الْحَمد لله الَّذِي اتخذ الْحَمد لنَفسِهِ لينيل بِهِ ثَوابًا عباده فَفتح بِهِ كِتَابه وَختم بِهِ دُعَاء اهل جنته فَقَالَ فِي كِتَابه ﴿أَن الْحَمد لله رب الْعَالمين﴾ وَصلى الله على اكرم رَسُول جَاءَ بالحكمة وَالْمَوْعِظَة الْحَسَنَة هاديا لَهُم الى طَاعَته وذائدا لَهُم عَن مَعَاصيه مُحَمَّد النَّبِي وَآله الطاهرين وَسلم تَسْلِيمًا
سَأَلتنِي ايدك الله ان ابين لَك فضل الرُّسُل وَمن يصلح للرسالة والسفارة وَمن امْر من الْمُلُوك والاوائل والحكماء الافاضل بإرسال رَسُول وَمن نهى عَن ذَلِك وَكَيف تكون صفة الرُّسُل وَمَا يَنْبَغِي لمن ارسل لملك اذا كَانَ منازلا لملك ان يعْمل فِي الِاحْتِيَاط لنَفسِهِ وَلمن ارسله وَمن حمد على قديم الْوَقْت من الرل وَمن ذمّ وَمَا قَالَت الْحُكَمَاء والبلغاء وَالشعرَاء فِي ذَلِك وَمَا ورد من ذكر الرَّسُول فِي كتاب الله الْعَظِيم الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ
1 / 21
وَلَا من خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد وَمن خَان ملكه لمتعجل بر اَوْ فَائِدَة وَمَا جازاه بِهِ مرسله على ذميم فعله وَمن رسل برسالة غَلِيظَة فأداها وَالْوَجْه الَّذِي بِهِ احتال الى ان نجا من شَرّ مَا حمله وَمن نصح من الرُّسُل لملكه وزانه برسالته وَرفع من ملكه ببيانه وَعبارَته فأدبتك الى سؤالك اعْتِمَادًا مني لمسرتك وعلما انك غَنِي عَن يسير مَا اعْلَم بِكَثِير مَا تعلم آخِذا بالادب فِي مسارعتي الى الامر والى الله ارغب فِي الْهِدَايَة والتوفيق برحمته
1 / 22
الْبَاب الأول
أذكر فِيهِ مَا جَاءَ فِي كتاب الله ﷿ من ذكر الرُّسُل
وَوُجُوب حق تعظيمهم والانقياد إِلَيْهِم
قَالَ الله تَعَالَى ﴿كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ﴾
وَقَالَ تبَارك اسْمه ﴿رسلًا مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل﴾
وَقَالَ عز من قَائِل يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم رَسُولنَا يبين لكم على فَتْرَة من الرُّسُل أَن تَقولُوا مَا جَاءَنَا من بشيرٍ وَلَا نذيرٍ فقد جَاءَكُم بشيرٌ ونذيرٌ وَالله على كل شيءٍ قدير
وَقَالَ تَعَالَى إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَلَا تسْأَل عَن أَصْحَاب الْجَحِيم
1 / 23
وَقَالَ تَعَالَى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للْعَالمين﴾
