أما زينب فإنها تقاسي الآن العذاب المر من معاملة عزيز لها - كما تعلم - لأنه يحاول أن يستلب منها ثروتها استلابا قانونيا، وهي تزداد تمسكا بها؛ لأنها توجس منه شرا. هذه مجمل قصتي التي أسررتها إليك بغية أن تتعلم منها كيف تتقي مناظرك. - إنها لقصة هائلة يا عزيزي يوسف، وما كنت أظن هؤلاء القوم أشرارا إلى هذا الحد، ولكن هل تؤكد أن شاكر بريء؟ - من غير شبهة؛ لأني سمعت حديث السايس والحوذي القاتلين بأذني، ولا ريب أنهما صادقان في شهادتهما على أنفسهما - وهما في خلوة لا يعرف بهما أحد. - فإذا كان الأمر كذلك أظن - بل أرجح - أنه كان يمكن أن يبرأ شاكر لو بقي، وهربه أبقى التهمة ثابتة عليه؛ إذ لم يقم من يدافع عنه. - ولكن فراره كان أقرب إلى سلامته وأضمن. - أما أنا، فلا أدع لخليل مجالا بأن ينصب لي شركا؛ فإني سأجتهد أن أرضي حسين باشا، وإذا دبر لي مكيدة فأعرف كيف أسلم منها. ولكن لماذا لم يخطر لك أن تقوم شاهدا على حديث الحوذي والسايس؟ - لأني لجهلي الأصول القانونية خفت أن أقع تحت مسئولية أو أن يرتاب بشهادتي، وحينئذ رأيت أن الفرار أسهل طريقة، وقد نجحنا فيها - والحمد لله. - من تظن أنه قلد خط شاكر في تلك الرسالة؟ - أرجح أن ديمتري ألكسيوس وكيل دائرة عزيز باشا وأخيه هو الذي كتب الرسالة؛ لأنه جميل الخط الإفرنجي ويتفنن به كثيرا، فلا يبعد أن يكون هو الذي حاول في تلك الرسالة تقليد خط شاكر، ولما قابلت المحافظة الرسالة بخط شاكر في بعض الأوراق الرسمية التي كانت له في المحكمة المختلطة وجدتهما متشابهين جدا. - وكيف اتصل منديل شاكر بالمجرمين؟ - فهمت من كلام الحوذي والسايس أن ديمتري هذا هو الذي اختلس المنديل من جيب شاكر؛ لأنه كان يتردد عليه كثيرا في المدة الأخيرة، وكان أحيانا يتثاقل عليه ويماشيه ويتحبب إليه، وقد خطر لشاكر هذا الظن حين كنت أروي له حديث الحوذي والسايس، وأرجح أن ديمتري هذا هو الذي زور الرسالة واختلس المنديل. - ألا تظن أن زينب عرفت بهذه المكيدة بعدئذ أو خطرت لها؟ - لا أدري، ولكن الأرجح عندي أنها لم تخطر لها، وليس أحد سواي يعرف بخبر هذه المكيدة إلا الذين اشتغلوا بها. - مهما يكن الأمر فإني ألوم زينب لنكثها عهدها لشاكر في حياته، فكان خليقا بها أن تثبت على حبه حتى ينقذه الموت. - ولكن ماذا ترجو منه بعد أن فر بتهمة جنائية. - إذا كانت لا تعتقد بصحة التهمة فكان يجب أن تصبر إلى أن يأتي الفرج من عند الله، وإذا لم تر بدا من نبذه من فؤادها فليس من شرف النفس أن تتزوج بخصمه، وأظن أن العذاب الذي تقاسيه الآن هو عقاب خيانتها؛ ولا سيما أن أباها لم يرغمها. - إنك تظلمها يا حسن؛ لأني أعرف أنها أكرهت أخيرا إكراها على الزواج بعزيز؛ ولا سيما إذ احتج أهلها عليها بفرار شاكر من وجه تهمة القتل بعد ما كان مؤملها الوحيد. أما العذاب الذي تقاسيه الآن فسببه مجرد لؤم عزيز فإنه جامع لأقبح المساوئ؛ سكير مقامر فاسق، ولا يزال إلى الآن يساكن العاهرة الواحدة ويهجر الأخرى، وقد زاد شره هذا بعد زواجه كأنه كان متظاهرا بالرشد قبل الزواج بغية أن يرضي المرحوم حمدي باشا، وإني أؤكد لك أن حمدي باشا لم يرغب في تزويجه إلا اغترارا بأصله الرفيع وجاه أسرته، ولم ينظر إلى شخصيته بعين الاعتبار؛ فجنى على ابنته أعظم جناية، وعندي أنه لو زوجها رجلا أصغر من عزيز مقاما وجاها وأرقى عقلا وأدبا لفعل معها خيرا ورحمة، ولكن هذا الغلط يرتكبه الكثيرون من أهل بلادنا. - وهل يعد شاكر بك نظمي أوضع من عزيز باشا مقاما وجاها؟ - من غير بد؛ لأن أسرة عزيز باشا قديمة ولولا ميراث شاكر الطائل الذي جمعه أبوه وجده لكان خامل الذكر، ولكني لو كنت أبا زينب لفضلت شاكرا على مائة عزيز بقطع النظر عن ثروته. - أليس عزيز وأخوه غنيين؟ - لا تتجاوز ثروتهما معا الستين ألف جنيه الآن. - عجيب! أهذا فقط؟ - فقط كان يمكن أن تكون أضعافها الآن؛ ولكن السكر والميسر استنزفاها، وذلك الخبيث ديمتري المؤمن على دخلهما وخرجهما أضعفها أيضا حتى صارت له ثروة كبيرة من ورائهما.
