يقول روشفكول وهو حكيم خبير بهذه الشئون: «تولد الغيرة مع الحب، ولكنهما لا يموتان معا في كل حين»، وكان الأصدق أن يقول: إن الغيرة تولد مع الاهتمام أيا كان سببه وكيفهما كان الباعث إليه؛ فقد لا يكون الاهتمام عن حب الإنسان الذي أنت مهتم به، ولكنما هو اهتمام للمنافسة في ذاتها كما تقدم، أو للشخص المنافس أو لإرضاء شعور في النفس لا علاقة له بهذا ولا بذاك. إلا أن أقتل الغيرة وأمضها وأقساها، ما كان عن حب صحيح، وثقة مكينة، ورجاء غير مشكوك فيه. فإذا أحب العاشق واطمأن إلى حبه، وبسط الرجاء في مستقبله لا يرى له نهاية ولا يقف فيه عند أمد، ثم أفاق فجأة على شبهة تنغص حبه وتزلزل مكان الثقة من عطفه، وتقتضب عليه أحلامه وآماله وتحد من سعة ذلك الرجاء الذي كان يبسطه على الحياة وما فيها بغير حد ولا نهاية، فذلك هو الجحيم الموبوء الذي لا فرار فيه ولا ملاذ منه، وذلك هو العذاب الذي لا طاقة للجسم والدم بمثله، ولا تمنى الطبائع الآدمية بما هو أنكأ منه وأمر مذاقا؛ فإن كانت الغيرة من شك، فهناك الحيرة الكاظمة، والقلق الملح المسموم، وأي عذاب أقسى من قلق يثير الوساوس ثم يطلق زمامها، فلا هو يردها بعد ذلك؛ ولا هو قادر على أن يميل بوسواس واحد منها إلى الراحة؟! وإن كانت الغيرة عن يقين فهناك الصدمة القاتلة كأنما هي صدمة المقبل بكل قوته إلى حيث يهدأ ويستريح، فإذا هو يستقبل الضربة المصمية في المقتل الأمين، ولقد قيل: إن الحب بغير عيون؛ لأنه ينخدع عن الحقيقة الواضحة، ويماري في الواقع المحسوس، فإن كان لذلك سبب فليس هو الغفلة كما قد يظن لأول وهلة، ولكنه هو هول العذاب الذي يخافه المحب ويتهيبه فيسهل عليه في سبيل الهرب منه أن ينكر الشمس ويصدق المستحيل.
ولكن إذا صح أن الحب بغير عيون فالغيرة لها عيون مفتوحة لا تحصى، وإن كانت لتضل عمدا عن الرؤية في معظم الأحايين! وبين عمى الحب ويقظة الغيرة ألم جهنمي كألم الجسم المشدود بين قوتين تعدو كل منها في طريق!
الغيرة جنون يشترك فيه الإنسان، والحيوان، والرجال، والنساء، وربما تواتر بين الناس أن المرأة أشد غيرة من الرجل؛ لأنها تستغرق شعورها في الحب ، ولا تستبقي لنفسها بقية تعوذ بها عند الخيبة فيه، وأنها تفتأ حياتها بين غيرة تضاعفها الشبيبة والسذاجة، وبين غيرة تضاعفها الكهولة والعلم بطبائع الرجال، فهي إذا كانت فتية جاهلة بالحياة كان ألم الغيرة عندها شديدا قاسيا على قدر الفتوة العارمة والثقة المخدوعة، وهي إذا كانت كهلة محنكة السن أشفقت من إدبار العمر؛ واشتدت غيرتها على قدر اشتداد الشك والحذر من تقلب الرجال، وهي في الشباب والكهولة أميل إلى الاستسلام وأسرع إلى الإدبار والهرب، فهي لهذا أغير من الرجل وأعنف في هذه الخالجة العتية الهوجاء. بيد أن صاحبنا أناتول فرانس - مؤلف الزنبقة الحمراء - يزعم غير ما يقول الأكثرون ويبني روايته هذه على ذلك الاعتقاد المخالف لآراء الكثيرين، فهو يقول: «إن الرجل الغيور يغار حقا، ويتهم المرأة لكونها تحيا وتتنفس؛ وهو يخشى خطرات السريرة، ونزعات الجسد، والفكر التي تجعل من المرأة مخلوقا آخر منفصلا عنه مستقلا بنفسه مدفوعا بغريزته، متناقضا في طبيعته، ممتنعا على الفهم والإدراك في بعض الأحيان، وهو يتعذب؛ لأنه يراها تتفتح عن طبيعته الحلوة كما تتفتح الزهرة، ثم لا يأمل أن يحتجن الحب - بالغة ما بلغت قوة أسره وصلابة قيده - كل ما يتضوع من شذاها في تلك الآونة المهتاجة التي تسمى الشباب والحياة، والسيئة الفذة التي يحاسبها عليها في أعماق قلبه هي «أنها هي» أي أنها كائنة، وأنها جميلة وأنها تحلم الأحلام! وكم ذا من قلق المعنت في هذه الفكرة؟!»