وَقَالَ تَعَالَى فِي أَنه لَا يجوز أَن يُرْسل إِلَى أمة إِلَّا مِنْهُم من يفهم لغتهم وَمن هُوَ دربٌ بهَا فَهُوَ أحج عَلَيْهِم ﴿وَمَا أرسلنَا من رسولٍ إِلَّا بِلِسَان قومه ليبين لَهُم﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّا أرسلنَا إِلَيْكُم رَسُولا شَاهدا عَلَيْكُم كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلًا﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿فعصوا رَسُول رَبهم فَأَخذهُم أَخْذَة رابية﴾
وَقَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاك شَاهدا وَمُبشرا وَنَذِيرا وداعيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجًا منيرًا﴾
أَسمَاء رسل رَسُول الله ﷺ
ارسل جرير بن عبد الله إِلَى ذِي الكلاع وَأرْسل إِلَى جبلة بن الْأَيْهَم شُجَاع بن وهب الْأَسدي قَالَ الْوَاقِدِيّ بل إِلَى شمر بن الْحَارِث بن أبي شمر وَأرْسل إِلَى الْمُقَوْقس صَاحب مصر
1 / 24
حَاطِب بن أبي بلتعة حَلِيف بني أَسد فَأكْرمه وَوَصله وَبعث إِلَى رَسُول الله ﷺ بمارية أم إِبْرَاهِيم ﷺ وَمَعَهَا خصيٌ وَأُخْتهَا أم عبد الرَّحْمَن بن حسان بن ثَابت وببغلته دُلْدُل وَحِمَاره يَعْفُور وَأرْسل عَمْرو بن الْعَاصِ إِلَى جَيْفَر وَعبد ابْني الجلندي بن المستكبر الأزديين بعمان فَأَسْلمَا وغلبا
1 / 25
على عمان وارسل دحْيَة بن خَليفَة الْكَلْبِيّ إِلَى قَيْصر ملك الرّوم فَأخذ كتاب رَسُول الله ﷺ وَوَضعه على خاصرته وَوصل دحْيَة وَقَالَ لَو كَانَ فِي بلادي لأتبعته ونصرته وَأرْسل عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي إِلَى النَّجَاشِيّ وَأرْسل سليط بن عَمْرو أَخا عَامر بن لؤَي إِلَى أهل الْيَمَامَة قَالَ الْوَاقِدِيّ وَأرْسل إِلَى هَوْذَة بن عَليّ الْحَنَفِيّ وَأرْسل الْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ حَلِيف بني أَسد إِلَى الْمُنْذر بن سَاوَى الْعَبْدي وَأهل الْبَحْرين وَكتب إِلَى الْمُنْذر كتابا فأسلموا وبعثوا بخراجهم
وَكَانَ أول مَا ورد الْمَدِينَة خراج الْبَحْرين وَهُوَ سَبْعُونَ الف دِرْهَم وَبعث الْمُهَاجِرين بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي إِلَى الْحَارِث بن عبد
1 / 26
كلال الْحِمْيَرِي ملك وَأرْسل عبد الله بن حذافة السَّهْمِي إِلَى كسْرَى بن هُرْمُز فَلَمَّا قَرَأَ كتاب رَسُول الله ﷺ قَالَ بَدَأَ باسمه قبلي وَقد كِتَابه سيورًا فَقَالَ رَسُول الله ﷺ اللَّهُمَّ مزق فَارس كل ممزق فَمَا أفلحوا بعد دَعْوَة رَسُول الله ﷺ
1 / 27
الْبَاب الثَّانِي
أذكر فِيهِ لم أرسل الله تَعَالَى الْبشر إِلَى الْبشر دون أَن يَجْعَل رسله
مَلَائِكَة أَو غَيرهم من خلقه وَوجه الْفَائِدَة فِي ذَلِك
