Руссо: Очень короткое введение
روسو: مقدمة قصيرة جدا
Жанры
شكر وتقدير
1 - حياة وعصر مواطن من جنيف
2 - الثقافة والموسيقى وفساد الأخلاق
3 - الطبيعة البشرية والمجتمع المدني
4 - الحرية والفضيلة والمواطنة
5 - الدين والتربية والجنس
6 - أحلام يقظة جوال
المراجع المقتبس منها
قراءات إضافية
مصادر الصور
Неизвестная страница
شكر وتقدير
1 - حياة وعصر مواطن من جنيف
2 - الثقافة والموسيقى وفساد الأخلاق
3 - الطبيعة البشرية والمجتمع المدني
4 - الحرية والفضيلة والمواطنة
5 - الدين والتربية والجنس
6 - أحلام يقظة جوال
المراجع المقتبس منها
قراءات إضافية
مصادر الصور
Неизвестная страница
روسو
روسو
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
روبرت ووكلر
ترجمة
أحمد محمد الروبي
مراجعة
مصطفى محمد فؤاد
إحياء لذكرى أشعيا برلين
Неизвестная страница
شكر وتقدير
لم يتطلب إنجاز هذا العمل وقتا يتجاوز الأسابيع الثمانية التي رصدت من أجله من الأساس، لكن ما أنجز في هذه الأسابيع جمع على مدار فترة لا تقل عن ثماني سنوات. لقد اقتبست في هذا الكتاب بضع صفحات من أعمال سابقة عن روسو مع إعادة صياغتها بحيث تتلاءم مع النص؛ وذلك على النحو التالي: المقالة الخاصة بروسو في كتاب «الفكر السياسي من أفلاطون حتى الناتو» (لندن، 1984)، في الفصل الأول، و«خطاب حول الفنون والعلوم» وإرهاصاته، من كتاب «تقييمات جديدة لروسو»، تحرير إس هارفي وإم هوبسون، وآخرين (مانشستر، 1980)، و«روسو عن رامو والثورة»، من كتاب «دراسات عن القرن الثامن عشر»، المجلد الرابع، تحرير آر إف بريسيندن وجيه سي إيد (كانبيرا، 1979)، في الفصل الثاني، و«مفهوما روسو عن الحرية» من كتاب «الحيوات والحريات والمصلحة العامة»، تحرير جي فيفر وإف روزين (لندن، 1987) في الفصل الرابع. وحيثما أمكن، حاولت إدخال التصحيحات أو التنقيحات التي اقترحها علي أو لفت نظري إليها جون هوب ميسون وكوينتن سكينر. وإنني أدين بالفضل للسير كيث توماس لصبره الذي لا يتخيله عقل؛ إذ سمح لي بأن أعلم بمشكلات نشر الكتاب بمجرد أن تحدث وأعمل على حلها، ولتنقيحاته الدقيقة جدا لأسلوبي. وأتقدم أيضا بخالص الشكر والتقدير لمحرري العمل - سوزي كيسمنت وكاثرين كلارك - بمطبعة جامعة أكسفورد لتشجيعهما الشديد لي بما يتجاوز أي نداء لأداء الواجب. أدين بالفضل أيضا لمارلين دان وكارين هول لإعدادهما نسخة مكتوبة على الآلة الكاتبة من الكتاب وإخراجها بالتنسيق المطلوب.
نوفمبر 1993
لقد اغتنمت الفرصة التي أتاحتها لي إضافة الصور لهذا النص لتعديل بعض التفاصيل، بعضها لأغراض الإيضاح، وكذلك لتصحيح خطأين لفت نظري إليهما مترجم اللغة اليابانية الخاص بي شوجي ياماموتو. ولقد شجعني ظهور طبعات جديدة خلال السنوات الأخيرة من كتابات روسو بالفرنسية والإنجليزية على تنقيح أو إضافة العديد من المراجع. فقد أسهبت في عرض أفكار بعينها، ولا سيما في الفصول الأول والثالث والرابع. وضمنت في الفصل السادس، الذي حاكيت فيه أسلوب روسو نفسه قدر الإمكان، والذي كان عرضة أيضا لقيود لغة أخرى ومتطلبات التفسير السياقي، مادة أكبر عن الموسيقى.
مارس 2001
الفصل الأول
حياة وعصر مواطن من جنيف
كان لروسو - وكذا لمونتسكيو وهيوم وسميث وكانط من بين معاصريه - أكبر الأثر في التاريخ الفكري الأوروبي المعاصر، ربما بما يتجاوز أثر جميع معاصريه. فلم يساهم مفكر مثله من مفكري القرن الثامن عشر بكم أكبر من الكتابات المهمة في نطاق كبير جدا من الموضوعات وبأشكال مختلفة من أشكال الكتابة، ولم يضارعه أحد في كتابته من حيث الحماس المتقد والفصاحة البليغة. ولم يتمكن أحد غيره - من خلال أعماله وحياته - من أن يثير الخيال العام أو يربكه بهذا القدر من العمق. ويكاد يكون روسو وحده بين أبرز رموز التنوير الذي عرض التيارات الأساسية للعالم الذي عاش في جنباته إلى أكثر الانتقادات إلهاما، حتى حين كانت غايته الطعن في مسارها، وعندما اغتنم قادة الثورة الفرنسية لاحقا الفرصة لمحاولة وضع النظريات السياسية محل التطبيق العملي، فقد كانت بوصلتهم في المقام الأول موجهة تجاه أفكار روسو.
وشأنه شأن غيره من أبرز كتاب عصره، كان لروسو بطبيعة الحال العديد من الاهتمامات بخلاف السياسة. فقد كان مؤلفا موسيقيا محبوبا جدا، ومؤلفا لقاموس كبير ومهم للموسيقى، وهو الموضوع الذي ربما استرعى انتباهه أكثر من غيره طيلة حياته. ورغم أن عددا من أبرز كتاباته المبكرة المهمة تعاطت مع الفنون والعلوم وفلسفة التاريخ، فمن الواضح أن شغفه الأساسي خلال سنواته الأخيرة انصب على علم النبات الذي خصص له مجموعة من الرسائل أمست بعد ترجمتها للإنجليزية مرجعا شهيرا في هذا العلم في إنجلترا. ولقد أشعل مؤلفه «أحلام يقظة جوال منفرد» ثورة من الطبيعية الرومانسية في شتى أرجاء أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، بينما حظيت روايته «إلواز الجديدة» بأوسع انتشار بين القراء في زمانه. علاوة على ذلك، يعد مؤلفه «اعترافات» أهم عمل للسيرة الذاتية منذ السيرة الذاتية للقديس أوغسطين، وكذا مؤلفه «إميل» عد أهم عمل عن التربية بعد كتاب «الجمهورية» لأفلاطون. ومع ذلك، فقد حقق روسو أوسع شهرة له كفيلسوف أخلاقي ومفكر سياسي.
لقد قدر لمحل ميلاده وطفولته المبكرة أن يتركا انطباعات عميقة على حياته ونموه الفكري. ولد روسو عام 1712 في جنيف، وكانت مدينة صغيرة يعتنق أهلها الكالفينية وتحيط بها مجتمعات كبيرة كاثوليكية في الأغلب الأعم؛ فكانت دولة جبلية تحميها من أي غزو حدودها الطبيعية والثقافة السياسية لمواطنيها، والأهم من ذلك أنها كانت جمهورية في وسط دوقيات وممالك. وعندما وصف روسو لاحقا كاهن سافوي في روايته «إميل» وهو يدين بالإيمان لرب تصل إليه من خلال الفطرة لا الوحي المنزل من السماء، على تل يطل على إحدى المدن، تخيل صورة لتواصل مباشر بين رجل وخالقه كذلك الذي يمكن أن يشاركه إياه قليل من سكان المدن الأخرى التي يعرفها. وفي معارضتهم للحكم الاستبدادي والامتيازات التي تمنح للمنتمين للطبقة الأرستقراطية والتي تقوم على الفساد والرشوة، اعتبر كثير من مفكري القرن الثامن عشر الملوك التقدميين حلفاء لهم في قضية الإصلاح. لكن روسو لم يبد أيا من الثقة التي تحلى بها معاصروه في احتمال وجود حكم مطلق مستنير. وبينما دفع وجود التزام راديكالي، وهو الذي قلل منه الخوف من الرقابة، لدى ديدرو وفولتير وغيرهما لنشر مؤلفاتهم دون وضع أسمائهم عليها، استغل روسو كل فرصة سانحة له لينشر أعماله بتوقيع «مواطن من جنيف»، ولم يكف عن ذلك إلا بعد أن اقتنع بأن بني وطنه فقدوا بوصلتهم بشكل كامل. ولم يكن أي من رموز التنوير أكثر من روسو عداء للمسار الذي اتخذته الحضارة السياسية، ولم يكن أي منهم في الوقت نفسه فخورا بهويته السياسية شأنه.
