فأخذ عبد الرحيم ورقا وكتب توصية إلى الشيخ دبوس نائب شيخ الجبل، فتناولها عماد الدين وودعه وركب جواده قاصدا جبل السماق. وهو جبل عظيم من أعمال حلب يشتمل على مدن كثيرة وقرى وقلاع كلها للإسماعيلية، وفيه بساتين ومزارع، لكن المياه الجارية فيه قليلة إلا ما كان من عيون ليست بالكثيرة في مواضع خاصة، ومع ذلك تنبت فيه جميع أشجار الفواكه وغيرها حتى المشمش والقطن والسمسم.
وقد اشتهر جبل السماق بالقلاع التي فيه لطائفة الإسماعيلية، وهي عديدة أشهرها مصياف وكهف والخوابي وعليقة ومرقب والرصافة وغيرها، ويهمنا هنا مصياف وفيها يقيم زعيم الإسماعيلية راشد الدين وهي على مسافة 12 ساعة غرب حماة. •••
وقد اشتهرت هذه القلعة في زمن الإسماعيلية بإقامة شيخ هذه الطائفة فيها وهي واقعة على جبل مصياف، وهو جبل شامخ يحيط به من الشرق والغرب مستنقعات واسعة، وينتهي من الشمال بقمة عالية فوقها قلعة منيعة هي مقر شيخ الإسماعيلية. ومن أسباب مناعتها أنها قائمة على صخر جوانبه عمودية يعسر تسلقها. وتشرف على ما يحيط بها من المستنقعات من كل ناحية، ومن جملة ذلك واد يقيم فيه بعض الفلاحين يزرعون الحنطة والشعير. وعلى مسافة من الجبل بلدة مصياف يسكنها طائفة من العامة.
أما القلعة فإنها محاطة بسور سميك ليس له إلا باب سقفه عقد متين، إذا دخل الرجل منه سار في ممر كله معقود يصل من الداخل إلى قمة القلعة وما وراءها وفوقها من الغرف، وكلها مبنية من الحجر الصلد. وعلى السور أبراج متلاصقة تقيم بها الحامية ترمي الهاجمين عليها بالسهام أو الحجارة قبل وصولهم إلى الباب بمسافة بعيدة بحيث يستحيل أخذها بالهجوم إلا بعد قتل المئات والألوف.
برح عماد الدين بيت المقدس على جواده، وكان يعرف عدة طرق إلى جبل السماق، لكنه أحب أن يمر بدمشق مرتع صباه، وقد اشتاقت نفسه إلى رؤيتها ومشاهدة بساتينها، فوصل إليها بعد بضعة أيام. وكان وصوله قبل وصول أبي الحسن بيومين، وظل متنكرا لم يطلع أحدا على حقيقة حاله. لكنه طاف المدينة وزار القلعة وشاهد كثيرين ممن يعرفهم. واتفق رجوع السلطان نور الدين من الميدان فرآه عائدا على جواده وحوله الأمراء والأعوان ففرح برؤيته، ولكنه بذل جهده في التنكر لئلا يشعر به أحد وهو يعلم ما بين نور الدين وصلاح الدين من الفتور ويود زواله، لكنه يميل أن يكون مولاه صلاح الدين هو الرابح.
قضى معظم النهار في دمشق، فأكل من طعامها وفاكهتها وتمتع بمناظرها، ومر عند خروجه بغوطتها، ولعله مر في نفس المكان الذي اجتازه أبو الحسن بعد يومين. وبات في تلك الليلة في قرية بضواحي دمشق. وقام في اليوم التالي قاصدا جبل السماق، وبات الليلة الثانية في بعض الخانات، وقضى معظم اليوم التالي في الطريق. وكان في إمكانه الوصول إلى مصياف في أصيل ذلك اليوم لكنه فضل الوصول إليها في الصباح التالي.
فبات في بعض القرى وركب في الصباح، وبعد ساعتين أطل على جبل مصياف وعلى قمته القلعة تناطح السحاب، فهاله ما رآه من مناعتها ورسخ في اعتقاده أنها أمنع من عقاب الجو. ترجل هناك فجاءه شيخ من الفلاحين يعرض عليه خدمة يؤديها، وقد ظنه من كبار الإسماعيلية وهم يعهدون فيهم الشدة والقسوة. وكثيرا ما شهدوا القتال بينهم وبين من جاء لمهاجمتهم من الجنود الشامية أو الجبلية أو المصرية، فضلا عما يتناقلونه من كرامات الشيخ راشد الدين وهم يلقبونه بشيخ الجبل أسوة بالحسن بن الصباح مؤسس هذه الطغمة. حتى أوشكوا لفرط ما استولى عليهم من الاعتقاد بكرامته ألا يحدث حادث غريب مخيف إلا نسبوه إليه ولو كان من العوارض الطبيعية كالمطر والرعد والبرق، وأصبح فزاعة لأعدائه وتعويذة لمريديه.
وكان هم عماد الدين عند وصوله أن يلقى الشيخ دبوس ويدفع إليه كتاب التوصية الذي يحمله من عبد الرحيم، فلما جاءه ذلك الفلاح الشيخ سأله عماد الدين عن راشد الدين أين هو.
فأجفل الرجل وتفرس في عماد الدين وقال: «يظهر أنك غريب عن هذه الديار يا سيدي؟» قال: «وما الذي جاء بك إلى هنا؟ وماذا تريد من شيخ الجبل؟» قال: «إني أحمل كتابا إلى نائبه الشيخ دبوس.» قال: «دبوس؟! ظننتك تطلب الشيخ راشد الدين نفسه، فإنه لا يطمع أحد في رؤيته. حتى أصحابه وأعوانه إنهم لا يرونه إلا في بعض الأحوال الخاصة.»
فقال عماد الدين: «ومن أنت يا عماه؟ لعلك من رجاله؟»
Неизвестная страница