أمسى حديدا فاضربوا ليلين لي (2) فرنسيس مراش
كان فرنسيس المراش على قصر عمره زعيما أدبيا ترك دويا، إن لم يكن في الدنيا، كما أراده أبو الطيب المتنبي، فقد «بلغ الفرات زئيره والنيلا ...» وكيف لا يسوغ لي أن أستعير له وصف المتنبي لأسده، وهو الذي اجترأ على نشد الحرية يوم كانت الأفواه مكمومة، والخزامة في الأنوف والشفاه، وسيأتيك الخبر حين نتكلم عن «غابة الحق».
قلت إنه زعيم أدبي قبل أن أعرفك به، كما هي الخطة عند من يكتبون عن الأدباء، أظن أنك تعرفني فمن طبعي أن أسير في أبحاثي كما يشاء القلم فهو الذي يسيرني ولست أنا الذي يسيره.
أما زعامة المراش الأدبية - على وهن عبارته - فبرهاني الأول على إثباتها هو هذه الذكرى التي مر عليها نحو نصف قرن، وهي تستحق احتفالا بيوبيلها الذهبي. كان ذلك عام ألف وتسعمائة، وكان أستاذ اللغة العربية يلقي علينا آخر درس من دروس ذلك العام، فقال لنا في ختامه: التلميذ كالبيت يحتاج إلى مئونة، ومئونة من كان مثلكم الكتب، فإذا أردتم رسوخ القدم في الإنشاء؛ فاقرأوا نهج البلاغة، والدرر لأديب إسحاق، وكشف المخبا، وكنز الرغائب لأحمد فارس الشدياق، ومشهد الأحوال، وغابة الحق لفرنسيس المراش. المراش يا أولادي، شاعر كاتب مجدد، ولكي يهتدي الواحد منكم إلى ذاته ويكون شخصيته يجب عليه أن يقرأ هذا وهذاك، ومن قراءة الكتاب المختلفين تظهر الذات، وما نفع كاتب أو شاعر بلا ذاتية.
إنني أقف عند هذا الحد من كلام أستاذنا، فقد كان وقت درسه ساعتين، فودعنا بالكثير من الوعظ؛ لأنه كان خائفا أن نضيع في الصيف اللبن، ونعود إليه وقد نسينا ما شقي هو في تلقيننا إياه من فرائد. تركنا المدرسة في العاشر من تموز، وكدت لا أصدق أنني أطللت على الضيعة. تسعة أشهر ونصف مرت، ولم أر لها صورة وجه. قل وصلنا بالسلامة، ورأيناها ما زالت حيث كانت ... وكما كانت ... فالقرى أشد محافظة من كل الذين يزعمون أنهم محافظون.
وكانت السهرة في بيتنا تلك الليلة، أما في الليلة التالية فكانت في بيت عمي لحا. فعمي هذا ذاهب إلى بيروت، ولم تكن الرحلة إلى بيروت هينة في ذلك الزمان. سوف ينام الليلة القادمة في جونيه إذا عجل، ويتابع في الغد سيره إلى بيروت التي لا يعود منها قبل أسبوع. فالطريق وحدها تقتضيه أربعة أيام، تلطف ذاك العم وسأل ابن أخيه عما يتمنى من «المدينة» فأجبته على الفور: كتابين يا عمي: مشهد الأحوال، وغابة الحق.
وكان الوالد ينتظر أن أطلب من عمي شيئا له قيمة وشأن. فهز برأسه كعادته في تلك المواقف الحرجة، وقال: غابة وحق يا صبي! الحق ضائع في العلالي والقصور فمن يجده في الأحراش! أما العم فرأى أخاه غير مصيب - طبعا لأن الطلب هين، فأنزله حالا في دفتره ذي الغلاف الأسود اللامع، وسكت الوالد، وسكت أنا، أما العم فقال: أين ألاقيه؟ - في المكتبة العمومية لإبراهيم صادر وأولاده.
فأجاب، وهو يزج دفتره في عبه: عرفته.
وبعد العود الميمون من تلك الرحلة السندبادية جاء الكتابان، وغرقت فيهما إلى أذني، وقرأت لونا جديدا وذكرت معلمي الجليل بالخير.
ففرنسيس مراش حلبي؛ وعن حلب الشهباء أخذ لبنان لغة الضاد، وأعطاها ما عرفه في القرن السابع عشر من لغات أجنبية، وهكذا لقحت الثقافة الضادية بدم جديد منذ ذلك العهد. ذكرت هذا لأن له الأثر البارز في ما كتبه المراش.
Неизвестная страница