Неизвестная страница
شكل 1-1: منظر لجنيف حوالي عام 1720 بريشة روبرت جارديل.
توفيت أم روسو بعد أن أنجبته مباشرة، فتعهده أبوه بالرعاية وتحمل مسئولية تربيته. وكان يعمل في إصلاح الساعات، وكان صاحب مزاج رومانسي متقلب وسريع الغضب. وقد ألهم روسو حب الطبيعة وعشق الكتب، ولا سيما الأعمال الكلاسيكية والتاريخ. لم يحصل روسو على تعليم رسمي قط، وبدا بين الفينة والأخرى أنه يعوض هذا القصور بتذييل كتاباته بحواش مطولة أقر فيها مصادر لم يجشم أقرانه المتعلمون تعليما جيدا أنفسهم عناء الاستشهاد بها. لكن أم روسو ورثت مكتبة كبيرة، وقد شجع انبهار روسو الصغير بالأدب أبوه المثقف بطريقة تثقيفية وصفها لاحقا روسو في مؤلفه «اعترافات» بأنها مميزة لحرفيي جنيف بالمقارنة بحرفيي غيرها من البلدان. وورث من أبيه أيضا جل إخلاصه الشديد لمحل ميلاده؛ حيث «كل الناس إخوة» و«مقر السعادة والفردوس»، كما قال لاحقا. ولقد خصص روسو على الأقل اثنين من مؤلفاته الرئيسية - «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» (1758) و«رسائل من الجبل» (1764) - في المقام الأول لتناول ثقافة بلده الأم أو نظامه السياسي، وألمح إلى أن عقده الاجتماعي المشار إليه في كتابه «العقد الاجتماعي» وضع بحيث يصور المبادئ النبيلة لهذا البلد. ولم يصور روسو في أي من مؤلفاته مفهومه للإخاء السياسي بقدر أكثر ثراء مما فعل في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» حيث استرجع الاحتفالات البهيجة التي كانت تقام في الخلاء لكتيبة عسكرية جنيفية والتي ألهبت خياله وهو صبي (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح).
لكن تعلقه بأبيه وبمحل ميلاده لم يساعده على تجاوز فقدانه لأمه. فعندما بلغ الخامسة عشرة من عمره، تعرف على بارونة سويسرية تسمى السيدة دي وارين، كانت تعيش في آنسي بدوقية سافوي التي توجد غرب جنيف تماما. ولقد اشتهرت هذه السيدة وهي لم تزل في التاسعة والعشرين من عمرها ببراعتها في إقناع اللاجئين البروتستانتيين باعتناق الكاثوليكية، وقد استقبلت روسو في بيتها وقربته منها بحفاوة ضيافتها التي التقت مع حماسه الشديد. وعلى مدار السنوات العشر التالية، أولا في آنسي ومن بعدها في شامبري وأخيرا في المختلى المثالي بوادي لي شارميت، أمسى روسو عشيقها وتلميذها. وبتوجيهها وببعض الدعم من تابعيها والمتحولين للكاثوليكية على يدها، أكمل روسو تعليمه، خاصة في الفلسفة والأدب الحديث اللذين لم يكن يعرف عنهما إلا القليل من قبل، وبدأ يفكر في امتهان مهنة الكتابة. وجزئيا أيضا بإلهام من الحماس الديني للسيدة دي وارين، ارتبط روسو بالرب ومعجزات خلقه، الأمر الذي ميز معتقداته الدينية عن معتقدات معظم معاصريه من المفكرين الذين كانوا إما ملاحدة وإما متشككين، ومرتابين في حماسه المفرط؛ حيث بدا لهم أشبه بالخرافات الصوفية للكنيسة الإكليريكية التي كان غايتهم هدمها. وطيلة فترة عشقهما، ولبقية حياته كان روسو ينادي السيدة دي وارين بلقب «أمي»، نسبة إلى خصال العذوبة والبهاء والجمال التي تاق، وهو طفل يتيم الأم، للعثور عليها في جميع النساء اللائي وقع أسيرا لسحرهن لاحقا.
كانت تيريز لوفاسور التي عاش معها روسو منذ عام 1745 تقريبا وحتى وفاته، وانتهى الأمر به إلى الزواج منها، أقل جاذبية وفتنة بعض الشيء وأدنى تعليما بكثير من السيدة دي وارين. ورغم عذوبتها الفاتنة الغضة أصلا، لم تستطع أن تملك عواطفه كما فعلت السيدة دي وارين. ورغم أنه كان بحاجة إلى حنان الأم وكذا إلى الإشباع الجنسي من المرأتين الأبرز في حياته، لم يكن روسو يحتمل فكرة تكوين عائلة خاصة به حتى إنه هجر أبناءه الخمسة الذين أنجبتهم له تيريز، تاركا مصيرهم المجهول في أيدي إحدى دور الأيتام العامة. وزعم روسو لاحقا أنه كان مدقع الفقر لدرجة تحول دون إعالته أطفاله على النحو الملائم، لكن سلوكه نحوهم جعله يشعر بالأسى والخزي الشديدين. ولا شك أن ذلك جعل القراء يتساءلون كيف أمكنه أن يخط أطروحته الرائعة عن تربية الأطفال؛ «إميل»، التي يمكن أن يراها القراء في بعض جوانبها على أنها محاولة للتكفير عن أخطائه تجاه أطفاله؟! وحتى يومنا هذا، وصم هجر روسو لأطفاله الصورة العامة لشخصيته أكثر مما فعلت أي من خصاله الأخرى .
شكل 1-2: صورة ظلية لتيريز لوفاسور.
اتضح أيضا أنه كان أقل اكتراثا من المفترض باحتياجات السيدة دي وارين؛ إذ ألمت بها أزمة مالية طاحنة في خمسينيات القرن الثامن عشر حتى إنها اضطرت إلى تسجيل اسمها ضمن قوائم الفقراء الذين هم بحاجة لإعانة من الحكومة. ووافتها المنية دون أن تفر من مستنقع الفقر الذي سقطت فيه، ودون أي اتصال من روسو، في صيف عام 1762 بينما كان منشغلا بقلقه حيال تأمين نفسه إثر استنكار السلطات الدينية أو العلمانية لكتاباته في فرنسا وسويسرا. وفي أحد الشعانين، أو الثاني عشر من أبريل عام 1778، وقد دنا أجله ولم يفصله عنه سوى أسابيع قلائل، خط روسو واحدة من أفصح صفحاته على الإطلاق، ألا وهي الجولة العاشرة في كتابه «أحلام يقظة جوال منفرد»؛ حيث تأمل مرور 50 عاما على اليوم الذي التقى فيه السيدة دي وارين التي ارتبط مصيره بمصيرها، واستمتع بين ذراعيها بفترة قصيرة وعذبة من حياته كان فيها على سجيته تماما «دون قيود أو مشاعر مختلطة، واستطاع فيها الجزم حقا بأنه عاش أفضل أيام حياته» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد).
عندما شرع روسو في أواخر العشرينيات من عمره في الاستقلال بحياته، كان يحصل على أجر متواضع من اشتغاله بالتدريس الخاص في المقام الأول، وكذلك من تدوينه للموسيقى، وعزم على أن يغزو باريس بمسرحية كوميدية، بعنوان «نرسيسس»، وبشكل جديد للنوت الموسيقية. وبعد وصوله إلى باريس عام 1742 بفترة وجيزة، اتخذ روسو من ديدرو صديقا له. كان ديدرو في مثل عمر روسو، ويتمتع بنفس الخلفية والطموح. ودامت رفقتهما 16 عاما. لكن لم يكن لهما نفس المزاج في واقع الأمر؛ حيث كان ديدرو لبقا ولطيفا أكثر، بينما روسو أكثر حساسية ودأبا. لكنهما تقاسما اهتمامات مشتركة في المسرح والعلوم، ولا سيما الموسيقى. وعندما تعاون ديدرو ودالمبير معا وقاما بتحرير «الموسوعة»، كلف روسو بكتابة أغلب المقالات المتعلقة بالموضوعات الموسيقية، ومقالة عن الاقتصاد السياسي. وفي عام 1749، إثر نشر مقالته المعنونة ب «رسالة عن الأكفاء»، كابد ديدرو مأساة الاعتقال لفترة وجيزة في سجن فانسين، وكان يزوره روسو بصفة يومية تقريبا، وسعى لدى السلطات للإفراج عنه. وذات يوم وهو في طريقه إلى زيارة صديقه من مسكنه في باريس، صادف روسو إعلانا عن مسابقة لكتابة مقالة عن الفنون والعلوم وأثرهما الأخلاقي على البشرية. وكان من المقدر أن تغير هذه المسابقة مسار حياته. شارك ديدرو روسو في بداية الأمر حماسه بالأفكار المعارضة للحضارة التي تشكل «الخطاب» الأول، لكن حماسه كان مرجعه وحسب أنه أعجب بالفكرة المستفزة أن أحد المساهمين البارزين في موسوعته للفنون والعلوم ينبغي أيضا أن يتولى مهمة التشكيك فيها. وكان منه أن تبنى لاحقا بعض الأفكار الأخلاقية الراديكالية، ومنها ما كان قريب الشبه جدا بأفكار روسو نفسه، ولو أنه ظل دوما على قناعة بما أنكره روسو؛ ألا وهو أن تطور المعرفة والثقافة يفضي إلى الارتقاء بالسلوك البشري كلما نبع من الفضول الحقيقي الذي يتسق مع طبيعة الإنسان.
