ولا ننس هنا أن الطبيعة المصرية تحب الحياة الحسية، وتنقلها إلى ما وراء القبر وتحمل معها الزاد والشهوات إلى العالم الأخير، ولا ننس أن «هوميروس» مثلا كان «شعبيا» من دهماء الشعب، فارتقى إلى ذلك الأوج السامق من الشاعرية التي تتناول شتى أهواء الحياة، ولا ننس أن اليونان جميعا كانوا «حسيين» ولكنهم مع هذا طلقاء الذوق، محبون للجمال المهذب في الطبيعة والإنسان، وإذا نحن ذكرنا هذا ولم ننسه فكيف نبرئ الطبيعة المصرية من وسم الحس الضيق، ونعلو بها على أثر الجسد المحدود؟ وكيف نعلل انقضاء التاريخ القديم بغير هوميروس مصري يظهر في طبقة الشعب، كما ظهر هوميروس الشعبي المسترفد في بلاد الإغريق؟ وكيف نعذر السواد «الفرعوني» إذا قابلنا بينهم وبين السواد اليوناني في تلك «الحسية» التي أنتجت لهم تماثيلهم ورواياتهم، وأبرزت لهم الطبيعة في شفوف الجمال والحرية والبهجة والإيناس؟
ربما كان لذلك علة واحدة هي فخر مصر، وهي مرجع اللوم في هذا الموضوع، وتلك العلة هي «الدولة المصرية» وهي أعرف دولة باذخة في الشرق والغرب عرفها التاريخ.
فإن ثبوت الدولة المصرية من أقدم القدم المذكور قد ثبت معها دولة الكهانة، وجبروت القداسة، فانبسط سلطانها الموروث على عالم الدين، وعالم المعرفة، وعالم الفن، وعالم السياسة، وأصبح الكلام في الآلهة والملوك والتواريخ حقا موقوفا على الكهان و«العلماء الرسميين» فلا يتسرب شيء من هذه القصص إلى السواد، ولا يجرؤ شاعر على المساس بتلك الأحاجي والأسرار، وحيل بين القالة «الشعبيين» وهذا المجال الذي تسبح فيه قرائح العبقريين، ويرتفع فيه القول إلى أفق لا تطرقه أغاني الأسواق، ومطالب العيش وهواجس الدهماء، وما إلياذة هوميروس بغير الآلهة والأبطال والتراث التاريخي المفرغ في قالب الأساطير؟ وما الفن اليوناني في رواياته أو في تماثيله بغير الدين والوحي والتاريخ؟ لقد كان لليونان كهانة، ولكنها لم تكن «دولة» عريقة الجذور، ممدودة الفروع، موروثة الرهبة، مدسوسة في كل مسلك من مسالك الحياة، وكانت لهم «معابد» ولكنها معابد «استشارية» لا جبروت لها، ولا ملك ولا صولجان ، ولا سبيل كان لها إلى السلطان في بلاد لم يكن للحكومة فيها ذلك العرش الموطد الركين، ولو كانت اليونان أمة كبيرة في أرض كبيرة يقوم فيها ملك واحد موروث العظمة، وتثبت إلى جانبه كهانة واحدة موروثة القداسة، لكان شأنها في الفن غير شأنها الذي علمناه، ولضربت عليها الرهبة حجابها فلم يخفق فيها الشعر حر الجناح حر الأجواء.
وكأن هذا الجمود دأب كل كهانة قوية، فلا حياة للفنون الحرة والشعر الطليق في ظل الكهانات الباذخات؛ فالبابوية خزنت الفنون واعتقلتها عندها حتى أطلقتها النهضة فيما أطلقت من كل شيء، فما ظهر الشعر الحر حين ظهر إلا متمردا عليها معزولا عنها، آخذا في الطريق المحرم أو المكروه في عرف الأتقياء والمحافظين، وما كان للشعر في مستهل القرون الحديثة سبحات أوسع من سبحاته في بلاد الإنجليز، أبعد البلاد عن نفوذ البابوية، وأقلها خنوعا ل «دولة الدين».
فالدولة المصرية عذر صالح لسليقة المصريين عند من يصمونها بضيق الإحساس، وضعف العبقرية، ولسنا نقول: إنها تثبت لهم تلك العبقرية، وتسلكهم في عداد الأمم «الشاعرة» التي دلت على عبقريتها بمن نبغ فيها من أعاظم الشعراء والمنشدين، ولكنا نقول: إنها تقلل الغرابة عند من يستغرب خلو التاريخ المصري القديم من شاعر شعبي كهوميروس، ومن إليه من قالة اليونان، ثم نحن ننتظر الشواهد ونعلم أن النهضة الحديثة واضعة سليقة المصريين موضع الاختبار العسير، فإما أن نجيء بشاهد جديد، وأما أن ننقض ذلك العذر القديم.
لهذا نحب أن نرى للعبقرية المصرية دليلا غير هذه الأدلة التي تتردد على أقوال أناس ينسبون إلى الشعر في هذه الديار، ولهذا نكره أن تكون تلك الأقوال عنوانا دائما لحظ هذه الأمة من الحياة والإحساس؛ لأن أصحابها لا يحسون، ونحن نريد للأمة المصرية أن تحس، ولأن أصحابها لا يعيشون ونحن نريد للأمة المصرية أن تعيش في هذا «الكون الإنساني» لا في كون سردابي حدوده تضيق بالحيوان المقيد إذا طال حبله بعض الطول!
لينظر القارئ هل في الدنيا ما هو أبعث للشاعرية، وأذكى للشعور، وأطلق للقرائح، وأشجى للنفوس من منظر الربيع؟ وهل في الدنيا شيء يحس به الشاعر، ويغني له إذا هو لم يحس بالربيع حق الإحساس، ولم يغن له أطرب الغناء؟ فإذا علم القارئ أن ليس في الدنيا شيء أبعث للشاعرية من بهجة الربيع، وأن ليس فيها شيء أجود الغناء للشاعر من وحي الربيع فليقرأ - بعد - هذه الأبيات في وصف الربيع:
مرحبا بالربيع في ريعانه
وبأنواره وطيب زمانه
زفت الأرض في مواكب آذا
Неизвестная страница