Путь Жизни
سبيل الحياة
Жанры
وما هو الروح العام في أيه أمة؟ وما هي الخصائص القومية في الشعوب؟ إن الحياة قائمة على التغير والتحول، لأن الركود والثبات على حالة واحدة لا سبيل إليه في الحياة «إذ كانت الحياة معناها الحركة. والحركة انتقال وتحول، حتى الموت نفسه ليس إلا مظهرا من مظاهر التغير والتحول، وهو يؤدي إلى تغير آخر لا ينتهي، فالروح العام في الأمة لا يكون في كل العصور على حالة واحدة والخصائص القومية تتغير جيلا بعد جيل إلى حد كبير. وأقول إلى حد كبير لأن لكل بلد طبيعته وأثر هذه الطبيعة في النفوس ولماذا يتغير الروح القومي وتختلف الخصائص العامة؟؟ لأن رجالا يظهرون فيوحون إلى الأمة الروح الجديد ويوجهون النفوس الوجهة التي يبغونها، فإذا كان هؤلاء القادة أهل فضيلة وبطولة صار الشعب أمة من الأبطال، وإذا كانوا رجال سوء وعيارين فساقا فسدت الأخلاق، وإذا كانوا أهل إخلاص وأصحاب مثل عليا، رفعوا الشعب معهم ذلك أن الرجل العظيم - وفي الناس العظيم في الخير كما أن فيهم العظيم في الشر - يجعل الأمم التي يظهر فيها صورة منه ويوحي إليها آراءه وعواطفه ونزعاته وأساليب تفكيره، فإذا كانت الأمة طينتها قوية تلقت الإيحاء بقوة، وإذا كانت ضعيفة تلقته بفتور، ويعجبني قول بعضهم إن الفرق بين الأمم كالفرق بين آلة قوتها ألف حصان وآلة أخرى قوتها حصان واحد. فأما الأمة التي تشبه الآلة التي قوتها ألف حصان فإن العظيم يستطيع أن يصنع بها المعجزات، ولكن ماذا يصنع بأمة كالآلة التي قوتها حصان واحد؟؟
والآن ننتقل إلى الأدب فأقول لاحظوا أن الأديب يدرس بشغف، وأن موضوع درسه يستغرقه، والأثر الذي يخلفه درسه لا يمكن إلا أن يكون عميقا، وإن كان هو لا يحس ذلك ولا يفطن إليه، أو لا يجعل باله إليه. وعقل الإنسان لا يكف عن العمل في ليل أو نهار، ولا تنقطع حركته، في يقظة أو منام، وليس ما يبدو أو ما نحسه من عمله، هو كل عمله، فإن عمله الخفي أكثر، ولعله أعظم من عمله الظاهر الواضح، وهذا الذي يحصله الأديب يختلط في رأسه بما فيه، ويتزاوج معه، ويتولد من هذا التزاوج والاختلاط ما يبدو جديدا، ولكنه في الحقيقة مولد، ولو أمكن أن نتتبع الحركة العقلية التي أثمرت ذلك لعرفنا نسب المعاني والآراء والإحساسات والخوالج المختلفة، ولظهرت لنا الشجرة كلها بأصولها وفروعها وأوراقها وثمارها ولحائها أيضا. ولكن الحركة خفية ومعقدة، فلا سبيل إلى هذا العلم بنسب الخواطر والإحساسات وما إليها، أريد أن أقول إن من الخطأ أن يتوهم أحد أن ما ينشأ في النفس من الخواطر والخوالج وما يحصل من الصور مبتكر، أو أنه شيء خلقته النفس خلقا وابتدعته من عندها وحدها، وبلا معونة من غيرها وإنما هو مولد فيها، ونسبه لو أمكن أن يعرف ينتمي إلى ما تلقته النفس من الخارج: ويحدث كثيرا أن يخطر للمرء شيء فجأة بلا مناسبة ظاهرة ومن غير أن يشعر أن ذهنه يجري في هذا المجرى أو يتجه إلى هذه الناحية، وتراه يعبر عن ذلك بقوله أنه ألهم شيئا، ولكنه لم يلهم وإنما كان الخاطر المفاجئ الذي لا تبدو له صلة بشيء معروف، وليد حركة طويلة، لا يحسها هو وإن كان عدم الإحساس لا يمنع وجودها. ويحدث في بعض الأحيان أن يطفو على السطح خاطر أو صورة أو خالجة أو نحو ذلك وتكون مما قرأ الإنسان أو سمع ولكنه لا يدري. لأن الذاكرة لا تحتفظ في الحقيقة إلا بالأقل، أما الأكثر فتلقي به فيما وراء الوعي. والقاؤه فيما وراء الوعي ليس معناه ضياعه، فإنه يطفو لأسباب تخفى علينا ولا سلطان لنا نحن عليها. وقد نعرف أنه هو الذي كان غائبا عنا، وهذا هو التذكر، وقد يخفى علينا ذلك ويختلط الأمر فنحسب أن هذا الذي طفا نتيجة جهدنا العقلي، فيقال سرق لكن السرقة غير مقصودة وإنما جاءت عفوا بلا عمد.