تخللت فترة إقامة روسو في باريس انتقاله لفترة وجيزة للبندقية وتعيينه في 1743-1744 سكرتيرا للسفير الفرنسي هناك. في شبابه، قام روسو بزيارة مدينة تورينو، وتعلم الإيطالية هناك حيث استمتع بالموسيقى الإيطالية التي سمعها كثيرا بحماس متقد لما تتسم به من انسيابية ووضوح لا يشوشهما أي زيادات في التنقيح كتلك التي تتسم بها الأنماط الموسيقية الفرنسية. في تورينو، وجد روسو الأداء الأوركسترالي الممتع المصاحب للطقوس الدينية أكثر جاذبية من الترانيم الجامدة التي عدت، تجاوزا، ضربا من الموسيقى في كنائس جنيف. وفي البندقية، تحمس روسو أيضا للموسيقى العلمانية والدارجة التي غمرت حواسه بالأنغام الشعبية المستخلصة من الشوارع والحانات بالقدر الذي غمرتها الموسيقى المسرحية. ولاحقا، بعد عودته إلى باريس، قارن بين الأوبرا الإيطالية والفرنسية، مرجحا الأولى على الأخيرة، على أساس أن اللغة الفرنسية أقل انصياعا وطواعية للتعبير الموسيقي، والأسلوب الفرنسي للموسيقى الغنائية يفتقر أصلا إلى التتابع النغمي الواضح، وتثقل كاهله بشدة الجماليات الموسيقية والإضافات المتآلفة السطحية.
شكل 1-3: صفحة العنوان المنقوشة لأوبرا «عراف القرية» (باريس، 1753).
أدى الخلاف الذي نشب في منتصف القرن الثامن عشر بين روسو ورامو، أبرز المؤلفين الموسيقيين بفرنسا والمنظر الموسيقي الأشهر في عصره، إلى الهجوم بعنف على أفكار روسو هذه الخاصة بالموسيقى. وكانت مقالة روسو المعنونة ب «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» عام 1753 - التي شنق العامة على إثرها تمثالا لروسو تعبيرا عن كراهيتهم له؛ وذلك لأن التأملات الواردة فيها عن الموسيقى الفرنسية عدت مثيرة للفتن - أحد أكثر مؤلفات روسو إشعالا للشقاق، والمؤلف الوحيد، بحسب زعم روسو نفسه في كتابه «اعترافات» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات)، الذي عرقل اندلاع ثورة سياسية في فرنسا. كان طرد الملك لقضاة برلمان باريس في نوفمبر من ذلك العام في أزمة وطنية اندلعت إثر الصراع بين الينسينيين واليسوعيين؛ قد أحدث اضطرابات عنيفة، لكنها لم ترق، بحسب زعم روسو، إلى الاضطرابات التي أشعلها مؤلفه عن الموسيقى الذي صرف انتباه العامة عن القيام بثورة ضد الدولة وتحولت إلى ثورة ضد شخص روسو. ومن المفارقة أن الأيام أثبتت أن «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» هو المؤلف الوحيد لروسو الذي حظي بالتأييد الكامل تقريبا للمفكرين الذين انشغلوا بقضية الموسيقى الإيطالية بحماس لا يقل عن حماس روسو نفسه. في عام 1752، ألف روسو أوبرا بعنوان «عراف القرية» أنتجها بأسلوب إيطالي، ولاقت إعجابا شديدا من الناس حتى إن كلا من جلوك وموتسارت قلداها وتفوقا على روسو في جودة عملهما. وعندما نشر روسو «قاموس الموسيقى» عام 1767 الذي استقاه إلى حد كبير من مقالاته المخصصة ل «الموسوعة»، كان عليه أن يستعرض أفكاره المبكرة حول الموسيقى والأوبرا بتفصيل أكبر مما سبق، بينما في عمله «مقالة عن أصل اللغات»، الذي يرجع إلى أوائل ستينيات القرن الثامن عشر، استطاع أن يربط بين تلك الأفكار وفلسفته التاريخية، ناسبا حيوية موسيقية أكبر للغة اللاتينية القديمة مقارنة بالفرنسية المعاصرة، وعازيا فضائل وحرية أكثر لمواطني الجمهوريات القديمة الذين عبروا، بحسب رأي روسو، عن مشاعر الإخاء في جمل موسيقية فضفاضة من النوع الذي لم يعد شائعا بين رعايا الحكم الملكي المعاصرين.
Неизвестная страница
في كتابه «اعترافات»، علق روسو على اكتشافه أيضا، في البندقية، أن «كل شيء يعول بالكامل على السياسة»؛ ولذلك فإن «الشعوب في كل مكان هي نتاج ما يريده من يحكمونهم منهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). وكان روسو مقتنعا بأن البشر ليسوا أشرارا بطبيعتهم، لكنهم باتوا كذلك بشكل متكرر جدا تحت وطأة الحكومات العقيمة التي أنتجت الرذائل. وإذا كان كل شيء يعول على السياسة، فمن الممكن عزو الشخصية السوية لبني وطنه الجنيفيين من ناحية، والفساد الأخلاقي لجمهورية البندقية التي كانت لها مكانة مرموقة في فترة من الفترات من ناحية أخرى، لنفس السبب. إثر إقامته في البندقية وعودته إلى باريس، عاصمة أعظم الممالك آنذاك، كان روسو في موقف يسمح له بالمقارنة بين أعمال ثلاثة أنظمة سياسية مختلفة جدا، يتحمل كل منها مسئولية تشكيل شخصية شعبها. ولاحت أول فرصة له للربط بين أفكاره عن اضمحلال الثقافة والجذور السياسية للرذيلة في عام 1749 عندما كتب مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم». قال روسو في مقالته إنه بينما كان أسلافنا أقوياء، نجد أن الغلو في الفخامة والرخاء استنفد حيويتنا وجعلنا عبيدا للمظاهر الخارجية للحضارة. لقد أنتجت أسبرطة أمة قوية؛ لأنها لم تكن مهتمة بالفنون والعلوم، بينما عجزت أثينا الدولة العتيقة الأكثر تحضرا عن الحيلولة دون تحولها لدولة استبدادية، ولازمت الأبهة المتزايدة لروما وغيرها من الإمبراطوريات تراجعا في قوتها العسكرية والسياسية. في كل مكان، كان روسو يرى أن «الفنون والآداب والعلوم تنتشر انتشار أكاليل الزهور حول القيود الحديدية التي تثقل كاهل الرجال وتكبلهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبقدر غيره من الأفكار الأخرى الواردة في مؤلفاته اللاحقة، ظل هذا المبدأ - ألا وهو تحديدا أن «المعرفة» تنبع من «القوة» - بعد ذلك ركنا أصيلا في فلسفته. كان روسو قد استلهم هذا المبدأ من السفسطائيين القدماء ثم أعاد كل من ماركس ونيتشه صياغته بعد روسو، ومن ثم صار مبدأ محوريا للنقد ما بعد الحداثي لعصر التنوير بصفة عامة.