ثم يقول: «أما المرأة فلا تحس في نفسها شيئا من هذه الخواطر الجامحة، وأكثر ما تظنه غيرة منها إن هو إلا شعور المزاحمة.
فأما هذا العذاب الواصب في كل جارحة وهذه الوساوس الشيطانية التي تتحكم في الخيال، وهذه اللواعج الطاغية المحزنة، وهذا الهياج الجسدي الثائر فلا شيء من ذلك عندها، أو أن ما عندها يقرب من لا شيء.
فشعورها في الغيرة يخالف شعورنا في وضوحه واستقامته وطبيعتها يعوزها ضرب واحد من الخيال، لا ينمو فيها على أتمه حتى في شئون الحب والحواس، ونعني به الخيال التصويري المحسوس، والقدرة على استكناه الرسوم المحدودة، وإنما يشتمل على جميع شواعرها غموض شامل وتتحفز قواها كلها للصراع في لحظة واحدة، فإذا سارت غيرتها مرة وثبت للكفاح في عناد جامح بين العنف والحيلة لا طاقة به للرجل، وشحذ عزيمتها للكفاح نفس ذلك المهماز الذي يمزق أوصالنا ويضعضع قلوبنا، فإذا هوت من عرشها فالهزيمة تزيدها مضاء وتهالكا على الغلبة والسيادة، والخيبة توليها ثقة جريئة مكابرة ترجح على ما يصيبها من خذلان الأسف والكآبة.»
قال: «وانظر إلى هرميون في رواية راسين، فإن غيرتها لا تستنفد نفسها بخارا أسود يتصاعد من سورة عاجزة، وهي لا تبدي لك إلا قليلا من الخيال، ولا تنسج من آلامها مأساة من الهواجس المبرحة القاتمة، أو تنفق الوقت في الوجوم والندم، وما الغيرة بغير الوجوم والندم؟ ما الغيرة بغير الوسواس الشيطاني والهوس الملازم؟ إن هرميون ليست بغيرى. إنما هي قد عقدت نيتها على اعتياق زواج تأباه، وصممت على أن تمنعه بكل وسيلة لتسترد إليها العاشق المغصوب، وهذا كل ما في الأمر.»
ولما أن قتل «نيوبتلمس» لأجلها وفي جرائر تدبيرها فزعت وارتاعت. هذا صحيح! ولكن الشعور الغالب عليها كان شعور الأسف والخيبة؛ لأن «مشروع زواجها قد أخفق، ولو أن رجلا كان في موضعها لقال: حسن! ذلك خير. إن المرأة التي أحببتها لن تزف إلى غيري الآن.»
فأناتول فرنس يجعل الغيرة من خصائص الرجل، ولا يرى أن يسمي هذا الشعور الذي وضعه في المرأة باسم الغيرة كما يسميه جميع الناس، ولسنا نعرف الحكمة في إنكار هذه التسمية، ولكننا نعتقد أن المرأة أشقى بغيرتها؛ لأنها أحوج إلى الحب، وأعظم استغراقا فيه وأخوف من الفقد والهجران، ويجوز أن تختلف التصورات التي تلهب هواجس الغيرة بين الجنسين، ولكن أليس للرجل منادح من العزاء عن خيبة الحب لا تجدها المرأة؟ أليس يخزيه في نظره ونظر إخوانه أن يفني صوابه في الهوى، وينسى المجد والصراع والمعارف والأمثلة العليا ليشغل قلبه وعقله بامرأة خائنة أو توشك أن تخونه؟ ففي ذلك ولا ريب حافز لهمته وموقظ لنخوته لا تتعزى المرأة بمثله ؛ لأنها لا تخجل من الاستغراق في الحب، ولا تحس في طبيعتها ما ينبو بها عن هذا النصيب.
إن الغيرة ثمرة الحب والأثرة والخوف، وهذه العناصر الثلاثة تثمر في طبائع النساء ما ليست تثمره في طبائع الرجال، فهؤلاء وهؤلاء يغارون، ولكن أحرى الفريقين بالزيادة من هو أحرى بالإشفاق، وأخسر صفقة في الضياع.
Неизвестная страница