيم بجانبه. فهش له وضمه إلى صدره، فقال له عبد الرحيم: «إن رائحة الجنة تنبعث من شعرك، هنيئا لك وعسى أن يتاح لك النعيم الدائم. قم واجث عند قدمي مولانا وقبل ركبته وادع بطول بقائه.»
Неизвестная страница