"فلما أصيب من سنة ثنتي عشرة بعد الخمسمائة بالمرضة الناهكة التي سماها المنذرة وكانت سبب إنابته وفيئته وتغير حاله وهيئته ... " (١). فندم على ما بدر منه من مطامع للوصول إلى المناصب، وما صدر منه من مدائح للملوك والسلاطين في سبيل ذلك.
وعاهد الله إن منّ عليه ألّا يطأ بأخمصه عتبة سلطان، ولا يتصل بخدمتهم ويربأ بنفسه عن مديحهم، وأن يعكف على العلم تعليمًا وتعلمًا وتأليفًا (٢).
وفي الحقيقة تعد هذه المرحلة من حياته مرحلة عطاء وإنتاج وتمخض لما كابده في سنوات التحصيل والطلب، حيث ألّف أشهر مؤلفاته وأنفعها في هذه الفترة وكانت أغلب تصانيفه بين زمزم والمقام، كتفسيره العظيم الكشاف، وأطواق الذهب، وأساس البلاغة، ونوابغ الكلم، والمستقصى في أمثال العرب، وربيع الأبرار (٣). وقد وجد من رعاية ومحبة الشريف ابن وهاس، له الدافع الكبير لهذا العطاء الزاخر، وقد نوّه الزمخشري بهذا العطف والعناية التي لقيها من ابن وهاس في مقدمة تفسيره الكشاف والذي من أجله صنّفه (٤)، وبإشارته جمع الزمخشري منظوماته في (ديوان الأدب) يقول في مقدمته، منوهًا بفضله:
ومما أجل الصنع فيه إناختي ... بمكة مرضيًا مرادًا وموردا
ولولا ابن وهاس وسابغ فضله ... رعيت هشيما واستقيت مصردا (٥)
وبعد أن طالت إقامته بمكة المكرمة، من رحلته الثانية (٦) عاوده الحنين إلى وطنه مرة أخرى. وفي أثناء عودته عرّج على بغداد، وزاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن الشجري (م ٥٤٢ هـ) مهنئًا بقدومه، ومدحه وأثنى عليه وعرف له فضله ومكانته العلمية (٧).
_________
(١) الزمخشري، مقدمة شرح مقامات الزمخشري.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) مفتاح السعادة ٢/ ١٠٠.
(٤) انظر: مقدمة الكشاف ١/ ٣.
(٥) منهج الزمخشري، ص ٣٧.
(٦) نزهة الألباء، ص ٣٩١.
(٧) نزهة الألباء، ص ٢٩٢؛ بغية الوعاة ٢/ ٢٨٠.
1 / 37