حصل روسو من خلال مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم» على الجائزة الأدبية التي ألف المقالة لأجل الحصول عليها، وبين ليلة وضحاها تقريبا حولته الجلبة التي أحدثتها تلك المقالة من أديب مغمور شارف على منتصف العمر إلى أشهر سوط موجه للحضارة الحديثة. ومن بين العوامل الأساسية وراء سمعة تلك المقالة السيئة الطريقة التي قلب بها الرؤية السائدة في القرن الثامن عشر للصراع الملحمي بين الفضيلة والرذيلة. تحدث فولتير نيابة عن كثير من الرجال ذوي الآراء المستنيرة في عصره عندما ربط، في مؤلفه «رسائل فلسفية» وفي أعمال أخرى، ما بين الفضيلة وتقدم العلم والتعلم، وصور التحسن التدريجي للسلوك البشري في ضوء الصحوة البطيئة لأوروبا الحديثة من مستنقع عصور الظلام التي اتسمت بالخرافات والجهل. ولقد وضع ديدرو ودالمبير مؤلفهما «الموسوعة» على نفس هذا المنوال تقريبا. وفي المقابل، نجد أن روسو أشاد بمزايا العصر الذهبي القديم الهمجي الذي حرم منه البشر وضيعوه بسبب شهوتهم العمياء للتعلم. وبذلك لم يعط روسو الانطباع وحسب بميله إلى الهمجية وتفضيلها على الحضارة، بل بدا أيضا لمعاصريه المستنيرين وكأنه نسي أن المصدر الأساسي للشقاء والقنوط في العالم المعاصر، ألا وهو الكنيسة المسيحية، استقى قوته من الصوفية نفسها تقريبا التي عززها الجهل الذي أثنى عليه روسو في العالم القديم. شجب فولتير وأتباعه هذه الرؤية الخاصة ببراءتنا القحة، واتهموا روسو بالتخلي عن قضايا الإصلاح السياسي والديني التي كان حريا به أن يساندها لينتكس إلى حالة من الغباء الفج. لقد كان هذا التقييم لنظريته عن طبيعة الإنسان من عدة أوجه بعيدا كل البعد عن الصواب، لكنه ركز على أحد المبادئ المحورية لفلسفته، الذي أقر كثيرا بكونه المشكاة التي تستنير بها أعماله، ألا وهو أنه بينما يفعل الخالق كل ما هو خير، فإن البشر يفعلون كل ما هو شر وخسيس. لقد كان روسو يؤمن أن الشر هو التبعة الأساسية لأعمال البشر، إن لم يكن دوما غاية النيات البشرية.
في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، انشغل روسو بشكل أساسي بكتاباته عن الموسيقى، ومواجهة اعتراضات بعض نقاد مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم». ولقد كان يدين على نحو ما لهؤلاء الذين صرفوا انتباهه عن انحدار الثقافة ووجهوه بدلا من ذلك إلى الأثر الوخيم للعوامل السياسية والاقتصادية على الأخلاق ، ما دام أنهم رددوا، بحسب ما تراءى له، حقيقة اكتشافه المتعلق بالفساد الأخلاقي لجمهورية البندقية. بحلول خريف عام 1753، شرع روسو في صياغة نسخة جديدة وأكثر إحكاما من فلسفته التاريخية والتي فيها حمل مسئولية فسادنا الأخلاقي للسعي وراء اللامساواة لا الرفاهية، وفي هذه النسخة الجديدة أيضا تعاطى روسو مع علاقات السلطة التي تعمل على تأسيس الملكية الخاصة باعتبارها السبب الرئيسي للاضمحلال الأخلاقي للبشرية. فلا بد أن التخصيص المرخص به حكوميا للأراضي من قبل البعض على حساب الآخرين أفضى لا محالة إلى تأسيس المجتمع المدني بالمكر والإجحاف، هكذا زعم روسو في مقالته «خطاب عن اللامساواة» عام 1755 حيث استعرض هذا الطرح في سياق تاريخ افتراضي للجنس البشري حاول فيه أيضا تفسير الأصل الاجتماعي للعائلة وللزراعة، وصور أصول الأنواع المختلفة للحكم فيما يتعلق بالتوزيعات المجحفة للملكية الخاصة التي لا بد أنها كانت لها داعما.
في عملية الاستعراض الافتراضي للماضي هذه، طرح روسو العديد من الملاحظات المهمة لنظريته السياسية والاجتماعية التي لم يكن قد أفصح عنها من قبل. كانت الغاية من تأكيده الجديد على اعتبار تأسيس الملكية الخاصة، بدلا من السعي وراء الثقافة والتعلم، المصدر الرئيسي لفسادنا الأخلاقي؛ الطعن على ما اعتبره روسو أسس التشريع القانوني الحديث بدءا من جروشيوس وهوبز وحتى بوفندورف ولوك. لم يعارض أي مفكر قط من عصر التنوير هذا التقليد بشكل مباشر كما فعل روسو في «الخطاب» الثاني، ولم يطرح أي نقد خلال القرن الثامن عشر للآراء السابقة عن الطبيعة البشرية مثل هذا المفهوم الدرامي للتحول التطوري في سماتنا المجتمعية. علاوة على ذلك، فتفرقة روسو بين الإنسان البدائي والمتحضر في هذا العمل أمست تدور في فلك فكرة التمييز ما بين خصالنا الطبيعية والأخلاقية التي لم يتناولها من قبل. أصر روسو الآن على أن الأخلاق لا تنبع من الطبيعة البشرية، بل من تغير طبيعة الإنسان في المجتمع في ظل حالات اللامساواة الصارخة التي شكلت حياتنا على نحو مختلف تماما نوعيا عن التفاوتات الطبيعية البسيطة بيننا. يقول روسو في «خطاب عن اللامساواة» إن تأسيس الملكية الخاصة، أبعد ما يكون عن التعبير عن أفضل ما هو دفين في الطبيعة البشرية؛ شوه هذه الطبيعة وحول السعي وراء الشرف وتقدير الناس إلى ضرب خسيس ومحبط من المنافسة. إن التصوير الافتراضي لخصالنا الأساسية التي طرحها هنا لأول مرة جعلت الهمجي حقا يدنو من الحيوانات الأخرى بدلا من أن يقترب إلى الإنسان المتحضر، الأمر الذي أعطى روسو مجالا لتأمل الاختلافات بيننا وبين القردة العليا وغيرها من الرئيسيات. وصار روسو مؤمنا بأن البشر هم النوع الوحيد في العالم الطبيعي الذي يستطيع أن يصنع تاريخه الخاص، وأن سوء استغلال قدراتنا جعلنا بلا شك نحيا في المجتمع حياة أكثر توترا وبؤسا من غيرنا من المخلوقات.
لقد صادف «الخطاب» الثاني الوقت المناسب لممارسة أثر عميق على تطور الفكر الأوروبي في مجموعة متنوعة من المجالات، لكنه كان له في البداية أثر أقل عمقا على قرائه من عمله «خطاب حول الفنون والعلوم» أو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية». ولكن، بالنسبة إلى المفكرين الذين كان متوافقا معهم في الرؤية قبل ذلك، فقد أكدت مقالته هذه وضاعفت مخاوفهم من أن خطابه الأول كان تعبيرا عن إيمان حقيقي من جانبه، وأنه لم يعد من الممكن النظر إليه كعضو في معسكر حلفاء التنوير أو التطور. ولا شك أن ضرورة تخلي روسو عن رفقة بعض أصدقائه القدماء أصبحت واضحة له، وهو الشخص الذي كان يشعر دوما بعدم الراحة وسط الملحدين والمتشككين. ولا مراء أن حماسه غير المألوف الذي كان يخفيه فقط بعض الاستحياء الذي كان يبديه وسط الناس مستلهم إلى حد ما من السيدة دي وارين، واعتبره بعض أصدقائه الباريسيين، وكذلك ديدرو نفسه في نهاية المطاف، دليلا على تظاهره بالورع وتكبره الشديد.
عندما بدأت الصراعات تشتعل بينه وبين رفاقه في أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر، زعم أنه لم يعد يحتمل لامبالاتهم الأخلاقية. في البداية، أراد العودة إلى جنيف، لكن قرار فولتير بالاستقرار فيها أثناه عن هذه الخطوة. فبعد أن سجن مرتين في سجن الباستيل، كان فولتير يبحث فقط عن ملجأ يستطيع فيه متابعة اهتماماته دون أن يعرض نفسه لخطر كبير، وفي بيئة أكثر ملاءمة من عالم الملك فريدريش العظيم، ملك بروسيا، حيث الحراب لها الأفضلية على الكتب. لكن روسو أحس بأن ثمة دوافع خبيثة في هذا التعدي على مدينته الأم. وخشي روسو أن يحدث فولتير تحولا في الأخلاق الحميدة لبني وطنه، فيمسوا فاسدين شأنهم شأن الباريسيين، وأنه إذا عاد لمحل ميلاده فكان سيتعين عليه مواجهة الرذائل نفسها التي جعلته يفر من فرنسا. ولذا، فقد استقر رأيه على القبول بمعتزل ريفي اسمه ليرميتاج، يقع شمال باريس مباشرة في غابة مونتمورنسي، عرضته عليه السيدة ديبيني صديقة ديدرو التي كانت لفترة وجيزة راعيته وأقرب أصدقائه، رغم أنها تحولت لاحقا إلى واحدة من أشرس خصومه الذين عرفوه حق المعرفة. وبالتزامن مع وصوله إلى ليرميتاج في التاسع من أبريل عام 1756، بدأ روسو في الانفصال عن جميع المفكرين تقريبا الذين كانوا رفاقا له منذ أوائل أربعينيات القرن الثامن عشر. وسرعان ما حدث خلاف بينه وبين ديدرو الذي ألف مسرحية خلال تلك الفترة بعنوان «الابن غير الشرعي»، وكانت تتناول في جزء منها شرور العزلة، فاعتبرها روسو بادرة ازدراء شخصي من جانب ديدرو له. وعندما ألف فولتير في عام 1756 أشعاره عن القانون الطبيعي وزلزال لشبونة الذي حدث في العام المنصرم والتي سخر فيها من سذاجة الإيمان الأعمى بالعناية الإلهية وبأن كل شيء على الحال التي ينبغي أن يكون عليها، رد عليه روسو في مقالته «رسالة حول العناية الإلهية» بأن الرب ليس مسئولا عن الشر، وأن عالم المعاناة البشرية الذي يتذمر منه فولتير صنيعة البشر وحدهم. واتخذ الرد الساخر لفولتير على روسو (وكذلك على لايبنتس وبوب) شكل رواية أخلاقية ساخرة أطلق عليها اسم «كانديد».
