وبدأت جريدة الموصل تشيد بالأدباء الموصليين وتبرز آثارهم، وفيهم من لم يعرفهم عالم الطبع والنشر قبل ذلك نظير أحمد الفخري الشاعر، ومع أن «الموصل» لم تحتفظ بهذا الرونق الأدبي، بعد أن تركها محررها عائدا إلى بلده بيروت محتفظا بذكريات طيبة واطلاع على أحوال العراق، نثره في مقالات مفيدة في «الهلال» ومجلة الكلية البيروتية وغيرهما؛ فقد عاشت حتى إذا أنشئت جرائد أهلية في تلك الحاضرة، ووجدت جريدة الدولة الرسمية «الوقائع العراقية» التي تكفلت سهولة المواصلات الحديثة بتوزيعها في أنحاء القطر في وقت قصير، لم تجد الحكومة مبررا لبقاء جريدة رسمية خاصة في الموصل فأوقفتها سنة 1934.
في حلكة الحكم العسكري لقوات الاحتلال خنقت الحرية الفكرية، وحالت دون صدور أية جريدة سياسية غير الجرائد الرسمية، ويعتبر محمد مهدي البصير في كتابه «تاريخ القضية العراقية» هذه الظاهرة من أخطاء حكومة الاحتلال. وقد حلل هذا الخطر «بأن مصادرة حرية الصحافة في العراق وجه رغبة العراقيين إلى قراءة الصحف السورية والمصرية الحرة، وكانت حافلة يومئذ بالحملات على سياسة أوروبا، مفعمة بأنباء التطورات السياسية في مصر والشام فعادت هذه السياسة على حكومة الاحتلال بالخسران، بينما أرادت بعملها الكسب السياسي.»
ثم هبت على الشعب العراقي نشوة انتعاش وتطلع بعد أن انفض مؤتمر الصلح في باريس عن «معاهدة فرساي». وقد حركت أفكارهم وعود الحلفاء وعهودهم وخطب رجالاتهم ومناشيرهم، وفي مقدمتها منشور الجنرال مود على أهل بغداد عند فتحها بجنوده الملونين، وينص فيه على أنهم جاءوا محررين لا فاتحين، ودعوة الرئيس ولسن الأمريكي التحريرية ومواده الأربع عشر المزعوم أنها وضعت لتخليص الإنسانية من الاستعباد، كما طفق الضباط العراقيون يعودون إلى مواطنهم وبينهم من اشترك في الثورة العربية، وكانت تلهب الأذهان على شطآن دجلة والفرات الصحف العربية التي تحملها برد الجيش البريطاني نفسه وتوزعها هنا وهناك في بغداد والحواضر، بينها جريدة «القبلة» لسان الملك المنقذ في الحجاز المتدفق بالحماسة للثورة، و«المقطم» و«الكوكب»، وكان «المكتب العربي» الذي أنشأه الإنكليز في القاهرة يغذيهما بالمقالات الرنانة في تحبيذ ثورة الحجاز، ووصف مظالم العثمانيين والإشادة بيقظة العرب وحقوقهم في الحرية والاستقلال، دعاية صاخبة منظمة حشدت لها الرءوس المفكرة في سبيلها، وأنفقت الأموال الضخمة.
يضاف إلى هذه البواعث قيام الحكومة العربية في الشام بعد أن احتلها جيش الخلاص بقيادة الأمير فيصل بن الحسين. وقد تولى الكثيرون من الضباط والمثقفين العراقيين مناصب خطيرة في حكومة الشام الجديدة، فلما كان يفد العشرات من هؤلاء الضباط والمدنيين على مسقط رءوسهم في أحياء بغداد ومرابع الموصل، كانت حقائبهم حافلة بصحف دمشق وهي تلتهب بوهج البعث القومي، في هذا الغليان السياسي أرادت حكمة إنكلترة أن تطوي صفحة الحكم العسكري الاحتلالي بحكم مدني بريطاني أيضا، ولكنها تلكأت في منح «حرية الصحافة» لأبناء الرافدين، فعند توقف جريدة «العرب» صدرت جريدة باسم «العراق»، ومنحت الحكومة الاحتلالية امتيازين آخرين لجريدتين؛ الأولى بعنوان «الاستقلال» والثانية باسم «الشرق». أما وجريدة الاستقلال من ألسنة الثورة التي سنتحدث عنها في المحاضرة الخاصة بصحافة «الثورة العراقية» فلأنجز بحث الصحافة في العهد الاحتلالي بعرض حياة الصحيفتين الأخيرتين، وهما جريدتان أهليتان مستقلتان.