قد كَانَ فِي قدرَة الله جلّ وَعلا أَن يلقِي فِي قُلُوب الْأُمَم الْإِيمَان ويوفقهم لما يرضاه من الشَّرَائِع والأديان من غير أَن يبْعَث فيهم الرُّسُل ويعرفهم الْآيَات وَالنّذر وَلكنه تبَارك اسْمه الْعَظِيم لرأفته بهم وإحسانه إِلَيْهِم بعث فيهم من أنفسهم من يخاطبهم بألسنتهم ويهديهم لمراشدهم عاطفًا عَلَيْهِم بالمجانسة ورؤوفًا بهم لِلْقَرَابَةِ قَالَ الله تَعَالَى جده ﴿لقد جَاءَكُم رسولٌ من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حريصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم﴾
الْبَاب الثَّالِث
أذكر فِيهِ مَا أوجبه الله تَعَالَى على مخالفي الرُّسُل من الْعَذَاب
قَالَ سُبْحَانَهُ ﴿وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا﴾
وَقَالَ جلّ اسْمه ﴿وَمَا كَانَ رَبك مهلك الْقرى حَتَّى يبْعَث فِي أمهَا رَسُولا﴾
وَأوجب سُبْحَانَهُ الْعَذَاب عِنْد عصيان الرَّسُول فَقَالَ تبَارك اسْمه ﴿كَمَا أرسلنَا إِلَى فِرْعَوْن رَسُولا فعصى فِرْعَوْن الرَّسُول فأخذناه أخذا وبيلًا﴾
وَقد فضل الله سُبْحَانَهُ الْمُرْسلين من أنبيائه على غير الْمُرْسلين لتبليغ الرسَالَة وَتحمل ثقل الْأَمَانَة وَالصَّبْر على أَذَى الْكَافرين وَتَكْذيب الجاحدين
وَمن أخص الْمنَازل عِنْد الْمُلُوك وألطفها وَأقرب الْأَسْبَاب مِنْهَا وأوصلها منزلَة المترسل بَينهَا وَبَين أضدادها
1 / 28
الْبَاب الرَّابِع
أذكر فِيهِ أَن الْكتاب مَقْصُور على مَعْنَاهُ الَّذِي يتضمنه لَا يتعداه إِلَى
غَيره وَأَن الرَّسُول يتَصَرَّف فِي مَذَاهِب الْحجَّة وأبرهن أَن الْكتاب
يَد وَالرَّسُول لِسَان وَأَن الْوَاجِب على الْمُلُوك أَن يقرنوا كتبهمْ
بالرسل لما فِي ذَلِك من كَمَال الْفَائِدَة وَوُجُوب الْحجَّة ولقطع الرَّسُول
الْأَمر إِذا كَانَ مَأْمُورا من غير مُرَاجعَة وَلَا يحْتَاج إِلَى اسْتِئْذَان مرسله
قَالَ الْحَكِيم الْكتاب يدٌ وَالرَّسُول لِسَان
وَقَالَ غَيره الْكتاب مقصورٌ على مَعْنَاهُ الَّذِي يتضمنه لَا يتعداه إِلَى غَيره وَلِلرَّسُولِ أَن يتَصَرَّف فِي أنحاء الْحجَّة ويتأتى لنظم الألفة ويحرص على دَرك البغية ويجتهد فِي نجح الطّلبَة اجْتِهَاد من يرى أَن فِي تَمام الْأَمر على يَده وانتظامه بسعيه وسفارته دَلِيلا على موقعه وتيمنًا بطائره وَرُبمَا حكم الرَّسُول فِي الْأُمُور وَخير فِي التَّدْبِير على حسب مَا توجبه الْمُشَاهدَة ويستصاب فِي البدء وَالْعَاقبَة
1 / 30
قَالَ بعض الادباء من الْحُكَمَاء
(لَيْسَ الْكتب ببالغٍ لَك مبلغا ... حَتَّى يكون مَعَ الْكتاب رَسُول)
(مَا فِي كتابك غير مَا حَملته ... لَكِن رَسُولك كَيفَ شَاءَ يَقُول)
