وفي عام 1863 توفي المغفور له سعيد باشا فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا، وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوئه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع، وتشييد الأبنية وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها، مما سيأتي تفصيله غير مبال بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.
ساكن الجنات إسماعيل باشا بملابسه الرسمية (ولد سنة 1830م، وتولى سنة 1863م، وخلع سنة 1879م ، وتوفي سنة 1885م).
ساكن الجنات إسماعيل باشا بملابسه الملكية.
وكانت ولاية مصر تنتقل من العائلة الخديوية إلى من يختاره جلالته بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق، وكان ولاة مصر يلقبون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لقبوا أحيانا بالخديوي فإنما يكون ذلك على سبيل التجمل والتفخيم. أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوية، فأصبحت ولاية مصر إرثا صريحا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده، ومنه إلى أكبر أولاده وهكذا على التعاقب. وذلك بناء على نص الفرمان الصادر في 12 جمادى الأولى سنة 1290ه أو 8 يوليو سنة 1873م، وقد امتاز سمو إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله. بأنه حبب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوربا وأميركا وغيرهما بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة، مع الأخذ بناصرهم وتأييد مشروعاتهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجا وأقاموا فيها على الرحب والسعة لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.
وفي عام 1869م احتفل إسماعيل باشا بافتتاح قناة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد سعيد باشا. فحضر ذلك الاحتفال جميع ملوك أوربا أو من يقوم مقامهم، وكان له رنة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة لما أعده إسماعيل باشا من وسائل الزينة، مما قد تقصر عنه همم الملوك العظام. وفي هذه الأثناء بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة؛ لتكون مسرحا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل. وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء، فبذل الدراهم والدنانير فلم يمض خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهد الآن. وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوربا العظمى.
ومما اختص به سموه من الشرف العظيم دون سواه من الولاة، أن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حلت ركابه في القطر المصري في السنة الأولى من ولاية إسماعيل فلاقى ترحابا عظيما.
وفي سنة 1872م تعدى الأحباش على حدود مصر مما يلي بلادهم وأسروا بعضا من رعايا مصر، فبعثت الحكومة المصرية بطلب ردهم فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرد فيها إسماعيل باشا حملة نال على أثرها الصلح، وفي سنة 1873م شخص رحمه الله إلى دار السعادة فاحتفل بقدومه فعاد وقد حاز رضى الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني. وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة وهم المرحوم توفيق باشا الخديوي والبرنس حسن باشا والمرحوم السلطان حسين الأول احتفالا واحدا تحدث به الناس زمنا طويلا، ومما زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذ رتبة الوزارة الرفيعة معا.
ولنأت الآن إلى أمر هو أهم الأمور المتعلقة بالخديوي إسماعيل، وعليه مدار ما آل إليه أمره نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه. وإيضاحا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري. فأول من وضع جرثومته المرحوم سعيد باشا سنة 1892م، وقدره الاسمي «3292890» جنيه بفائدة 7 في المائة. وفي السنة التالية تولى إسماعيل باشا الأريكة الخديوية، فأخذ في البذل والنفقات في التشييد والبناء وتوسيع الشوارع وإقامة الحدائق وغير ذلك، حتى زادت النفقات على دخل البلاد، فبلغت الديون نحو مائة مليون جنيه حتى آل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون، فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سموها لجنة صندوق الدين العمومي صدر الأمر العالي بتشكيلها في 2 مايو سنة 1876م، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أنشئ لتأمين أرباب الديون على ديونهم، واستلام ما يستحق لهم من الفوائد وغيرها. وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدين. وأن الدعاوى التي يتراءى لصندوق الدين رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.
وكانت الديون المصرية قسمين: دين الحكومة ودين الدائرة السنية، فضموها في 7 مايو من تلك السنة إلى دين واحد فبلغ قدره 91 مليون جنيه، وسموه الدين الموحد بفائدة 7 بالمائة ويتم استهلاكه في 95 عاما، ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيده على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في 18 نوفمبر منها أمرا يقول فيه: أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ 17 مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدة المصرية، وميناء الإسكندرية وفائدته 5 بالمائة وسماه الدين الممتاز.
على أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الدين حسب الشروط، فعينت الدول عام 1878 لجنة مالية مختلطة لمراقبة حسابات الحكومة المصرية، فرأت فيها عجزا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة، وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تعرف بأملاك الدومين، وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين ونصف، وجعلوا أملاك الدومين رهنا لها، وهذا الدين هو المعروف بدين روتشيلد.
Неизвестная страница