جريدة العراق
إن جريدة «العراق» أقدم جريدة أهلية بعد الحرب الأولى، عاشت سنين وأشغلت حيزا في تاريخ الصحافة؛ فقد أذاعت جريدة العرب في العدد الأخير منها يوم 31 أيار (مايو) سنة 1920 هذا الخبر بعنوان «جريدة يومية جديدة»:
يصدر غدا العدد الأول من جريدة «العراق» وهي جريدة يومية تبحث في السياسة والأدب والاقتصاد، لصاحبها الوحيد رزوق داود غنام، وهذا العدد من جريدة العرب هو العدد الأخير ...
وحيث لم يكن ميسورا الحصول فورا على مطبعة جديدة عهدئذ فقد ساعدت الحكومة هذا الصحافي مؤقتا بالمطبعة التي كانت تطبع لها «العرب»، وهي في أصلها مطبعة جريدة «الزهور» التي صادرها الجيش المحتل، ولا سيما أن مؤسس العراق كان يشتغل في قسمي الإدارة والتحرير في جريدة «العرب»، وهو ممن اعتنقوا الفكرة القومية في العهد العثماني وعملوا في «النادي العلمي الوطني» في بغداد، فتعرض لغضب العثمانيين فنفي في خلال الحرب كما ذكرت.
برزت «العراق» في 1 حزيران (يونيو) سنة 1920 تعالج السياسة والاقتصاد والأدب بلسان عربي فصيح، وأخذت في خدمة الصحافة بالتحسين الذي تؤاتيه الظروف، ومع أنها كانت تؤيد السياسة البريطانية بوجه عام فلم تكن تهمل واجبها كجريدة تشعر بالضمير الصحافي، وتعزز النزعة الوطنية بطريقة إيجابية معتدلة مما أكسبها رضا كثير من السياسيين، بحيث صاح محمد مهدي البصير «لتحي جريدة العراق»، بينما كان يخطب في أحد المهرجانات الثورية في جامع الحيدرخانة في ليلة من ليالي بغداد البيض، تحت سماء الكفاح النبيل، وفاضت أنهر العراق من بدايتها ببحث الشئون العربية لجميع أقطارها وأيدت دعوة الملك حسين وأنجاله، وشادت بزعامة البيت الهاشمي بلهجة حارة واهتمت بالأمور الاقتصادية، ومهدت في مقالاتها وتنوع أبوابها لأن تقوم المملكة على كيان مكين في مفهوم الدول العصرية.
ومع أنها تنشر بأربع صفحات؛ فقد عنيت بالنواحي الثقافية والاجتماعية إلى حد كبير، وصدرت أعداد سنوية ممتازة في مطلع حياتها، فجاء علمها في ذلك الحين نواة النهضة الأدبية التي انعقدت براعيها في الحقل العراقي بعد الحرب. وقد كتب فيها غير محررها رفائيل بطي وشكري الفضلي وحسن غصيبة وعطا أمين وسلمان الشيخ داود ومحمد عبد الحسين وعطا عوم وغيرهم، وحاولت مرة في عهدها الأخير أن تجعل صفحة باللغة الإنكليزية فيها فلم تنجح فكرتها فأقلعت عنها، وبقيت تصدر إلى أن أوقفها صاحبها باختياره قبل ما يزيد على عشر سنوات.
Неизвестная страница