ففي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية يقال لهم بلسان الرب: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي الإصحاح التاسع من سفر نحميا أنهم «أعطوا كتفا معاندة، وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا».
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر أرميا أنهم «قسوا أعناقهم لئلا يسمعوا ولئلا يعقلوا».
وفي أعمال الرسل أنهم غلاظ الرقاب. وفي غير هذه الكتب إجماع على غلظ رقابهم، وشكاستهم، وامتناع الوفاق بينهم. وهذه هي الآفة التي لا تفارقهم في دولتهم الجديدة، وما فارقتهم قط في دولتهم الغابرة، حتى قضوا عليها قبل أن يقضي عليها أعداؤها. وقد جروا على أنفسهم الاضطهاد في كل بقعة وفي كل عصر. وبين كل قبيل، فليس من المعقول أن تكون العلة في غيرهم، وليس للأمم من حيلة معهم إلا أن تخضعهم آخر الأمر أو تخضع لهم برمتها، وإنه لهو المستحيل بعينه على كل فرض من الفروض، وإنما آفة القوم الكمينة فيهم أنهم كائن ممسوخ من الوجهة الاجتماعية؛ لأنهم جماعة مقتضبة لم تصبح أمة، ولم ترجع إلى نظام القبيلة البدوية، واشتبكت مع العالم وهي في مرحلة غير نامية وغير صالحة للنمو على حدة، فكل علاج لها ميئوس من جدواه، ما لم يغلبها العالم على طبيعتها ويدمجها اضطرارا في طوية أممه، وسوف يكون ذلك لا محالة؛ لأن غيره لن يكون.
الفصل الثاني
الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
منذ القرن الأول للميلاد لم يطرأ على «الصهيونية» شيء جديد قبل القرن التاسع عشر، فكل ما عرفه اليهود عن الصهيونية في عصر السيد المسيح بقي كما في القرون الوسطى وفيما تلاها من قرون النهضة والإصلاح إلى أوائل القرن التاسع عشر؛ أي إلى القرن الذي يصح أن يسمى في وقت واحد بعصر الثورة، وعصر الاستعمار، وعصر الصناعة الكبرى، ولكل صفة من هذه الصفات علاقة باليهودية لا تخفى على النظرة العاجلة، ولكنها تستحكم وتتغلغل في جميع الجوانب بعد إنعام النظر إليها.
كان اليهود يعيشون في أرجاء الدولة الرومانية بين أناس يخالفونهم في العقيدة، وكانوا يعزلون أنفسهم عن المجتمع باختيارهم، وينشئون في أنحاء الدولة مراكز متفرقة للمعاملات التجارية، وشئون الصيرفة، ومبادلة السلع والنقود، ولكنها متفقة فيما بينها على قصد وعلى غير قصد لانعزالها في كل بقعة على حدة، فإذا سافر اليهودي من الإسكندرية إلى روما علم قبل سفره أن هناك بيئة مماثلة لبيئته، يذهب إليها ليستعين بها على عمله، ويشترك معها وبإرشادها في استغلال من حوله. وكان هذا الاستغلال بطبيعته سببا لنقمة الفقراء والأغنياء في وقت واحد، فكان اليهود عرضة لغضب المعوزين كما كانوا عرضة لغضب المدينين وأصحاب المحصولات الزراعية من الضياع الواسعة، وبخاصة في إبان الأزمات والحروب الخارجية والأهلية، وقد كانت تتعاقب على كثرة من قبيل انهيار الدولة الرومانية.
وكلما كثرت الحروب وضح لأبناء الأمم المختلفة أن هذا الشعب المسمى «اليهود» متفق عليهم، متفاهم فيما بين أبنائه على ابتزازهم واستباحة أموالهم وأرزاقهم؛ لأنه يعتزلهم كافة بمجتمعه في كل بقعة، ثم يرتبط بالمعاملة بينه وبين أبنائه في المعسكرات المتقاتلة، ولا ينظر اليهودي إلى زميله نظرة العداء والمقاطعة، وإن قطعت الحروب والفتن بين البلدين.
ودانت أمم الغرب بالمسيحية شيئا فشيئا فلم تتغير هذه الحالة، بل جد عليها سبب مفهوم، للتقاطع بين اليهود والمسيحيين، وهو عداء اليهود للسيد المسيح، فعاش اليهود في عزلتهم، وتعرضوا من جراء هذه العزلة لتهم كثيرة وشبهات أكثر، حتى شاع عنهم في أيام الوباء أنهم هم الذين يسممون الماء والطعام.
Неизвестная страница