(فَإِذا دمعتهما وَلم تفردهما ... بلغ التجاح وَأدْركَ المأمول)
وَقَالَ غَيره مِمَّن يجْرِي فِي الْحِكْمَة مجْرَاه
(اقرن كتابك بالرسول فَإِنَّهُ ... أقضى لما حاولت فِيهِ وأعذر)
(وَإِذا اقتصرت على الْكتاب فَإِن من ... كاتبت فِي رد الْجَواب مُخَيّر)
ان آثر التَّقَدُّم فَهُوَ مقدم ... أَو آثر التَّأْخِير فَهُوَ مُؤخر)
وَقَالَ حكمي الْعَرَب فِي التَّفْوِيض إِلَى الرَّسُول
(إِذا كنت فِي حَاجَة مُرْسلا ... فَأرْسل حكيمًا وَلَا توصه)
على أَن هَذَا الْمَذْهَب مرذول عِنْد الحزمة الألباء والمجربين الْعُقَلَاء الَّذين خبروا الْأُمُور بفطر عُقُولهمْ وأضافوا إِلَيْهِ مَا استفادوا من تجارب ايامهم
1 / 31
الْبَاب الْخَامِس
فِي نهي الرَّسُول عَن تعدِي مَا ارسل بِهِ وان يخطيء بِرَأْي الْمُرْسل
وَلَا يُصِيب بِرَأْيهِ وَنَهْيه عَن الْوَهم بالرسالة أَو التحريف لَهَا وَإِلَّا أحْوج
إِلَى رَسُول ثَان
أمروا بأَدَاء الرسَالَة على وَجههَا ونهوا عَن الشَّك والتحريف خيفة احتياجٍ مَا إِلَى رَسُول ثَان فَأخذ هَذَا الْمَعْنى بعض الشُّعَرَاء المجيدين والحكماء المطبوعين فَقَالَ
(إِنِّي انتدبتك للرسالة بعد مَا ... دبرت أَمْرِي مبدئًا ومعاودا)
(اعْلَم بأنك إِن أضعت وصيتي ... فَأَصَبْت لم أك للإصابة حامدا)
(وَإِذا أَجدت بهَا فعاقك عائق ... عَمَّا أردْت بسطت عذرك جاهدا)
(إِن الرَّسُول إِذا استبد بِرَأْيهِ ... وَعصى ولي الْأَمر كَانَ معاندا)
وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء فِي سرول وهم فأحوج مرسله إِلَى رَسُول ثَان
(شَرّ الرسولين من يحْتَاج مرسله ... مِنْهُ إِلَى الْعود والأمران سيان)
(لذاك مَا قَالَ أهل الْعلم فِي مثلٍ طَرِيق كل أخي جهل طَرِيقَانِ)
1 / 32
الْبَاب السَّادِس
اذكر فِيهِ كَيفَ كَيفَ يَنْبَغِي للرسول أَن يغْفل إِذا سفر بَين ملكَيْنِ وَكَانَ
أَحدهمَا يرعد ويبرق ويعد ويستعد ليصغر إِلَيْهِ نَفسه وَمَا أجَاب
بِهِ بعض الرُّسُل وَقد عوتب على أَنه لم يعر شَيْئا مِمَّا رَآهُ طرفه مِمَّا عظم
بِهِ فِي عين من أرسل إِلَيْهِ وَملكه
قَالَ الْحَكِيم
اختر لرسالتك فِي هدنتك وصلحك ومهماتك ومناظرتك والنيابة عَنْك رجلا حصيفًا بليغًا حولا قلبًا قَلِيل الْغَفْلَة منتهز الفرصة ذَا رَأْي جزل وَقَول فصل ولسان لسليط وقلبٍ حَدِيد فطنًا للطائف التَّدْبِير ومستقلًا لما ترجو أَو تحاول بالحزامة وإصابة الرَّأْي ومتعقبًا لَهُ بالحذر والتمييز ساميًا إِلَى مَا يستدعيه إِلَيْك ويستدفعه عَنْك إِن حاول جر أمرٍ احسن اتعلاقه وَإِن رام دَفعه أحسن رده حَاضر الفصاحة مبتدر الْعبارَة ظَاهر الظلاقة وثابًا على الْحجَج مبرمًا لما نقض خصمك ناقضا لما