على أنه يحدث أحيانا أن يستبد المعنى أو الفكر بالخاطر، وتستولي عليه وتتسلط كما تتسلط إرادة رجل على آخر وتتحكم فيه، فلا يعود يملك أن يخرج عنها، أو يهرب منها، وقد يدرك أن فكرة غيره أسرته واستبدت به، أو لا يدرك، فأن المهم هو هذا الأسر، فيحصل ما يسمى السطو، وترى الشاعر أو الكاتب أخذ المعنى الذي هو لغيره وأدخله في كلامه. وهذا السطو لا ينفي أن الذي أخذ قادر على ابتداع معنى كالمعنى الذي أخذه، وإنما معناه أن المعنى استبد به فلم يستطع أن يتحول عنه أو يتخلص من أسره نفيه. ومؤدى هذا الكلام أن السرقة الأدبية إذا لم تكن من معابثة الذاكرة فهي من نتيجة الإيحاء، سواء أكان الإيحاء خفيفا أو قويا، وظاهرا أو خفيا ولا يستغرب أحد أن يكون في عالم الأدب إيحاء من القوة بحيث يشبه التنويم المغناطيسي، فما أعرف ما يمنع ذلك. ولست أحب أن أكون قاضيا يحكم، وإنما أنا مفسر، فهذا تفسيري أو تعليلي للسرقة الأدبية وأحب أن يكون مفهوما أن هذا التفسير لا يدخل فيه عمل الذين يتعمدون السطو على آثار غيرهم ليغشوا الناس ويزعموا أنفسهم أدباء، فإن هذا عبث صبيان، إنما أتكلم عمن لا يعجزهم أن يبتكروا ما هو أرفع مما أخذوا أو اقتبسوا أو علق بأذهانهم. أو على الأقل مثله.
الفصل الخامس عشر
قرائي الذين يحبونني
لكل كاتب قراؤه. وما من كاتب يعدم قارئا من كل طبقة، ولكن المعول على الأوفياء الثابتين على الولاء، فإن هؤلاء طريق الرزق، ووسيلة الاطمئنان والدعة، ولولاهم لما عرف المرء متى يمكن أن يتاح له أن يأكل، وإن كان لا يجهل كيف يجوع. ولست أعرف ماذا يصنع غيري ليهتدي إلى طبقات قرائه، ولكني أعرف أن مصلحة البريد أغنتني عن عناء السعي ومشقة التفكير في الوسائل المعينة على الاهتداء، فإن رسائل كثيرة تأتيني منها فأستخلص منها العلم الذي أطلبه والمعرفة التي أشتهيها. وما أكثر ما قلت لنفسي إن الجاحظ وابن المقفع وعبد الحميد الكاتب ومن إليهم من هؤلاء الزملاء والرصفاء، كانوا مساكين. - أوه جدا - فما عرفت الدنيا في أيامهم مصلحة البريد. وقد كان من الصعب ولاشك أن يعرفوا مبلغ حب الجمهور لهم وإعجابه بهم وماذا كان يمكن أن يبلغ من رواج كتبهم لو أنها كانت تطبع وتباع في المكاتب، وقد حرمهم هذا الحال الاستقلال عن الأمراء ومن إليهم. ومن الصعب أن يعمل المرء في الظلام. نعم كان الواحد منهم لا يعدم تشجيعا من الشعب، ولكن هذا كان فلتة لا تحسب ولا يعول عليها. ومن السهل أن يتصور المرء أن الجاحظ مثلا كان يلقى في الطريق واحدا يتقدم إليه ويقول له: «اسمح لي.. هل أنت الذي يسمى الجاحظ؟»
فيهز رأسه أن «نعم» وهو واجف القلب لأنه يخشى الاعتراف الصريح المقيد، لئلا يكون هذا السائل من الشرطة.
فيقول الرجل: «لقد صدقوا.. أعني أن اسمه في محله.. على كل حال.. ثابر يا بني!.. فإني أتنبأ لك بمستقبل باهر..».
ويربت على كتفه ويمضي عنه مبتسما، وعينه إلى الملك الذي ينبغي أن يكون محتفظا بمكانه على يمينه؛ مرهف الأذن مقيما سن القلم على الدفتر المفتوح ليقيد له هذه الحسنة - حسنة التبرع الكريم بالتشجيع.
وإذا كانت الرسائل التي ترد إلى دليلا على شيء فإني أكون أحب الناس - أعني الكتاب - إلى ثلاث طبقات: - المرضى، واللصوص، وقد نسيت الطبقة الثالثة.. لا بأس من يدري؟.. ربما تذكرتها أثناء الكلام. وقد عرفت هذا من الرسائل التي يحملها إلى البريد، كما قلت. وهذا نموذج منها: «... وبعد فإني لم أسمع باسمك من قبل، ولكن مرضت ودخلت المستشفى، وجاءني زائر فترك لي كتابا أتسلى به، غير أني لم أستطع أن أتصفحه في أول الأمر لشدة وطأة المرض. فلما خف قليلا مددت يدي إليه وبدأت أطالع. وأؤكد لك أنه سرني جدا. وأنا صحيح الجسم في العادة، ولكن الأمراض لا أمان لها، كما تعرف، فأرجو أن تبعث إلي بمجموعة من كتبك كلها - ومعها جملة ثمنها - استعدادا للطوارئ فإن الحيطة واجبة وإن كان الأمر كله بيد الله.
Неизвестная страница