بحلول عام 1758، كان روسو قد قطع كل علاقاته بشكل كامل برفاقه السابقين. وقبلها بعام واحد، خط دالمبير مقالة مهمة عن جنيف في المجلد السابع من «الموسوعة» دافع فيها عن تأسيس مسرح في تلك المدينة، ذكر فيها أن المسرح من شأنه الارتقاء بثقافتها، ومن ثم تعزيز التطور الأخلاقي لأهلها. واعتقد روسو بأن فولتير تآمر مع دالمبير في كتابة هذه المقالة، فوضع مقالته «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» لمواجهة محاولة إفساد أخلاق أهل مدينته، وفي نفس الوقت لمواجهة دالمبير نفسه. وهاجم روسو فن المسرح باعتباره يتنافى مع روح الحب الأخوي التي كانت شائعة، ويتعين استرجاعها الآن في مدينته الأم. وكما قرر أفلاطون استبعاد الجماليات الفاتنة ولكن المتكلفة في الوقت نفسه لملحمتي هوميروس من جمهوريته الفاضلة، كذلك فعل روسو في مقالته «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» حيث حاول الحفاظ على جنيف من السخرية الماكرة جدا لموليير الذي كان باستطاعته ببراعة أن يحيل استقامة أهلها وورعهم إلى شيطنة ونفاق عبر عروض ترفيهية ذات حيل خبيثة جاعلا أبناء المدينة فريسة لنواياه المراوغة، ومن ثم يستنفد حماس الأمة المندفع القح الذي تقوم عليه قوتها.
شكل 1-4: صورة ل «ليرميتاج» نقشها ديزيريه بناء على رسم لجوتييه.
وحدث أنه في الفترة التالية مباشرة لرحيله من باريس كتب روسو روايته «جولي أو إلواز الجديدة»، وهي الرواية الأشهر على الإطلاق في فرنسا خلال أواخر القرن الثامن عشر. لقد استلهم جزئيا هذه الرواية المكتوبة على هيئة رسائل عن آلام الحب المحبط في صراعه مع الواجب من روايات ريتشاردسون وبريفو، وتحتوي على بعض أرق المقاطع الغنائية عن الحب الرومانسي والرغبة العذبة، والبساطة الريفية. وإذا كانت مسرحية «كانديد»، إلى حد ما، استجابة فولتير الروائية لمقالة روسو «رسالة حول العناية الإلهية»، يجوز اعتبار مقدمة رواية «إلواز الجديدة» ملحقا لمقالة «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» التي أراد روسو في واقع الأمر توجيهها إلى فولتير. كتب روسو: إن «المسرح مهم في المدن الكبيرة، والشعب الفاسد بحاجة إلى مسرحياته. لقد كنت شاهدا على الأخلاق في زمني، ونشرت هذه الرسائل. ليتني أستطيع العيش في قرن يتسنى لي فيه أن أتخلص من تلك الرسائل!» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة).
في الفترة ذاتها، أنهى روسو روايته «إميل» التي تضارع في الحجم تقريبا روايته «إلواز الجديدة»، وترتبط بها إلى حد ما ، ولا سيما أنها تنتهي كرواية، رغم أنها بدأت كأطروحة عن التربية. يبدأ الكتاب الأول من النص ببيان مبدأ عده روسو في أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر عماد فلسفته بصفة عامة: «كل شيء يصنعه الخالق حسن، وكل شيء يفسد بين يدي الإنسان» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لقد كانت الفكرة الرئيسية لرواية «إميل» هي وضع خطة تربوية استنادا إلى الطبيعة لا الفن، يسمح فيها لميول ورغبات الطفل بالنمو، كل في الوقت المناسب لها، بدلا من أن تجبر على أن تتشكل قبل أوانها أو تعرض لسيطرة خارجية، بالتوجيه أو بالتلقين. رسم روسو هنا سردا وراثيا للنمو الروحي للفرد عبر خطوط تعكس منظوره الثوري، الذي عرضه في «الخطاب» الثاني، الخاص بانتقالنا من حالة الهمجية إلى حالة التحضر، رغم أنه صور هذا النمو في روايته «إميل» عبر صور للعاطفة والرغبة الجنسية بدلا من المنطق والسلطة. ولكن أثناء تشكل قدرات الطفل، فإن القاعدة التي تشير إلى أنه لا بد أن يعول أولا على الأشياء لا البشر تفتح أمامه إمكانية وجود نوع من التربية مختلف تماما عن ذلك الذي أفضى لا محالة إلى فساد الجنس البشري في الماضي. كانت رواية «إميل» أول أعمال روسو التي تشير إلى شكل من الاستقلال ما زال بالإمكان أن يحصل عليه الأفراد حتى داخل المجتمع الفاسد الذي هكذا يمكن الفكاك من قبضته عن طريق غرس الاعتماد على الذات. بالتالي، يقدم هذا العمل رؤية متفائلة حذرة، وإن كانت غير متحققة، حيال احتمال حدوث النمو المتصور، الأمر الذي لم يكن متجليا في كتاباته السابقة. لا شك أن هذا التغير الكبير في نبرته كان نابعا جزئيا من نجاح روسو في تحرير نفسه من بهرجة المجتمع الباريسي.
Неизвестная страница
شكل 1-5: الصورة الموجودة في صدر كتاب «ملاحظات على كتابات وسلوك جان جاك روسو» (لندن، 1767) لهنري فيوزيلي، وفيها يظهر روسو مشيرا إلى فولتير جاثما فوق البشرية، بينما العدالة والحرية على المشنقة.
ولكن، وفقا لمؤلفه «اعترافات»، كان أول عمل يؤلفه روسو في بيته الجديد هو «العقد الاجتماعي »، وهو مؤلف شرع في وضع خطة له بالفعل بينما كان في البندقية، وأمسى في ذلك الوقت عازما على جمع مادته في أفضل ما ألفه على الإطلاق. ولعل من الأفضل فهم مبادئ العقد الاجتماعي الحقيقي في مقابل صيغة الاتفاق المشئومة الواردة في «الخطاب» الثاني. فهذا العقد، إذا فهم الفهم الصحيح، سنراه يحقق للمواطنين حريتهم الحقيقية بدلا من أن يدمرها؛ وذلك بالمساواة بينهم تحت مظلة القانون بدلا من إخضاعهم لحكامهم السياسيين المعينين. فهو يرى في هذا الكتاب أن الحرية والمساواة معا هما المبدآن الجديران بأن يكونا أهم مكونات أي نظام تشريعي، وجزء كبير من هذا الكتاب مخصص لتفسير علة ذلك. وبعد أن ميز روسو بالفعل ما بين النطاقين الأخلاقي والسياسي من ناحية والطبيعي والمادي من ناحية أخرى لحياتنا، زعم أن الأشكال المميزة للحرية أو التحرر ملائمة لكل من الجانبين. وقال روسو إنه من دون الحكومة، يمكن للناس أن يكونوا أحرارا بشكل طبيعي بمعنى عدم الخضوع لإرادة الآخرين، لكن حريتهم سترتبط وحسب بإشباع رغباتهم الأساسية. وفي المجتمع السياسي الذي يقتضي إقامته التخلي عن حريتنا الطبيعية - في هذا المجتمع وحده - يمكننا إدراك الحرية المدنية أو الأخلاقية. والأولى تجعلنا معتمدين على المجتمع بأسره، بينما تخضعنا الثانية إلى القوانين المعبرة عن إرادتنا الجمعية. في «العقد الاجتماعي»، زعم روسو أن الدولة يمكن أن تكون أداة للحرية إذا كانت لرعاياها جميعا السيادة في الوقت نفسه؛ لأنه حينئذ وحسب يمكن القول بأن الناس يحكمون أنفسهم حقا. ولاحظ روسو أنه فقط عندما يشارك كل المواطنين بالدولة في العملية التشريعية، يستطيعون معا منع إساءة استخدام السلطة التي قد يسعى بعضهم إلى استغلالها. ورغم أن بعض معاصريه، مثل مونتسكيو وفولتير، أثنوا على المبادئ الليبرالية المنصوص عليها في الدستور الإنجليزي، حكم روسو، استنادا إلى هذه الأسس، على نظام الحكم البرلماني الإنجليزي بأنه لا يتوافق مع حرية الناخبين فيما يتعلق بتفويض السيادة من جانب الشعب لنوابه.
