كأنكما ساقي عقار سقاكما
فالفتوة هنا فتوة مصطنعة، نشأت عن غاية اشترك فيها الإخوان، فهؤلاء فتيان من بني أسد، ورجل فارسي دهقان ألفت بين قلوبهم الغاية فتعاقدوا على أن يفي كل منهم لأخويه، وأخيرا مات اثنان فوفى الثالث وبكاهما بكاء مرا. وربما كان المثل الأعلى لهذا النوع الأخوة في الإسلام، فقد آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، وكان هذا الإخاء له غاية، وهي أن يؤوي الأنصار المهاجرين؛ لأن المهاجرين خرجوا من ديارهم وأموالهم واحتاجوا إلى المعونة بالأنصار، وقد لاحظ رسول الله في هذه الأخوة تقارب عقلية المتآخيين وأمزجتهما ونفسيتهما، فهذه أخوة لغاية شريفة، يتعاقد فيها أخوان على وفاء. وشدد رسول الله في الرباط بينهما حتى كاد أن يورث بعضهما من بعض كأنهما أخوان حقيقيان، فهذا نوع من الأخوة أرقى من إخوة بني أسد والدهقاني، وأعز منها غاية.
وليست الأخوة بهذا المعنى إلا نوعا من أنواع الفتوة كما سنرى بعد. •••
على كل حال في العصر العباسي وبعده تمت الفتوة بمعانيها المختلفة وأهمها نوعان: (1)
فتوة يصح أن نسميها فتوة مدنية أو دنيوية. (2)
وفتوة دينية أو صوفية. ويظهر أن النوعين كانا متميزين في نظمهما وتقاليدهما، وهذا ما سنحاول أن نوضحه.
فالفتوة المدنية على ما يظهر وليدة الفروسية والشجاعة. ومن قديم عرف العرب بهما، وقالوا في ذلك الأشعار الكثيرة من أمثال معلقة عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد، وخلفوا لنا أدبا وافرا في كل ما ينطبق على الفروسية والشجاعة. وعني المؤلفون بعد في جمعها وتصنيفها ككتاب حلية الفرسان وشعار الشجعان لابن هذيل الأندلسي، وقد ذكر فيه الخيل والمسابقة بها والسيوف والرماح والقسي والنبل والدروع والترس، وما إلى ذلك، وما قيل فيها من أشعار.
ولما جاءت الدولة العباسية تسلط العنصر الفارسي أولا والتركي ثانيا، وكان لهم نظم في الفروسية غير النظم العربية البسيطة البدوية، فتسربت منهم إلى المسلمين. ورأينا المؤرخين يذكرون أن الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان ورمى بالنشاب في البرجاس، والكرة والصولجان من ألعاب الفرس، ويقولون في المعتصم إنه غلب عليه حب الفروسية، والتشبه بملوك الأعاجم. وإنه قسم أصحابه للعب الكرة. ومعلوم أن المعتصم أول من استعان بالأتراك في أعماله، وقربهم إليه وجعلهم جندا. واشتهر في عصره بالتفنن في الصيد والقنص. وعدوه من أعلام الفروسية. واقتبسوا في ذلك من الفرس والأتراك. فعلموا الجوارح من الطير والكواسر من الفهود والكلاب. ووضعوا الكتب في جودتها وصفاتها، وطرق تعليمها وأمراضها وما يصلح كل واحد منها. وسموا العلم الذي يبحث في ذلك ب«البيزرة» وقال في ذلك الشعراء.
وأصبحنا نرى في كثير من دواوين الشعر بابا يسمى بالطرد وهو الصيد. ورويت القصص الكثيرة في أحاديث الفروسية. وقارن الكتاب بين فروسية العرب وفروسية الفرس والترك وغيرهم مما ليس هنا مجاله، ووضعوا القواعد لتعليم الفروسية وقالوا مثلا: «إنه يجب أن يبتدئ الصائد بالخفة في الوثوب والنزول، ثم يتدرب على ركوب الفرس العربي العريان بلا عدة سوى الرسن. قال المتنبي في وصف أمثالهم:
فكأنما خلقت قياما تحتهم
Неизвестная страница