وليس من يعرف سر الحكم وروح الطاعة غير المعتدلين الذين لا يرهقون العباد، فتراهم ودعاء عند الشدة تلطف كلماتهم وقر القسوة، ويخفف لينهم وطأة النظام على النافرين الجامحين، فينالون ما يتطلبه القانون والنظام، وينفذون ما شاءوا من غير حاجة إلى الاعتساف ووسائل القوة. ومن شاء أن يطلب إلى الناس عملا أو تضحية فعليه أن يبدأ هو بها قبل أن يطلبها من غيره. إن العين لترى كثيرا من القواد المستبدين فتحسبهم غزاة أشداء، وما هم إذا جاء وقت الحاجة إلا ضعاف لا حول لهم على من تحت إمرتهم؛ لنفور النفوس منهم، ولأن الجبن من صفات المستبدين. وكم من هزيمة أو اندحار نجم عن إبغاض الجنود القائد المستبد؟! وكم من القواد تراهم ودعاء حتى لتحسبهم من الجنس اللطيف؟! فإذا ما تأججت نار الوغى وحمي وطيس الحرب كانوا روحا تنشط النفوس وتشدد العزائم، فترى الجنود تحت إمرتهم يفتدونهم بالأرواح، ويعترضون سبيل الخطر غير حافلين بالحياة ولا فزعين من هول الموت. فمن شاء أن يطاع ويحترم فعليه بالاعتدال في الحكم؛ ليملك القلوب قبل إخضاع الرءوس، فإن من السهل على النفوس الخضوع مع الحب، وصعب بل ومحال ذلك عليها مع البغض والكراهية. •••
إن الرجل الذي ينفخ أوداجه الكبر وتعميه الخيلاء، حتى يقول: أنا هو القانون، هو الأحمق المتعجرف الذي يهيج روح الثورة والتمرد في الأفئدة والقلوب، ومثله وأشد منه خطرا من لا يريد أن يخضع لروح النظام، ولا يريد أن يعترف بوجود سلطة قاهرة يدين لها مع الاحترام.
في الناس كثير من هذا النوع الفاسد يهيجهم ويسوءهم النظام على وجه العموم، ويحتقرون كل رأي لسواهم وإن كان صوابا وكل انتقاد وإن كان على حقيقة، ويرون كل سلطة - وإن كانت شرعية ومن دواعي العدالة - تعديا على الحرية الشخصية. أولئك فوضى لا يعترفون بسلطة ما، ولا يخضعون لغير أفكارهم السخيفة وعقولهم القاصرة، ولا يرون من المصلحة العامة إلا ما كان منطبقا على أغراضهم ومصالحهم الشخصية، ولا أظن الحشرات المؤذية والأمراض الوبائية أشد خطرا على البلاد والعباد من هذا الفريق السقيم.
ويدخل في عداد المتكبرين كل مرءوس يشمخ بأنفه، ولا ترضيه معاملة رئيسه وإن حسنت، ويظن كل إشارة منه تحقيرا له، أو حاطة من كرامته جارحة عواطفه. فهؤلاء فريق لا يستطيع أكرم الناس وأوسعهم حلما إرضاءهم، وهم يؤدون أعمالهم بتذمر كأنما هم أرقاء مسخرون، ولا شك في أن منشأ روح الكبرياء التي تنفخ أوداج أولئك الحمقى هي الأنانية وحب الذات، فعسير عليهم أن يؤدوا عملهم تاما جيدا، وكثيرا ما يكونون سببا في المشاكل والتهويش على أعمال وحياة من يعملون بينهم؛ لسوء نياتهم وخبث نفوسهم.
ومن يعن بدرس طبائع الناس درسا دقيقا ير الكبر متفشيا منتشرا، وله مواطن عدة بين من اشتهروا بالتواضع. وقد تشتد وطأته على البعض حتى ليكون حاجزا بينهم وبين أقرب الناس إليهم، ويكون من المطامع واحتقار الغير حصنا منيعا لهم يصدهم عن الناس. والكبر - سواء أظهر أم بقي كامنا في النفس - من أردأ الصفات التي تجرد صاحبها من الإنسانية، وتمثله عدوا للجنس البشري على الإطلاق. والمتكبر - فقيرا كان أم غنيا - يقضي حياته معتلا محزونا منعزلا عن الناس، ويكون دائما سيئ الحظ لدرجة غير محدودة، ويسبب من المشاكل ما يشقيه ويتعب من يربطهم به العمل وسائر الروابط الاجتماعية.
ومن المؤكد أن معظم الكراهية والبغضاء التي تتولد بين الناس في سائر الطبقات تنشأ غالبا من هذا الداء الوبيل. نعم لا ينكر أن اختلاف المصالح وتناقض المنافع والمزاحمة على المراكز الحيوية والاجتماعية تسبب العداء بين الناس، وتجعل بينهم حوائل وموانع، ولكن الكبر يجعل هذه الحوائل سدودا عالية سميكة يقف المتكبر خلفها وجلا، يندب حظه ويتساءل مدهوشا عما إذا كانت قد انقطعت كل علاقة بينه وبين الناس. •••
كل من يكون على شيء من العلوم والمعارف ويضن على الجمهور بمعلوماته، هو ممن أخذ الكبر بخناقهم ووسمهم بميسمه الشائن؛ لأن رقي الهيئة الاجتماعية لا يتم إلا بنشر التعليم الصحيح، وعناية المتعلمين بأمر غيرهم، ومن لم يفعل فهو مقصر ملوم.
ومن عداد المتكبرين المعجبين بأنفسهم كل عاقل يحتقر من قضى عليه نكد الطالع بالجنوح عن السبيل السوي فارتكب وزرا أو أتى أمرا إدا. فمن لوازم الإنسانية الشفقة، وعدم الافتخار بفضائل النفس، والتساهل مع المسيئين، وقبول معذرة المخطئ، وكل فضيلة دالة أو مختالة تقل قيمتها الذاتية إن لم تتلاش وتزل.
ومن الخطأ الحط من قدر المواهب والكفاءة الشخصية بافتراضهما واسطة للظهور والكبر؛ لأن الفضل كله راجع إلى كليهما معا أو إلى أحدهما. واستعمال الثروة والجاه والسلطة وعواطف القلب والعلم والفكر لمجرد الزهو والكبر يقلل من فائدتها العامة، ويحولها إلى أسباب للشقاق والأذى؛ لأنها لا تثمر ولا تفيد إلا إذا حسن استعمالها، وكانت مقرونة بالتواضع والحكمة. •••
كل دين واجب وفاؤه، والشريف من يدفع ما عليه رغبة في أداء الحقوق ، لا رهبة من الوسائل القهرية. وعدم الوفاء يكون إما عن عسر وإما عن تقصير، أو عن رغبة في هضم الحقوق، ولكن الشرف في الاعتراف بالحق ووفائه بغير مكابرة، وكل ما يملكه الإنسان من متاع أو يحصل عليه من ثمرات العقول دين عليه للناس يؤدي لهم ثمنه. وليس في استطاعة الرجل أداء كل الواجبات المطلوبة منه، فهو في حكم المعسر وواجب عليه الغض من كبريائه؛ لأن المدين المعسر لا يرفع رأسه عتوا وخيلاء أمام الدائن الملح.
Неизвестная страница