إن الكاذب المنافق ليؤذي نفسه على تمادي الأيام؛ لأن اليوم الذي يظهر فيه دليل الخداع والكذب سيجيء حتما فتتجلى إذ ذاك حقيقة أمره للعيون، وتزول الثقة فيه فتنفض من حوله القلوب، وتنفر منه الناس. ذلك هو يوم سقوطه من حالق، وتدهوره إلى الحضيض، وضياع كل أمل له في الحياة؛ لأنه لا شيء أشد من سخط الجمهور على المنافق الذي يخدعه ويغرر به، ولا أصعب على الإنسان من توقي هياج الشعب الساخط عند هياجه. إن الأوراق اليابسة لا تقاوم الريح الصرصر، وكذلك المنافق لا يقوى على مناهضة الأمة في اندفاعها عليه لتثأر منه. وإن اليوم الذي يتضح فيه الخداع والنفاق لهو اليوم الذي توصد فيه الأبواب في وجوه المنافقين، وتسد الآذان عن سماع المكر والرياء، بل وعن سماع النصح الصادق والإرشاد الحق، وهذه هي الطامة الكبرى والجناية التي لا تغتفر للذين يخدعون الناس، ويضيعون الثقة بالكتاب والمرشدين.
وإذا كانت القوانين تعتبر مزيفي النقود جناة مجرمين؛ لأنهم يغشون المتعاملين في منافعهم المادية، فما قولك بمن يفسد العقول والضمائر ويزيف النفوس، ويسممها بالكتابات المنتشرة والأقوال المتداولة؟
إن الضرب على أيدي هذا النوع من الكتاب والخطباء واجب تقضي به الإنسانية ونظام الاجتماع؛ لأنهم يعدمون الثقة، ويميتون العقول، ويزعزعون أقوى أركان السلام، ويفسدون نظام العالم، ويشوهون جمال الحقائق وجلالها.
فمن المهم الجدير بالاعتبار العناية باللسان والقلم وتقييدهما إلا عن نشر الحقائق والأفكار السديدة المعقولة. والاعتدال في القول خير من التهور المرذول. ولا شيء في الكتابة أقبح من استعمال العبارات المبتذلة، والكلمات ذات المعاني المتعددة التي تحتمل الحسن والقبيح. ولا هنالك أشرف من ذكر الحقيقة مجردة من الغاية والمصلحة الشخصية، وكل ما خالف هذا فهو خداع ممقوت مضر بالجمهور، وحطة في قدر الكاتب، ووصمة على الخطيب، والرجل الكامل من كان له فكر ثابت وقول حق صريح، فإن الصدق - وإن ثقلت خطواته - أسرع من الباطل وأضمن للفوز وتحقيق الآمال.
وليس الغرض الحط من شأن الكتابة في ذاتها، أو منع الكتاب من استعمال الغلو والإغراق وسائر المحسنات اللفظية، أو حض الناس على إهمالها، فإن النفس لتتوق إلى هذه المحسنات، وتعترف بما لها من التأثير في إبداع القول. والعقل يؤكد أنها الوسيلة الفعالة ذات التأثير الشديد في ترقية الكتابة وتخريج المجيدين من الكتاب والشعراء، ولكن من المعروف أيضا أن أحسن المواضيع وأجودها هو ما لا يحتاج إلى عناء في صوغ عباراته وتنسيق كلمه؛ لأن الموضوع الجليل مجموعة أفكار عالية تؤثر بطبيعتها فيشعر بجلالها العقل والنفس. وقد تكفي أبسط الكلمات وأسهل اللغات لصوغها في قالب سهل مفهوم، بدلا من قتل الوقت وإجهاد الفكر في انتخاب الكلمات ورصف العبارات التي كثيرا ما ترغم الكاتب على إفساد المعنى وتشويه الفكر إذا انصرف عن جلالهما إلى تزويق الألفاظ. والأفكار العالية لا تحتاج إلى الطلاء الغريب لتظهر في سماء رفعتها وأفق جمالها؛ لأن قوتها في ذاتها وسموها في رجحانها وأصالتها.
