وما على المرء إلا أن يقارن بين حال القرى والضياع التي يؤمها السائحون؛ لشهرة لها تاريخية أو صحية يوم كانت ملجأ للضيفان، ودليلا على وجود العاطفة الإنسانية في الإنسان، وبينها اليوم وقد انقلب الحال وأفسد حب المال تلك النفوس الساذجة والأفكار البسيطة، فحولها إلى نفوس وأفكار لصوص يترقبون مرور السائح أو الزائر؛ ليسلبوه المال في مقابل ما لا يساوي شيئا، إنهم يبيعون اليوم ما كانوا يفخرون بالجود به وما لا يملكون أيضا. إنهم يبيعون الظل والشمس والماء والهواء، ويطلبون الأجر حتى على الإرشاد للسبيل.
يقال: إن المال هو واسطة النصر في الحروب. نعم، إن الحروب تقتضي النفقات الطائلة، ولكن هل يكفي أن يبذل المال للدفاع عن الوطن وحفظ كرامته؟ إن لنا من التاريخ لخير جواب على هذا السؤال، فإن ما كان بين جيوش الفرس ونفر اليونان وانتصار الذابين عن بلادهم المستقتلين في الذود عن حياضها يناقض هذا القول ويدل على بطلانه.
نعم، إن المال يكون واسطة للإكثار من المدافع والبنادق والسيوف والرماح والقذائف والعمارات البحرية والخيول، ولكنه لا يمكن أن يكون ثمنا للمعارف الفنية والفنون الحربية والسياسات الرشيدة والنظام الدقيق والطاعة والحماسة والوطنية، والنصر - في الحقيقة - راجع إلى هذه الأسباب وتوفرها في المقاتلين.
قد يتوهم البعض أن المال وحده يخفف متاعب الهيئة الاجتماعية، ويلطف ما فيها من أنواع الشقاء. والحقيقة أن المال من بواعث التطرف والإفراط، فإن لم يكن له سياج من العقل والتعفف والطيبة والاختبار، كان سببا للإضرار بمالكه وبالغير بدلا من النفع. فكثيرا ما كان الإحسان مثلا - وهو من ملطفات الشقاء - باعثا على إفساد النفوس وتعويدها الخمول والكسل والبقاء عالة على المجتمع؛ وهذا لأن المثري المحسن لم يتخير مكان العمل، ولم يعرف كيف يميز بين من يحتاجون الصدقة وبين من يحترفون التسول. •••
ليس المال كل شيء في العالم. نعم، إن له بعض القوة والنفوذ، ولكنه ليس السلطان المطلق، وليس أكثر خطرا على الاجتماع، ولا أضر بالهيئة الاجتماعية من انتشار الطمع والأنانية، والانصراف إلى الكسب بأي الوسائل شرفت أم سفلت، فإن هذا النقص الأدبي مما يجرد الإنسان من كل صفات الإنسانية الحقة، ومما يجرد الرجل من حقيقة الرجلة وشعائر الأحياء، فضلا عن أنه ينزع الثقة من القلوب ويملؤها خبثا ونفاقا وختلا.
ولا يراد بهذا القول الصواب منع كسب المال بالوسائل المعتدلة من الوجهات الشريفة المحللة، ولا تحقير الثروة لحمل الناس على التجاوز عن طلبها والتعلق بها، وإنما يراد حصر الأعمال في الوسائل المشروعة السائغة وتطبيقها على القانون العام، وهو تقدير الأشياء بقدر ما لها من القيمة الذاتية والاعتبار الأدبي، ووضع الأعمال في مواضعها الحقيقة بها.
لقد وجد المال لقضاء حاجات الإنسان، وواسطة للتعامل وتبادل المنافع، فإذا ما تعدى هذه الغاية، وتحرر من رق الحقيقة وتغلب على العقول وأفسد النفوس، وصار له السلطان المستبد على الأفكار والقلوب، وأزرى بالحياة الأدبية والكرامة والحرية، وتعمد الناس كسبه من كل سبيل كيفما سولت لهم أنفسهم وفتقت لهم الحيلة، وإذا ما ظن الأغنياء أنه واسطة للحصول على ما لا يجوز نيله من حقوق الناس، أو أعراضهم أو كرامتهم، حق للعقلاء أن يتمردوا على هذا السلطان المستبد والمعتقد الباطل، وأن يحاربوا هذا المبدأ الفاسد ليستأصلوه من العقول السخيفة والنفوس الموبوءة؛ لتحل مكانه الحقيقة الصالحة للاجتماع، فيتلطف الشر الفاشي ويقل شقاء العالم.
وإذا كانت قيمة الأشياء تقدر بما لها من الضرورة والحاجة الماسة، حق لنا أن نذكر الناس بأن نعم الله الأكثر ضرورة للمخلوق الحي منحت بلا مقابل، وهي مشاع للجميع، فلا يجوز أن يكون لما لا قيمة له بجانب هذه الضروريات ذلك الشأن الهام والسلطان على كل العالم.
الاعتدال وحب الظهور
من أشهر الأمور الصبيانية التي امتاز بها أهل هذا العصر حب الشهرة والظهور، فلا يكاد الباحث يجد بين هذا الملأ من لم يتأصل فيه هذا الداء، وإن الناس ليخالون الهدو والسكون عارا لا يمحى فتراهم يتواثبون إلى الظهور والإعلان عن أنفسهم بما في وسعهم، وعلى قدر ما تفتق لهم الحيلة؛ ظنا منهم أن الرفعة وكل الشرف في الظهور، والحطة والهوان في الخفاء. بل ترى شأن من تجاوزتهم الشهرة شأن الضالين الذين لا يعرف لهم حيز ولا مقر، أو شأن الغرقى تحطمت بهم السفينة فألقتهم على صخر في وسط المحيط، فوقفوا على قمته يلوحون بثيابهم ويبلغون السماء بصراخهم؛ ليسمعهم سامع أو يشعر بوجودهم كائن حي.
Неизвестная страница