1 / 33
أبرم يجيل الْبَاطِل فِي شخص الْحق وَالْحق فِي شخص الْبَاطِل مَتى رام احتجاجًا عَنْك أَلد على أهل اللدد فِي مواقفه ومشاهده محتالًا فِي محاورته ومكائده جَامعا مَعَ هَذَا الْعلم الْفَرَائِض وَالسّنَن وَالْأَحْكَام وَالسير ليحتذي مِثَال من سلف فِيمَا يُورِدهُ ويصدره عَالما بأحوال الْخراج والحسابات وَسَائِر الْأَعْمَال ليناظر كلا بِحَسب مَا يرَاهُ من صَوَابه وخطائه وَليكن من أهل الشّرف والبيوتات ذَا همةٍ عالية فَإِنَّهُ لَا بُد مقتفٍ آثَار أوليته محبٌ لمناقبها مساوٍ لأَهله فِيهَا فَمَتَى اجْتمعت لَك فِيهِ هَذِه الْخِصَال فاجعله من بطانتك وأطلعه طلع أَمرك خطيره وحقيره واستشره فِي بداتك لطيفها وجليلها وَمَتى أخلت بِهِ هَذِه الْخلال كَانَت جِنَايَته عَلَيْك أعظم وَكَانَ كالسالك طَرِيقا لَا يدْرِي أَيْن يؤم مِنْهُ
وَقَالَ أَبُو زيد فِي السياسة المختصرة وَأَن يكون الَّذِي تختاره للتوجه فِي الرسائل جهر الصَّوْت حسن الرواء والمنظر مَقْبُول الشَّمَائِل حسن الْبَيَان جيد الْعبارَة حَافِظًا لما يتبلغ لؤديه على وَجهه وَلَا يمنعهُ الصدْق عَن سُلْطَانه رغبةٌ يقدمهَا فِيمَن يتَوَجَّه
1 / 34
إِلَيْهِ وَلَا مهانة يستشعرها فِي نَفسه وَتَقْدِيم النَّصِيحَة لرئيسه فَإِنَّهُ مَتى لم يكن المستكفى لهَذَا الْعلم وَاسْتعْمل بَابا من التحريف والتمويه فِيمَا يخْتَلف فِيهِ بَين السُّلْطَان وَبَين من يراسله ويشافهه على لِسَانه بِمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فَإِن عدا هَذِه الصّفة وَقع فِي أَعمال السُّلْطَان بذلك أظهر خلل وَأعظم ضَرَر وَلذَلِك يجب على السائس أَن يجْتَهد فِي تخيره لهَذَا الْعَمَل من يصلح لَهُ ويستقل بِهِ ويجريه على وَجهه وَلَا يحْتَمل متوليه على تَقْصِير يَقع مِنْهُ فَيعرض أَمر السُّلْطَان لوُقُوع الْخلَل والانتشار فِيهِ
وَقَالَ غير الْبَلْخِي يكون الرَّسُول مَذْكُورا وسيمًا قسيمًا لَا تَقْتَحِمُهُ الْعين وَلَا يزدرى بالخبرة عفيفًا جيد اللِّسَان حسن الْبَيَان حاد الْبَصَر ذكي الْقلب يفهم الْإِيمَاء ويناظر الْمُلُوك على السوَاء فَإِنَّهُ إِنَّمَا ينْطق بِلِسَان مرسله فَإِذا ذَكرُوهُ عرف واذا نظر اليه لم يحتقر وَيجب أَن يجمل بِكُل مَا أمكن الْوَافِد والعامة ترمق الزي أَكثر مِمَّا ترمق الْكِفَايَة والسداد وَيجب أَن تزاح علله فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ حَتَّى لَا تشره نَفسه إِلَى مَا يبْذل لَهُ وَيدْفَع إِلَيْهِ فَإِن الطمع يقطع الْحجَّة وَالرَّسُول أَمِين لَا أَمِين عَلَيْهِ فَيجب أَن يرتهن بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ والإفضال عَلَيْهِ
