وكونوا من بعضهم خلايا كخلايا الشيوعية، لا يعرف أعضاء الخلية أعضاء خلية أخرى، ثم اضطرت الحكومة المصرية لحلهم، فكان من جزاء رئيس الوزارة الذي حلهم وهو النقراشي باشا أن يقتل، فكان جزاء وفاقا أن يقتل رئيسهم أيضا، وهو الشيخ حسن البنا. وكان من شأنهم أن جاهد بعضهم وأبلوا بلاء حسنا في حرب فلسطين، وفي حرب الإنجليز في قناة السويس. وبذلك انقلبت من جمعية إصلاحية للأخلاق والنظام الاجتماعي من وعظ وإرشاد وتثقيف وتعليم، ومعاونة للفقراء إلى نوع كالذي ذكرناه من قبل عن الفتوة العسكرية.
وفي نظرنا أنه قد أضعفها هذا التطور الأخير، وهو التطور العسكري، فإنها بذلك زاحمت الأحزاب السياسية الأخرى وشاركتهم في الرغبة في الحكم، فقاتلوهم وحاربوهم وسجنوهم. وكان من رأينا أن يبقوا بعيدين عن المغامرات السياسية، دعاة إصلاح أخلاقي واجتماعي. ولو استمروا على ذلك لثبت بنيانهم، وامتد نفوذهم. ولكن لله في خلقه شئون. ووجه الشبه بينهم وبين نظام الفتوة ظاهر حتى في تنظيمهم ودعوتهم للإصلاح الاجتماعي ومساعداتهم للفقراء والمساكين، ثم في تسلحهم الذي يشبه الفتوة العسكرية، كالتي رأيناها عند الناصر لدين الله وأشباهه من رجال الحروب الصليبية ورجال الفروسية. وقد كان لهذه الجمعية أتباع في الشام والحجاز والعراق، يأتمون بإمامهم ويتبعون تعاليمهم. وهم لا يزالون إلى يومنا هذا ، وقد عقد وكيل النيابة الذي ترافع في قضية الخازندار مقارنة بين نظامهم ونظام الإسماعيلية وأطال في ذلك، والله بمستقبلهم عليم.
هذا ما يتعلق بسلسلة الفتوة من الجاهلية إلى الإسلام إلى اليوم. أما الكلام في الصعلكة فإنا نرى التصعلك خفت بعد ذلك لسببين؛ أولهما: أن الإسلام بتعاليمه نهى عن السلب، وكان في الغزوات المشروعة غنية عنهما، فلم يمكن أن تكون الصعلكة نظاما ثابتا منتشرا.
والثاني: أن الفتوحات الإسلامية أدرت عليهم الخير الكثير، فمن كان يمكن أن يكون صعلوكا أصبح يمتلك الجواري والعبيد والدور والبساتين، فلم يكن له حاجة إلى التصعلك الذي هو نتيجة الفقر والبؤس.
وربما كان الفقير الذي لا يملك شيئا يجد في الزكاة التي فرضها الإسلام ما يغنيه عن التصعلك الذي عرفنا أساسه، وهذا لا يمنعنا من أن نرى هنا وهناك بعض اللصوص الصعاليك من البدو يخطفون وينهبون ويسلبون ويقطعون الطرق، لكن في غير نظام.
ثم نرى إذا تقدمت الدولة العباسية جماعة سلابين نهابين يسمون العيارين أو الشطار، يعيثون في الأرض فسادا، ويعملون عمل الصعاليك في الجاهلية. غاية الأمر أن الصعاليك كانوا يعيشون في الأرض فسادا أيضا، ولكن يعوض فسادهم أنهم كانوا لا ينهبون إلا من ثبت شحه ودناءته، وإذا نهبوا وزعوا ما نهبوه على أمثالهم بالتساوي. أما هؤلاء الشطار فكانوا ينهبون ما قدروا عليه ويتعدون على الأغنياء من غير تفرقة بين كريم وليئم ثم لا يوزعون ما نهبوه.