بعد أن نشر روسو «العقد الاجتماعي»، كتب «دستور كورسيكا» عام 1765، ومقالة «حكومة بولندا» حوالي عام 1771، بدعوة في المرتين من مواطنين بارزين في هذين النظامين الناشئين ليكون روسو مشرعا لهما. لو كانت كورسيكا نجت من الغزو، وبولندا من انقسامها، لكان من الممكن، في أواخر القرن الثامن عشر، أن نشهد كيف يمكن تطبيق مبادئ «العقد الاجتماعي» على دساتير دول حقيقية. لقد كان قصده دوما أن هذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال، هكذا زعم روسو، فيما يتعلق بالسعي للجمع ما بين النظرية والممارسة السياسية، وهكذا كانت نية معجبيه ممن قاموا بالثورة الفرنسية لاحقا، ولو بطريقة مختلفة. وبمقابلة فلسفته بفلسفة أفلاطون ومور أيضا، أكد روسو أنه لم يطرح رؤية مثالية لا يمكن تحقيقها على أرض الواقع. على العكس من ذلك، فالغاية من «العقد الاجتماعي» بيان الأسس النظرية لشيء أقرب ما يكون إلى المراد، ويظهر هذا تحديدا في دستور جنيف، واعتقد روسو أنه لأن ذلك الدستور لم يتم تطبيقه، فقد استثار غضب السلطات الحالية لدولته الأم (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). لقد كانت هذه واحدة من بين الحجج الرئيسية لعمله الثالث المكرس إلى حد بعيد للسياسة، ألا وهو «رسائل من الجبل» عام 1764.
لكن الجزء الذي أثار، في حياته، غضب العامة الشديد نحو مؤلفه «العقد الاجتماعي» كان الفصل قبل الأخير الذي يتناول الدين المدني. أكد روسو هنا على أهمية الأساس الديني وكذا السياسي لمسئولياتنا المدنية الذي بناء عليه يؤدي المواطنون ويحبون واجبهم باعتباره مسألة تتعلق بالإيمان الوطني مع ضمهما معا في إيمان بإله قدير وخير وغفور. إن هذا الجانب من فكره، الذي استلهمه جزئيا من مكيافيللي الذي كان معجبا بأفكاره، زج بروسو في صراع مع كلا المؤسستين الدينية والسياسية المعاصرتين له وكثير من نقادهما البارزين. بالنسبة إلى المفكرين المهتمين بإصلاح نظام الحكم القديم، بدا حماسه الديني مرة أخرى خيانة للتنوير واستنهاضا خبيثا للإيمان الأعمى في فجر عصر العقل. من ناحية أخرى، فإن إدانته السريعة للمسيحية التي وصفها بأنها تناسب الحكومة المستبدة أكثر من غيرها أثار ثائرة الكنيسة والسلطات السياسية على حد سواء. علاوة على ذلك، فقد كان قسم «عقيدة كاهن سافوي» في روايته «إميل » التي نشرها روسو تقريبا في الوقت نفسه الذي نشر فيه مؤلفه «العقد الاجتماعي»، بمثابة التعبير الأكمل والأكثر بلاغة عن فلسفته الخاصة بالدين الطبيعي بالمقارنة بالدين المنزل من السماء، الأمر الذي أثار استياء تلك السلطات بقدر أكبر.
ولم يسلم روسو قط في واقع الأمر من الاستهجان؛ فقد حظر مؤلفاه «إميل» و«العقد الاجتماعي» أو صودرا في باريس، وأحرقا في جنيف. وجد روسو نفسه مضطرا للفرار من إحدى المدينتين وعرضة للاعتقال في الأخرى، وبذا كان في عام 1762 مطاردا وهاربا من العدالة، وقد اندهش من سرعة ردة الفعل الرسمية لآرائه التي كان يراها مجرد رؤى مختلفة متعلقة بالمسيحية مقارنة بالرؤى الإلحادية للكثير من المفكرين، وكذلك من الإخفاق المبدئي لأبناء وطنه في إغاثته. في مايو 1763، وهو في قمة القنوط، وبعد أن وجد ملاذا مؤقتا في موتييه، على مقربة من نوشاتيل، الخاضعة للولاية الاسمية لفريدريش العظيم، ملك بروسيا، تخلى روسو عن جنسيته الجنيفية. بعدها ظل مشردا، واضطر أن يسافر عادة متخفيا وتحت اسم مستعار، وأصبح تحت رحمة الذين عرضوا عليه حمايته الذين كان هدفهم الأساسي، كما كان روسو يظن أحيانا، نصب فخاخ له وتشويه سمعته. كان ديفيد هيوم من بين هؤلاء، حيث صحب روسو في يناير 1766 شخصيا إلى إنجلترا، واستقر فيها حوالي 18 شهرا، وتحديدا في ووتون في ستافوردشير. وغلبت عليه في تلك الفترة شكوك في وجود مؤامرة دولية لتشويه سمعته، ألقت به في بحر من الأسى، وتسببت لهيوم في إزعاج شديد. وفاقم الاضطهاد الحقيقي من جنون الاضطهاد الذي أصيب به روسو لا محالة على الأقل بداية من أواسط ستينيات القرن الثامن عشر، ولبقية حياته ظل مقتنعا بأن رفاقه القدماء في طليعة عصر التنوير - ديدرو ودالمبير ودولباك وجريم - بمساعدة فولتير وأصدقائه النبلاء الذين طالما مقتوه، اتحدوا مع أعدائه السياسيين في شبكة ضخمة من أجل التآمر ضده. وبعد أن عاد إلى فرنسا بعد تعهده بالامتناع عن نشر كتاباته، وجد راحته في الانعزال، ودراسة علم النبات، وتوحده الغنائي الرومانسي مع الطبيعة، بحسب ما ورد في آخر أعماله البارزة ، وأفضلها على الإطلاق لدى بعض القراء «أحلام يقظة جوال منفرد»، الذي ظهر بعد وفاته بالتزامن مع ظهور الجزء الأول من مؤلفه «اعترافات». في عام 1778، وبعد أن انتقل مرة أخرى إلى ملتجأ في شمال باريس تماما بفترة وجيزة، في إيرمنوفيل، الذي وفره له الماركيز دي جيراردان، توفي متأثرا بسكتة دماغية «دون أن ينطق بكلمة واحدة»، بحسب ما جاء على لسان أرملته (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 8344)، مما يناقض الادعاءات الواهية بأنه مات منتحرا.
شكل 1-6: بورتريه لروسو منسوب إلى جروز.
ولكن، رغم أن روسو أمسى منعزلا عن مفكري عصر التنوير الكبار، فقد كان له الكثير من المريدين الشغوفين به أيضا في شتى أرجاء فرنسا وبين الدوائر الراديكالية في جنيف، والأهم من ذلك ربما في الدول المستنيرة الموجودة على أطراف أوروبا، ألا وهي: إيطاليا واسكتلندا وألمانيا؛ حيث كان كانط وجوته أبرز المعجبين به من الجيل أو الجيلين التاليين. وأثناء الثورة الفرنسية، عندما عرضت مخطوطة كتاب روسو «اعترافات» على المؤتمر الوطني، ونقل جثمانه رسميا إلى باريس، كان أثره على الحياة والفكر في القرن الثامن عشر في ذروته. ولا توجد أية شخصية بارزة في عصره مثل روسو عبرت بقدر أكبر من الوضوح عن التزام الثوريين بمبادئ الحرية والمساواة والإخاء، ولا يوجد من أبدى إخلاصا أعمق لنموذج السيادة الشعبية الذي بشر تبنيه في فرنسا بنهاية نظام الحكم القديم. ويعد المسار المهني السياسي لروبسبيير الملقب بالنزيه - بالتحديد معارضته للمحسوبية واللاهوت الكهنوتي ووطنيته وترويجه لعبادة الكائن الأسمى، وكذا الكثير من الممارسات خلاف ذلك - أعظم تجل عملي على الإطلاق لمبادئ روسو. لم يدع روسو نفسه قط إلى الثورة، وكان حكمه على الثورات السياسية بأنها أسوأ من الداء الذي تعتزم علاجه، ولم يعقد آمالا كبيرة على الخلاص السياسي للبشرية. لكنه تنبأ بأزمة وشيكة ستحل بأوروبا، وحلول عصر ثوري، وتمنى تفادي هذا التحول الثوري. وعندما اندلعت الثورة الفرنسية بعد عقد من وفاته، خط كثير من قادتها رغم ذلك برامجهم ودساتيرهم في ظل الضوء الساطع لفلسفته. وبسبب هذا، لقي روسو نقدا لاذعا واعتبروه أحقر مفكري القرن الثامن عشر بأسره عندما انهارت الثورة وتمخض عنها في بداية الأمر إرهاب اليعاقبة، ومن بعده البونابرتية، وبحسب النقاد، أفضت في نهاية المطاف إلى شمولية حديثة بصفة عامة.
