بشارة الخوري
وجه عصبي، يتقاسمه الحنان والتعب - وقد يكونان تراث إحساسه وثورته - وعينان وقادتان أقوت حدقتاهما إلا من البريق، فكأنهما لكثرة ما أراق ماء شبابه في عهد الحب والشباب تولدت فيهما إيماضة من الكهرباء.
جبين منفرج الصدغين، نافر الأعراق، كأنما هو صفحة من الشعر حفرت على صفيحة من النحاس ولم تنشر بعد، إلا أنها لا تمشي في حلبة «المسلول» أو «عروة وعفراء».
أما هيكله - وقد جربه الدهر في زمني رخائه وبؤسه - فقد رق كثيرا حتى لتخاله بيتا من قصيدة «المسلول»، وحتى إذا عثرت به الأبصار من بعيد وقفت عليه، وقد اختلط عليها شكله، فلم يفسح لها أن تجزم في أمره، أيكون جسدا من لحم ودم، أم وتدا متمايلا من تلك الأوتاد التي يلبسها الناطور بعض الأقمشة ويركزها في وسط الكرمة فتتطير بها الثعالب وتفر مذعورة؟
نفض جملة قصائده وهو في الخامسة والثلاثين من سنيه؛ أي: في عهد الاضطرابات والهول، يوم كلب عليه الزمان وحالفته القلة، أما اليوم فهو يطلع على السابعة والأربعين، وقد ورم كيسه، فلم يبق يحفل بالشعر، إلا أن ريقه لم يزل يتحلب لبعض المقاطع في بعض الأحايين.
غريب الأطوار، يجمع بين نبالة الكرم ومعزة البخل، فتراه حينا يسلخ من جيبه عشر ليرات ينقدها ثمن ليلة خمر ويراها حلالا على الرفاق، وحينا يخفي «علبة السكاير» في دهاليز الصحف المنتشرة على أديم منضدته؛ لكيلا يترك لجليسه سبيلا إلى خطف لفافة منها.
متسع الصيت في عالم الشعر، مبسوط العلم بمداخل البيان، إلا أنك لا تقع على قصيدة من قصائده برئت من قصائد الفرنج ك «موسه» و«لامرتين» و«بول فرلين»، فهو من هذه الناحية أكبر مقتبس عرفته العرب.
إن للنفوس مزايا مستقلا بعضها عن بعض، ولكل مزية طابع يميزها عن أختها، وفي كل شاعر مزايا متباينة قد يستوي لبعضها ما لا يستوي للبعض الآخر، فلا ينبغي لنا مثلا أن نجزم بين عنصرين قويين فنقول هذا أعظم من ذاك، ونكتفي بأداء هذا الرأي، بل يجب على من يترسم قوى العناصر أن يتخير واحدا من جنس الآخر ليحق له أن يكون حكما بين الاثنين.
هناك من يزعم أن «المتنبي» أشعر شعراء العربية على الإطلاق! وهذا خطأ مبين؛ فقد يكون «أبو تمام» أشعر من «المتنبي» في العاطفة، كما أن «البحتري» أشعر من الاثنين في الوصف، وكما أن «المتنبي» أسبق الشعراء حلبة في الحكمة.
لم أقرأ «للمتنبي» ولا لشاعر من شعراء القرن الرابع للهجرة أبياتا في العاطفة أمدتها الشاعرية بمثل ما أمدت به أبيات «أبي تمام» التي قالها في رثاء أخيه وهي:
Неизвестная страница