وليس كل من يحسن التوشية ورصف الكلمات بالكاتب المجيد، أو الخطيب المفوه، ولكن هذا اللقب من حق كل مفكر يجمع شتات المعاني الراقية، والأفكار السديدة في القالب اللغوي الفصيح. ولا شيء أبلغ من السهولة عند التعبير والإقناع بالأدلة المعقولة الخالية من التعقيد المضني والركاكة المملة.
إن نظرة واحدة في بعض الأحايين، أو إشارة لطيفة في بعض الأحوال لتعرب عن انفعال نفساني، أو ألم شديد، أو إخلاص، أو سرور، أو حزن إعرابا لا تؤديه أبلغ العبارات في كل لغات العالم. ولا يتأتى للإنسان التعبير عن حقيقة عواطفه وشعوره إلا بأبسط العبارات وأسهلها؛ حتى لا تضيع الفائدة المقصودة والتأثير المراد من شرح أسرار القلوب وخفايا الصدور. ولا تتأتى المحاجة إلا بالحقائق واللغة السلسة والاعتدال في القول - عند الشرح - أكثر إقناعا من العبارات المعقدة، والتهوس في الجدل المطول الممل؛ لأن الاعتدال في القول أكثر فائدة للقائل من الشطط والحدة، وصالح لكل الأزمان، ومحمود في كل المواقف.
ولا شيء أنجح من الصدق في الرواية والإيجاز في الإعراب عن اعتقاد راسخ، أو عند شرح العواطف والإحساسات النفسية، سواء كان ذلك في المواقف العمومية أو في المفاوضات الخصوصية. وليس أوقع في نفس المطالع أو السامع من الكلمات القليلة التي تصدر حقيقة من القلب لتصل إلى القلب، أما الكلمات المنتقاة للتوشية والتحسين اللفظي فإنها كالزخارف المادية، التي تساوم بالمال الكثير، ولا تؤدي فائدة جزيلة لمن يبتاعها. ولما كان الغرض من القول أو الكتابة الإعراب عما في الفكر؛ كان من الواجب تأدية ذلك بما لا يزيد عن المعنى خوفا من ملل السامع أو المطالع.
كم من الخطباء غرضهم الوحيد من الخطابة الوقوف بين الجماهير؛ لسماع تصفيقهم الحاد بعد ملء الآذان بكثير من العبارات المنتخبة؟ وكم من السامعين يكتفون بالسماع فقط وبالتلذذ ببلاغة المقول، فإذا ما اجتازوا باب المكان نسوا ما سمعوه وأعجبوا به والتهوا بالمشاهد الجديدة عن حديث ذلك المهذار الصداح؟ ولو كان هذا مبلغ تأثير ما يقال ويكتب في النفوس والعقول، لكانت نتائج التفكير والتحبير مجموعة من الخطابات المنمقة والكتابات المزخرفة، وخليطا من القطع التمثيلية وضعت كلها للهو والتلذذ بها حينا من الوقت، ووقفت فائدتها عند هذا الحد كأن مهمة العقل مقصورة على ذلك، بغير محاولة اكتساب الفوائد الجمة التي تمحصها العقول وتبحث عنها في شتات الحوادث وبين صنوف الأباطيل.
إن ارتفاع صوت العاطلين الذين لا هم لهم إلا الصياح والضوضاء؛ بغية الشهرة والظهور يغري الجمهور ويضلله وينسيه أن العامل المفيد أكثر الناس هدوءا وأقلهم جلبة، وينسيه أن كثرة الإعلان تدل على عكس المعلن عنه. فلولا فراغ جوف الطبل لما أزعج صوته الفضاء. فالصمت خير من القول الهراء، والسكون أفضل من الجلبة، والقوة التي لا تستنفد في التهوس تدخر للعمل المفيد وتكون ربحا من غير عناء ولا خسارة. ألا ترى أن الباخرة التي تستنفد بخارها في الصفير وإزعاج الكون بصراخها لا تجد في مستودعها قوة لمواصلة السير والوصول إلى غايتها؟
Неизвестная страница