الفصل الثاني
الثقافة والموسيقى وفساد الأخلاق
قال روسو في مؤلفه «اعترافات» إنه ذهل عندما قرأ إعلان أكاديمية ديجون بمجلة ميركور دي فرانس في عددها الصادر في أكتوبر 1749 عن مسابقة أفضل مقالة تجيب عن السؤال التالي: «هل يساهم إحياء الفنون والعلوم في تهذيب الأخلاق؟» كتب روسو يقول: «فور أن قرأت هذا الإعلان، تجلى لي عالم آخر وأمسيت رجلا مختلفا» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). توقف روسو عند شجرة ليلتقط أنفاسه، وانفعل إلى حد الهذيان تقريبا بفعل رؤية متحمسة للخيرية الطبيعية للبشر والتناقضات الخبيثة للنظام الاجتماعي؛ مما أشعل في عقله معظم الأفكار الأساسية للأعمال التي ستصبح بعد ذلك أعماله الرئيسية، ولو أنه لم يستعد منها قط سوى خيال باهت لها. ورغم ذلك، بينما يشكل «خطاب حول الفنون والعلوم» التعبير الفوري الأول عن تلك الرؤية، صار روسو في نهاية المطاف يعتبره واحدا ضمن أسوأ كتاباته الرئيسية. فالنص الذي استهل به مشواره الأدبي لم يكن يتمتع بنظام ولا بترتيب منطقي ولا بهيكل محدد، على حد وصف روسو له متحسرا. ورغم أنه كان حافلا بالدفء والقوة، فإنه كان، بشهادة روسو نفسه، أوهن أعماله المحتفى بها وأدناها اتساقا (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ اعترافات). ولقد كان هذا المؤلف أيضا، وهو ما لاحظه القادحون فيه سريعا، أقل أعماله أصالة.
Неизвестная страница
الفكرة الرئيسية لهذه المقالة هي أن الحضارة مفسدة للبشرية، وأن كمال فنوننا وعلومنا صاحبه فساد أخلاقنا. وقبل أن نكتسب مهارات المتحضرين وخصالهم، وقبل أن تشكل أنماط حياتنا القيم الزائفة والاحتياجات المصطنعة، كانت أخلاقنا «بدائية لكنها طبيعية». ولكن مع ميلاد المعرفة وانتشارها، فسد نقاؤنا الفطري تدريجيا بفعل الذوق والعادات المخادعة، وبسبب «القناع الغادر للدماثة»، وكذلك «كل البهرجة الخبيثة» للموضة، حتى ذوت فضيلتنا الغضة تماما وكأن المد أطاح بها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). اعتقد روسو أننا ليس بوسعنا إلا أن نندم على فقدان بساطة هذه الحقبة البدائية، عندما كان أسلافنا يعيشون معا في أكواخ، ولم يرجوا أكثر من رضا أربابهم. في البداية، كانت الجماليات الوحيدة الموجودة في العالم هي تلك التي تشكلها الطبيعة نفسها، وبعدها كانت الحضارات التي ظلت الأقرب للطبيعة، والتي كانت الأقل حملا لأعباء بهرجة الثقافة والتعلم، هي الأقوى والأكثر حيوية. ولاحظ روسو أن فنوننا وعلومنا لا تلهم الأفراد الشجاعة أو روح الوطنية، بل على العكس فهي تسلب الرجال إخلاصهم للدولة وقدرتهم على حمايتها من الغزو. ومنذ أن أخفقت الاختراعات الصينية المذهلة في حمايتهم من التتار الهمج الجاهلين، عدت سعة اطلاع حكمائهم غير ذات جدوى. ومن ناحية أخرى، نجد أن الفرس الذين دربوا على الفضيلة لا العلم استطاعوا بسهولة غزو آسيا، بينما كانت عظمة الألمان والسكوثيين قائمة بشكل كبير على بساطتهم وبراءتهم وروحهم الوطنية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
والأهم من ذلك، يدلل تاريخ أسبرطة، عند مقارنته بتاريخ أثينا، كيف أن المجتمعات التي جنبت نفسها الآثار العقيمة للثقافة كانت أكثر قوة وقدرة بكثير على مقاومة رذائل الاستبداد. ولقد حذر سقراط، أحكم حكماء أثينا، أبناء وطنه من التبعات الخطيرة لجهلهم، ولاحقا، سار على دربه كيتو في روما، وهاجم بعنف المتع المغرية بشكل عابر للفن والبهرجة التي قوضت من حيوية أبناء وطنه. لكن أحدا لم ينتبه إلى تحذيراتهما، وتدريجيا ساد شكل زائف بالكامل من التعلم في كل من أثينا وروما؛ مما أضر بالانضباط العسكري والإنتاج الزراعي واليقظة السياسية. وأضحت الجمهورية الرومانية، على وجه الخصوص، التي كانت في فترة من الفترات منارة الفضيلة مرتعا للجريمة حيث رزحت رويدا رويدا تحت نير الاستعباد الذي أخضعت له من قبل أسراها من البرابرة. وأضاف روسو أن معظم نمط الاضمحلال نفسه أيضا ميز انهيار الإمبراطوريات القديمة في مصر واليونان والقسطنطينية، مؤكدا أن هناك قاعدة عامة مفادها أن الحضارات العظيمة تضمحل تحت وطأة تقدمها العلمي والفني (الأعمال الكاملة، الجزء الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
لكن «الخطاب» الأول يقدم تفسيرا مقتضبا لهذه التطورات؛ حيث رسم بالكاد الخطوط العريضة التي تبين كيف للفنون والعلوم أن تكون مسئولة بشكل شامل هكذا عن الاضمحلال الأخلاقي للإنسان. من ناحية، رأى روسو أن كل العلوم تشكلت بسبب التكاسل، حيث انبثق كل تخصص من الرذائل التي يتسبب فيها التكاسل؛ فعلى سبيل المثال، علم الفلك منشؤه الخرافات، والهندسة منشؤها البخل والتقتير، والفيزياء الفضول المفرط. ومن ناحية أخرى، ففنوننا في كل مكان تعززها الرفاهية الناجمة بدورها عن كسل البشر وخيلائهم. وتطرح الرفاهية باعتبارها سمة أساسية حيث أكد روسو أنها نادرا ما تستطيع الازدهار في غياب الفنون والعلوم، بينما الفنون والعلوم لا مكان لهما من دونها. وفقا لحجة روسو، من الواضح أن انحلال الأخلاق كان تبعة ضرورية لا محالة للرفاهية التي نبعت بدورها من التبطل والتكاسل، مع كون فساد واستعباد البشر اللذين كانا سمتين لتاريخ جميع الحضارات عقوبة مناسبة لسعينا المبالغ فيه للتقدم بما يتجاوز مرحلة نعمة الجهل التي كنا سننعم بالبقاء فيها إلى الأبد (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
شكل 2-1: صفحة العنوان والصورة في صدر كتاب روسو «خطاب حول الفنون والعلوم» (1750).
