ولكن بدا أن مكالمة كهذه كانت ستمنحها سعادة لم تكن أي نظرة أو كلمة من أبنائها ستمنحها إياها، سعادة أكبر من التي يمكن أن يمنحها إياها أي شيء آخر ما بقي لها من عمر.
ثم هاتفت مايا قبل الساعة التاسعة. وبينما كانت تطلب الرقم، حدثت نفسها بأنه ثمة بعض الاحتمالات الأخرى التي يمكن أن تعقد آمالها عليها. فربما كان هاتف مايا خارج الخدمة مؤقتا، وربما كانت مايا مريضة الليلة الماضية، أو أن رايموند وقع له حادث سيارة في طريق عودته إلى المنزل من المستشفى.
تبخرت هذه الاحتمالات جميعها ما إن سمعت صوت مايا، الذي كان ناعسا (يبدو ناعسا) وناعما من أثر الخداع. «جورجيا؟ هل هذه جورجيا؟ آه، كنت أظن هذا رايموند. لقد اضطر إلى المكوث في المستشفى في حال اقتضى الأمر إجراء جراحة قيصرية لتلك المرأة البائسة المسكينة. كان سيهاتفني ...»
قالت جورجيا: «أخبرتني ذلك الليلة الماضية.» «كان سيهاتفني ... آه! جورجيا، كان من المفترض أن أهاتفك! تذكرت الآن. نعم. كان من المفترض أن أهاتفك، لكنني ظننت أن الوقت ربما كان متأخرا جدا. ظننت أن الهاتف ربما يوقظ الأطفال. فكرت أنه ربما يجدر بي أن أنتظر إلى الصباح!» «إلى أي مدى كان الوقت متأخرا؟» «ليس كثيرا. كان ذلك ما ظننته فحسب.» «ماذا حدث؟»
ضحكت مايا قائلة، مثل سيدة في مسرحية سخيفة: «ماذا تعنين ماذا حدث؟ جورجيا، هل أنت في حالة طبيعية؟» «ماذا حدث؟»
قالت مايا، وهي تئن متذمرة في رحابة صدر وإن بدا عليها بعض العصبية: «آه جورجيا.» وأردفت: «جورجيا، أنا آسفة. لم يكن الأمر ذا بال. لم يكن الأمر ذا بال على الإطلاق. لقد تصرفت بوضاعة، لكنني لم أقصد ذلك. عرضت عليه قدحا من الجعة. أليس هذا ما تفعلينه عندما يقود أحدهم دراجته البخارية إلى منزلك؟ تقدمين إليه قدحا من الجعة. لكنه قال متغطرسا إنه لا يشرب إلا الويسكي، وإنه لن يشرب الويسكي إلا إذا شربت معه. ظننته متعاليا إلى حد كبير، تصرفه كان متعاليا جدا. لكنني لم أفعل ذلك حقيقة إلا من أجلك يا جورجيا - كنت أريد أن أعرف ما يدور في خلده. لذا، أخبرته أن يضع الدراجة البخارية خلف المرآب، واصطحبته للجلوس في الحديقة الخلفية، حتى إذا ما سمعت صوت سيارة رايموند أستطيع تهريبه من الطريق الخلفي ويستطيع هو أن يسير بالدراجة البخارية في ذلك الزقاق. ليس في نيتي أن أبوح بشيء «جديد» لرايموند حاليا، أعني حتى لو كان شيئا بريئا، مثلما كان ذلك الأمر من البداية.»
وضعت جورجيا - التي كانت أسنانها تصطك بعضها ببعض - سماعة الهاتف. ولم تتحدث إلى مايا بعدها قط. طبعا ظهرت مايا على باب منزلها بعد فترة قصيرة، واضطرت جورجيا إلى السماح لها بالدخول؛ نظرا لأن الأطفال كانوا يلعبون في الفناء. جلست مايا في ندم إلى مائدة المطبخ وسألت عما إذا كان يمكنها التدخين. لم تجبها جورجيا. فقالت مايا إنها ستدخن على أي حال وإنها ترجو ألا تمانع جورجيا. تظاهرت جورجيا أن مايا غير موجودة. وبينما راحت مايا تدخن، أخذت جورجيا تنظف الموقد وتفكك قطعه ثم تعيد تركيبها. ومسحت الأسطح ولمعت الصنابير ورتبت درج أدوات المائدة. ثم مسحت الأرض حول أقدام مايا. كانت تعمل في سرعة وكد دون أن تنظر إلى مايا تقريبا. في البداية، لم تكن متأكدة مما إذا كان بإمكانها الاستمرار في ذلك. ولكن الأمر صار أيسر بعدها. فكلما ازدادت مايا جدية - أي كلما انتقلت من الأسف المتعقل، والاعتراف بالخطأ الممزوج بالسخرية، إلى ندم حقيقي يشوبه الخوف - ازدادت جورجيا عزما، وشعرت برضا قاس في قرارة نفسها. ولكنها حرصت على ألا تبدو عليها القسوة؛ إذ راحت تتحرك في المكان بخفة. وكانت تدندن تقريبا.
تناولت سكينا لإزالة الشحوم من بين قرميدات النضد المجاور إلى الموقد. كانت قد تركت الوضع يتدهور.
راحت مايا تدخن سيجارة تلو الأخرى، مطفئة إياها في أحد صحون الفناجين كانت قد تناولته بنفسها من خزانة الأطباق. وقالت: «جورجيا، هذا سخف شديد. أستطيع أن أؤكد لك أنه لا يستأهل كل هذا العناء. لم يكن في الأمر شيء. الأمر كله كان وليد الويسكي والظروف.»
وقالت أيضا: «أنا آسفة جدا. أنا في شدة الأسف. أعلم أنك لا تصدقينني. كيف أستطيع أن أشرح لك الأمر حتى تصدقيني؟»
Неизвестная страница