وَاعْلَم أَن للرسالة حدودًا لَا يَتَّسِع تعديها وحقوقًا يلْزم الْقيام بهَا اولها إِيثَار الصدْق وتعمد النصح وَأَن يصدع بالرسالة وَله
1 / 35
ان يدمج الْمَعْنى الغليظ مِنْهَا ي الْأَلْفَاظ اللينة وَأَن يتأدب بأدب الله تَعَالَى فِيمَا أدب رسله الْكِرَام حَيْثُ يَقُول ﴿فقولا لَهُ قولا لينًا لَعَلَّه يتَذَكَّر أَو يخْشَى﴾
وَقَالَ شَاعِر الْعَرَب
(لينوا لنا فِي القَوْل إِنَّا معشر ... نأبى مقادتنا على الإغلاظ)
(وَالله قد أَمر النَّبِي وصنوه ... فِي وحيه بإلانة الْأَلْفَاظ)
وَالرَّسُول مَعَ هَذِه الْأُمُور مُحْتَاج من الْإِقْدَام والجرأة إِلَى مثل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْوَقار والركانة لِأَنَّهُ لَيْسَ على كل الطَّبَقَات يشْتَد وَلَا لكلها يلين وَرُبمَا لم يَسعهُ إِلَّا أَن يصدع بالرسالة على مَا فِيهَا فَمن لم يكن جريئًا حرفها وأخل بهَا وأفسد مَعَانِيهَا
وَحكى أَصْحَاب السّير فِيمَا نقلوه من أَخْبَار عبد الْملك ابْن مَرْوَان أَنه أرسل بعض أَصْحَابه إِلَى الْحجَّاج بن يُوسُف برسالةٍ غَلِيظَة وحذره من تعديها أَو إلانة ألفاظها فأداها وَعَاد إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أدّيت مَا حَملتك قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ أما لَو لم تفعل لضَرَبْت عُنُقك قَالَ الرَّسُول هَذَا عِقَاب الْمعْصِيَة فَمَا ثَوَاب الطَّاعَة فَأمر لَهُ بجائزة وحملان
1 / 36
الْبَاب السَّابِع
أذكر فِيهِ إِذا لم يكن الرَّسُول وقورًا ثَابت الْعقل وَورد من الْأَعْدَاء
على من يرعد ويبرق عَلَيْهِ وَيجمع لَهُ عدده وعدده فَأكْثر
الرَّسُول التلفت أهان مرسله
قَالَ الْمُؤلف وَمَتى لم يكن الرَّسُول وقورًا ثَابت الْعقل شجاعا وَورد من الْأَعْدَاء على من يرعد ويبرق عَلَيْهِ وَيجمع لَهُ عدده وعدده فَأكْثر الرَّسُول التلفت إِلَى ذَلِك ضعف مرسله ووهنه وأوهم الْمُرْسل إِلَيْهِ أَن صَاحبه دون قوته ومنعته
وَأورد أَصْحَاب السّير أَن رَسُولا لبَعض مُلُوك الْفرس ورد على هِشَام بن عبد الْملك وَقد كن أعد لَهُ وحشد فَلم يزدْ الرَّسُول على الإطراق وَترك التلفت وَالنَّظَر أَمَامه وَلم يعر شَيْئا مِمَّا اعد لَهُ فَقيل لَهُ ف ذَلِك فَقَالَ إِن عَيْني وقلبي مملوءان مِمَّا خلفته ورائي يشغلهما عَظِيم مَا عندنَا عَن صَغِير مَا عنْدكُمْ فَوَقع قَوْله إِلَى هِشَام فَقَالَ قَاتل الله العلج إِن صَاحبه كَانَ اعْلَم بِهِ اذا توخاه لرسالته
1 / 37