يقول ابن جرير الطبري في حوادث سنة 201: «إن الشطار الذين كانوا ببغداد والكرخ آذوا الناس أذى شديدا، وأظهروا الفسق وقطعوا الطريق وأخذ النساء والغلمان من الطرق، فكانوا يجتمعون فيأتون الرجل فيأخذون ابنه فيذهبون به فلا يقدر أن يمتنع، وكانوا يسألون الرجل أن يقرضهم أو يصلهم فلا يقدر أن يمتنع عليهم، وكانوا يجتمعون فيأتون القرى فيكاثرون أهلها ويأخذون ما قدروا عليه من متاع وغير ذلك، لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر على ذلك منهم؛ لأن السلطان كان يعتز بهم، وكانوا بطانته، فلا يقدر أن يمنعهم من فسق يرتكبونه، وكانوا يجبون المارة في الطرق وفي السفن ويأخذون الأجور على خفارة المساكن، ويقطعون الطرق علانية، ولا أحد يقدر عليهم، وكان الناس منهم في بلاء عظيم، فلما رأى الناس ذلك وما قد أخذ منهم، من متاع الناس في أسواقهم وما قد أظهروا من الفساد في الأرض والظلم والبغي وقطع الطريق، وأن السلطان لا يغير عليهم، قام صلحاء كل ربض وكل درب، فمشى بعضهم على بعض وقالوا: «إنما في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وقد غلبوكم وأنتم أكثر منهم، فلو اجتمعتم حتى يكون أمركم واحدا لقومتم هؤلاء الفساق، وصاروا لا يفعلون ما يفعلون من إظهار الفسق بين أظهركم.» وقام رجل من ناحية الأنبار يقال له خالد فدعا جيرانه وأهل بيته وأهل محلته على أن يعاونوه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، وشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم مما كانوا يصنعون وقاتلهم وهزمهم وأخذ بعضهم فضربهم وحبسهم، وسمي هؤلاء الآخذون على يد الفساق بالمتطوعة، فترى من هذا أن عمل هؤلاء الفساق أشبه بعمل الصعاليك، لولا أنه تنقصهم المروءة والنبل، فعمل المتطوعة كعمل أهل حلف الفضول وقد ذكرنا قبل صلة حلف الفضول بالصعلكة.
وربما عد ما يشبه الصعلكة عمل الزنوج في ثورتهم المشهورة بثورة الزنج، فإنهم في الأصل كانوا زنوجا يعملون في الكسح في المراحيض. وقد سئموا بؤسهم وفقرهم فدعاهم داع إلى أن يثوروا على سادتهم وأن يأنفوا الذل والفقر ويأخذوا من أغنيائهم ما يستطيعون، وربما كانت هذه المروءة التي تنقصهم وتنقص الشطار سببها أن أكثر الشطار والزنج قد فقدوا عنصر العروبة، فكانوا إما فرسا أو أتراكا أو زنجا، ومن المسلم به أن العرب أميل إلى الكرم، وكانوا في حياتهم يكادون لا يعدون فضيلة إلا الشجاعة والكرم.
أما العناصر الأخرى التي ذكرناها فليس لها مثل كرمهم. ولعل هذا هو السبب في أن الصعلكة أخيرا فقدت الكرم والنبل.
وكانت كلمة الشاطر تطلق على الخبيث الفاجر وفي القاموس: «الشاطر: من أعيا أهله خبثا.» ثم أطلقت كلمة الشاطر على الماهر في أي صنعة، وربما كان هذا المعنى قديما أيضا ؛ ففي ألف ليلة وليلة من يسمى الشاطر حسن أي الماهر، وفي لساننا اليوم تطلق كلمة الشاطر بهذا المعنى. فيقولون في أمثالهم: قيراط بخت ولا فدان شطارة (أي مهارة). ويقولون: ما يقع إلا الشاطر. ويقولون على الفتاة: حلوة وشاطرة ولا لهاش بخت. وهكذا.
Неизвестная страница