وأمار بإرشاد وغي
ألا لهف الأرامل واليتامى
ولهف الباكيات على أبي
يقول: ما خشيت على هذا الرجل أن يصرع بين هذين الموضعين، أي إن يموت حتف أنفه، وإنما أخشى عليه جرائره وطعنه في الأحياء، ومحل الشاهد في أنه وصفه بأنه فتى، سهل الخلق وطي الجانب، يتناهى في الحلاوة، وإن استدعت الظروف، ويتناهى في المرارة إن استدعت الظروف، وأنه نافذ الإرادة، يأمر أحيانا بالرشاد، وأحيانا بالغي، وهذا الوصف بالصعلوك الخير أشبه.
غاية الأمر أن هذا السلوك يختلف باختلاف نظر الأشخاص، فبعضهم يرى هذا السلوك في العقل والحكمة، وبعضهم يراه في التلذذ بالحياة ما أسعفته، وبعضهم يراه في حفظ السر، وكل إنسان في الحياة يرى في نفسه المثل الأعلى في تصرفه. وهكذا كان يرى أبو نواس في تلذذه بالخمر والغلمان. وهكذا كان يرى أبو العتاهية في الزهد وترك اللذات، وهكذا غيرهما.
ولذلك لا نستطيع أن ندعي أنه في بداء الأمر كان في الجاهلية جماعة يسمون الفتيان واحدهم فتى، إنما كل ما في الأمر أن الكلمة تطلق على أفراد في كل قبيلة جمعوا مع الشباب صفة بينة من الصفات، قد تكون الكرم والنجدة، وقد تكون العقل والفصاحة. وقد تكون كتمان السر وقد تكون غير ذلك. وربما يجمعها أنها مجموعة صفات تحمدها قبيلة الفتى، فيتغنى بها ولا يخجل من ذكرها. وقد يكون هذا الشيء الذي يتغنى به الفتى فضيلة مثل حفظ السر والكرم، وقد يكون غير فضيلة في نظرنا كشرب الخمر والانغماس في اللذات، ولكن أقل ما تدلنا عليه أنها صفات محمودة من الشبان في نظر قبيلتهم.
ويظهر أن المعنى الأول - وهو الذي قصده طرفة - كان أكثر شيوعا، وأن الذي قصده زهير أو مسكين الدرامي كان أقل ذيوعا، لغلبة اللهو في الحياة الجاهلية العربية على حياة الجد.
كما يظهر أنه لم يكن هناك في الجاهلية نظام يتبعه الشبان، وإنما كان نواة نظام.
وقد التفت أبو الريحان البيروني في كتابه «الجماهر في معرفة الجواهر» لفتة لطيفة ودقيقة فقال: إن هناك فرقا بين الفتوة والمروءة.
فالمروءة تقتصر على الرجل في نفسه وذويه وماله، والفتوة تتعداه إلى غيره، والمرء لا يملك إلا نفسه، فإذا احتمل مغارم الناس وتحمل المشاق في إراحتهم، ولم يضن بما أحل الله له، فهو الفتى الذي اشتهر بالقدرة عليها. ولذلك عرف الفتوة بأنها بشر مقبول، ونائل مبذول، وعفاف معروف، وأذى مكفوف. فالبيروني كالذي قبله لا يهتم بغنى أو فقر في تعريف الفتى، وإنما يجعل عنصره شيئا واحدا وهو الإثار، وعلى هذا المعنى يكون الفتى والصعلوك من النوع الجيد مترادفين.
Неизвестная страница