وَجَاء فِي الْخَبَر عَن سيدنَا رَسُول الله ﷺ أَنه قَالَ إِذا أبردتم إِلَيّ بريدًا فَلْيَكُن حسن الْوَجْه حسن الِاسْم
وَقَالَت الْحُكَمَاء ثَلَاثَة تدل على ثَلَاثَة الْهَدِيَّة على الْمهْدي وَالْكتاب على الْكَاتِب وَالرَّسُول على الْمُرْسل
وَقَالُوا رَسُول الرجل مَكَان رَأْيه وَكتابه مَكَان عقله
وَقَالَ الشَّاعِر
(تخير رَسُولك إِن الرَّسُول ... يدل على عقل من أرْسلهُ)
(ترَاهُ إِذا كَانَ ذَا حِكْمَة ... يبلغ أحسن مَا حمله)
(فيبرم منتقضات الْأُمُور ... وَيفتح أَبْوَابهَا المقفله)
(وَيرجع إِن كَانَ ذَا غرَّة ... عَلَيْهِ الامور الَّتِي هن لَهُ)
1 / 38
وَقيل لعبد الله بن الْعَبَّاس رضوَان الله عَلَيْهِ مَا منع عليا ﵁ أَن يرسلك يَوْم الْحكمَيْنِ فَقَالَ مَنعه وَالله حاجز الْقدر ومحنة الِابْتِلَاء وَوَاللَّه لَو وجهني لجلست فِي مدارج انفاسه ناقضا لما ابرم ومبرما لمن نقض أَسف إِذا طَار وأطير إِذا أَسف وَلَكِن مضى قدر وَبَقِي اسف والاخرة خيرٌ لأمير الْمُؤمنِينَ
1 / 39
الْبَاب الثَّامِن
فِي أَن الرَّسُول إِذا لم يكن متأنيًا صبورًا سالما من العلق وَكَانَ
متلفتًا إِلَى مَا خَلفه من أَهله وَمَاله كَانَ سَعْيه فِيمَا على مرسله لَا لَهُ
أَو عَاد على يَدَيْهِ بِأَمْر لم يفصله ورأي لم يبرمه
وَيحْتَاج الرَّسُول من الْحلم وكظم الغيظ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الصَّبْر على طول الْمكْث وتراخي الْمقَام فَإِن الرَّسُول رُبمَا وَجه إِلَى سخيف وَدفع إِلَى طائش فبدرت إِلَيْهِ مِنْهُ الْكَلِمَة البذية فيلحقه من سُورَة الْغَضَب ويتملك عَلَيْهِ من سُلْطَان الغيظ مَا يتخون عزمه ورأيه ويقطعه عَن اسْتِيفَاء حججه ويفاء كل مَا فِي رسَالَته
وَهُوَ مَعَ الْحلم والكظم أخلق بالنجاح وبلوغ المُرَاد وَإِذا لم يكن متأنيًا صبورًا مكينًا من عقله فمني بِالْملكِ الحازم المخمر لرأيه المراجع لنَفسِهِ الَّذِي لَا يمْضِي إِلَّا الرَّأْي المتعقب المنقح لم يخل الرَّسُول من أَن يهجم بِهِ الغلق والعجلة على إِحْدَى خلتين
1 / 40
لَا ثَالِث لَهما انا أَن ينقاد إِلَى مؤآتاة من أرسل إِلَيْهِ على مأتى لَهُ فِيهِ الْحَظ وعَلى مسرله الْغبن حرصًا على سرعَة الكرة وتعجل الأوبة وَإِمَّا أَن يعود بِأَمْر لم ينْفَصل ورأي لم ينبرم فَيرجع كَمَا بَدَأَ
وَمن أمثالهم رب عجلة تهب ريثًا على أَن الأول قد قَالَ وللريث فِي بعض الْأَحَايِين أسْرع
وَقَالَ بعض الشُّعَرَاء
(وَأول مَا يكون الْغَيْث طلًا ... وَيكثر ودقه فَيصير غيثًا)
وَقَالَ الآخر
(وَمَا رَاح محرومٌ وَلَا راث منجح ...)
1 / 41