الفصل السابع
كان يوسف بك رأفت وخليل بك مجدي في حانة نحو الساعة الثامنة مساء، ينتظران قدوم حسن أفندي بهجت؛ لكي يذهبوا جميعا إلى الكوميدي فرنسز، فاستبطآه، فقال خليل بك: هلم نسبقه فيوافينا متى جاء ولم يجدنا هنا. - لا يليق بنا أن نسبقه بعد ما وعدناه أن ننتظره هنا، وإذا سبقناه فلا يوافينا كما أؤكد؛ لأنه عزيز النفس جدا. - هبه لا يوافينا، فماذا يكون؟ - يكون أننا زغنا عن قاعدة الأدب. - إني لأتعجب منك يا يوسف بك؛ فإنك تعبأ بفتى مثل حسن في حين أنك لا تجهل أنه ابن رجل كان من حاشية حسين باشا عدلي، وعندي أنك باكتراثك بمثل حسن تحط من مقامك. - لست من رأيك يا خليل بك؛ لأنك تعتبر الأشخاص بالنظر إلى أصلهم وجاههم الدنيوي، وأنا أعتبرهم بالنظر إلى شخصيتهم وأهليتهم، نعم إن حسن ابن رجل من العامة، ولكنه سامي العقل والنفس، ولو كان في بيوت كبرائنا وذواتنا كثيرون مثله لكانت بلادنا في جملة البلاد الراقية.
فقزت نفس خليل بك واشمأز من هذا الموضوع وأحب أن يقفل بابه؛ لأنه من جهة لا يسلم به، ومن جهة أخرى لم يدع له يوسف بك مجالا للرد، فقال: لا يهمني حسن ولا سواه وأنت وشأنك معه، على أني أستعظم انتظار فتى كحسن، وماذا يضرنا لو سبقناه فلحق بنا. - إذا حان موعد قدومه ولم يأت جاز لنا أن نسبقه، وحق لنا أن نلومه على إخلافه. أما وميعاده لم يحن بعد فلا حق لنا أن نسبقه بعدما وعدناه أن ننتظره بل يحق له أن يلومنا. - وهبه لامنا فماذا يكون من أمره؟ - يجب أن نراعي إحساساته؛ لأنه إنسان ذو مقام معتبر مثلنا.
فتبرم خليل بك من هذا الكلام وسكت، وبعد هنيهة قال: الحق أقول لك: إني لا أستحسن علاقتك الودادية مع هذا الفتى؛ لأنك أرفع منه مقاما ولكنك حر فافعل ما تشاء.
وبعد هنيهة وفد عليهما حسن، فاستقبلاه - ولا سيما خليل بك - بالبشاشة والترحاب كأن لم يكن شيء من حديثهما السابق.
ولما حان الموعد ركبوا مركبة درجت بهم إلى الكوميدي فرنسز.
ولما كانوا واقفين لدى نافذة التذاكر يشترون تذكرة مقصورة ويدفعون ثمنها وافى رجل طويل القامة معتدل الجسم عليه كل دلائل النعماء والجاه والثراء، يتجاوز عمره الثلاثين ومعه فتاة لا تكاد تناهز سن المراهقة، ولكنها ممتلئة الجسم مفتولة العضل شفافة الطلعة صافية الرواء صبحة الملامح خصيبة الشعر. تقدم هذا إلى النافذة وطلب تذكرة مقصورة فقال له صاحب النافذة: إن تذاكر المقاصير قد نفدت ولم يبق إلا بعض الكراسي الأولى. فأحجم صاحبنا كأنه يأبى أن يحضر التمثيل إلا في مقصورة، وكان يوسف بك حينذاك لم يزل لدى النافذة يدفع ويقبض، وحسن وخليل بك إلى جانبه، ثم قال لبايع التذاكر: أما من طريقة للحصول على مقصورة ولو بضعف الثمن؟ فإني لا أستطيع الإقامة إلا في مقصورة لا لكبر مني، بل لأن أمرا خاصا يحملني على ذلك. - أتأسف يا سيدي على أنه ما من وسيلة لذلك، فلو سبقت بضع ثوان لكانت لك هذه المقصورة التي بيعت الآن.
فالتفت يوسف بك إليه وقدم له التذكرة وقال: «هل تشاء يا سيدي أن تقبل هذه التذكرة من رفيقي؟ فإنهما يقدمانها إليك بكل سرور ويكونان ممتنين لك بقبولها.» ونظر حينئذ يوسف بك إلى رفيقيه كأنه يطلب إليهما الموافقة على تقدمته والتأمين على قوله، فحنيا رأسهما معا، وقال حسن: تفضل يا سيدي بقبولها، وقال خليل بك: «لنا الشرف يا سيدي أن تقبلها.»
فقال الرجل: لا يليق بي أن أحرمكم ليلة أنس اجتمعتم لأجلها.
Неизвестная страница