من كل هذه الجوانب، يشمل «خطاب حول الفنون والعلوم» الفكرة الأساسية الأولى لفلسفة التاريخ عند روسو - ومفادها أن تقدمنا الثقافي والاجتماعي الظاهر أفضى فقط إلى انحلالنا الأخلاقي الحقيقي - والتي ستصبح بعد ذلك واحدة من أبرز الأفكار المحورية لأعماله. ولكن في «الخطاب» الأول، تظهر فلسفة التاريخ هذه رغم ذلك بدائية وغامضة، وتتكون على الأقل من ثلاث أطروحات متمايزة عن مسار فسادنا وظروفه؛ الأولى: مفادها أن البشرية انحدرت تدريجيا من براءة حالتها البدائية الأولى، أما الثانية: فتشمل الزعم بأن الأمم المتخلفة فنيا وعلميا متفوقة أخلاقيا على نظيراتها المتحضرة، أما الأخيرة: فتحوي الادعاء بأن الحضارات العظيمة أمست منحلة بسبب تقدمها الثقافي. بالنسبة إلى قرائه، بدا أن هذه الافتراضات لا تتسق بسهولة بعضها مع بعض، خاصة أن الإشادة التي يبديها روسو لأسلوب حياة الإنسان البدائي من ناحية، وللحضارة القوية التي تخلف المجتمع الهمجي من ناحية أخرى اجتمع معها افتراضه - الذي كان رائجا جدا في عصر التنوير - بأن التاريخ البشري قاطعته انتكاسة، في ظل عدة قرون من بربرية العصور الوسطى وخرافاتها، انحدرت به إلى حالة أدنى من حالة الجهل الأولى التي كنا عليها. في نهاية خطابه، أطلق روسو أطروحة جديدة كليا مفادها أنه ليست العلوم والفنون بحد ذاتها هي المصدر الحقيقي لمصائبنا، بل استغلال أصحاب المواهب العادية لها استغلالا سيئا، واختتم روسو مؤلفه بملاحظة أن العلماء والفنانين العظماء ينبغي أن تكون مهمتهم بناء آثار للاحتفاء بمجد الروح البشرية. وقال روسو إن على بقيتنا نحن البشر العاديين ألا نطمح إلى أكثر من جهالتنا وقدراتنا المتوسطة التي كتبتها لنا الأقدار. من الصعب فهم علة اعتقاد روسو بأن مثل هذه الأفكار مناسبة لنقد الفنون والعلوم، والدفاع عن فضائل الجهل والبراءة والإنسانية العامة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
ولم يكن روسو واضحا فيما يتعلق بالطبيعة المحددة للإسهام الذي يعتقد أن تطور الثقافة قدمه لاضمحلالنا الأخلاقي. فقد أبدت أطروحته ببساطة شديدة أن تقدم الفنون والعلوم مسئول عن اضمحلال الأخلاق، لكنه أيضا افترض أن الفنون والعلوم عززها التراخي والخيلاء والرفاهية التي يطمح إليها الناس ويستمتع بها البعض. فهل كان تطور الثقافة السبب وراء فساد أخلاقنا إذن؟ أم نتيجة له؟ من الواضح أن روسو الذي كان همه الأساسي في مؤلفه هذا تصوير الشرور النابعة دوما من السعي وراء الثقافة والمعرفة، لكنه في الوقت نفسه زعم أن فنوننا وعلومنا تدين لآثامنا بأصلها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؛ يبدو عاجزا عن اتخاذ قراره في هذا الشأن.
ولعل من بين أسباب تردده حقيقة أن الكثير من سمات رؤيته مستعار من مفكرين سابقين، مثل مونتسكيو وفينلون ومونتين وسينيكا وأفلاطون، والأهم منهم جميعا بلوتارك، الذين اطلع روسو على كتاباتهم اطلاعا وافيا، وأيد أو لخص ملاحظاتهم حول سمو الفطرة على المهارة المكتسبة، أو وطأة اللامساواة أو اضمحلال الحضارة في مؤلفه. وفي «مقالة عن حكمي كلودياس ونيرون»، لاحظ ديدرو لاحقا أن «ثمة مائة تأس على عصر الجهل قام بها آخرون قبل روسو في مواجهة تقدم الفنون والعلوم»، ولا شك أنه كان على حق. لكن «الخطاب» الأول لروسو يفتقر إلى الأصالة؛ ليس فقط لأنه يحمل في طياته الأثر العام لأعمال أخرى في سياق مثيل للذي استرشد به روسو، أو لأن معرفة روسو مستقاة من مصادر ثانوية بشكل واضح - فروايته عن السكوثيين مثلا مستخلصة أصلا من هوراس، ووصفه للألمان من تاسيتس، ورسمه الخطوط العريضة للفرس من مونتين، ومقارنته بين أسبرطة وأثينا مستخلصة من عدة كتاب، ولا سيما القس بوسويه والمؤرخ تشارلز رولين - بل أيضا لأن سمة المقالة الاشتقاقية مرجعها بادئ ذي بدء حقيقة أن الكلمات نفسها التي يوظفها روسو للتعبير عن أفكاره الأساسية كانت مستعارة غالبا من مراجعه.
شكل 2-2: بورتريه لديدرو بريشة فان لو.
وبخلاف الإشارات المرجعية المتعددة الواضحة مصادرها بشكل جلي، هناك على الأقل فقرة واحدة في «خطاب حول الفنون والعلوم» مستعارة، دون إقرار، من مؤلف مونتسكيو «روح القوانين» وأخرى من مؤلف القس بوسويه «خطاب حول التاريخ العالمي»، وهناك العديد من المقتطفات من عمل بلوتارك المعنون «سير»، وقرابة 15 مقتطفا من مؤلف «مقالات» لمونتين، قليل منها وحسب لمح إلى مصدرها؛ بينما السطر الأخير من نص روسو مستخلص بتصرف من بلوتارك ومونتين معا. ولعل مؤلف دوم جوزيف كاجو «انتحالات روسو» المنشور عام 1766، كان قاسيا بشكل مفرط - وغير صحيح في أغلب المواضع - في اتهاماته، لكنه يظل شاهدا على أن «خطاب حول الفنون والعلوم» هو المؤلف الوحيد لروسو الذي تحيط به مثل هذه الشكوك. ورغم النبرة والسمة الجدليتين لحجة المقالة، فهي ليست موجهة ضد أي عمل آخر بعينه، ويبدو أن روسو لجأ إلى مصادره بغية تلخيصها أكثر من إضفاء ثقل على أفكاره الخاصة. والفارق بين خطابيه الأول والثاني فيما يتعلق بهذه النقطة واضح أشد الوضوح؛ إذ إنه في «خطاب عن اللامساواة» بادر بدحض أفكار أغلب الشخصيات الواردة فيه، بينما في «خطاب حول الفنون والعلوم» تمكن بقدر أكبر بعض الشيء أن يعكس، وإن كان بلغة أقوى خاصة به ، وجهات النظر المتباينة التي طرحها بالفعل أسلافه. أعلن عمله الرئيسي الأول عن فلسفة تاريخية التزم بها روسو لبقية حياته، وأدرك معاصروه، على الأقل، تدريجيا أنها رؤيته الأكثر محورية على الإطلاق. لقد كان هذا العمل هو باكورة أعماله الموقعة باسم «مواطن من جنيف»، معلنا بذلك عن فخره بهويته الشخصية والأدبية. ولكن، في تدشينه لمشواره الأدبي، ثبت أنه إنجازه الأدنى تمييزا له وبيانا لشخصه.
رغم ذلك، دان روسو في تطوره ككاتب بالفضل الكثير إلى الجدل الذي أثير حول «خطاب حول الفنون والعلوم» إثر نشره مباشرة، والذي استمر لثلاث سنوات تالية. أثناء ذلك الجدل، وإذ حاول أن يبرئ عمله من انتقادات الناقدين، شرع روسو في جمع مزاعمه الأصلية وبيانها وتهذيبها بطريقة كانت عادة مختلفة عن طريقة صياغتها الأولى. لم يبذل روسو جهدا للرد على كل الذين حاولوا الانتقاص من قدر عمله، لكنه حاول تفنيد ستة أعمال على الأقل استرعت انتباهه. زعم العديد من نقاده أنه أخفق في تحديد النقطة الزمنية المحددة لاضمحلالنا الأخلاقي، فأعطى بذلك الانطباع بأنه يفضل عصور البربرية في أوروبا على نهضة العلوم التي تبعتها. واستنكر قليلون افتقاره العام للاطلاع والمعرفة، وتحديدا فيما يتعلق بسوء فهمه للطبيعة القاسية للسكوثيين القدماء، أو إهماله لحقيقة أن بعض الرموز الذين أثنى عليهم، مثل سينيكا، اعتقدوا أن الآداب تعزز الفضيلة لا تحط من قدرها. قال روسو ردا على هذه المزاعم، وخاصة في «رسالة إلى الأب رينال»، بأن غايته كانت عرض أطروحة عامة عن العلاقة بين التقدم الفني والعلمي، من ناحية، والاضمحلال الأخلاقي، من ناحية أخرى، لا أن يقتفي أثر أي مجموعة محددة من الأحداث، وبالتالي فقد أساء هؤلاء النقاد فهم الغرض من مؤلفه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
Неизвестная страница
كان مقدرا لروسو الاستمرار بقدر أكبر في هذه العمومية في «خطاب عن اللامساواة»؛ حيث حول انتباهه من الحضارات البكر للعالم القديم إلى طبيعة الرجل البدائي، ومنها إلى حالة البشرية العصية جدا على الكشف، حتى إن الأبحاث التاريخية لم تستطع قط أن تميط اللثام عن سماتها الحقيقية. بعد نشر «الخطاب» الأول، أصبح روسو تدريجيا أكثر اعتناء بالمصادر المطلقة لاضمحلالنا، وأقل عناية بالتجليات المحددة لهذا الاضمحلال في الثقافات المختلفة. ولكن، من المفارقة أنه بينما وضع نصب عينيه تدريجيا ماضينا السحيق، بدا أن دليله مستقى من عالم معاصر بشكل متزايد، مأهول فعليا بالهمج الذين تملصوا من تعاسات التاريخ البشري وليس من أبطال وحكماء من الماضي البعيد. بحلول أواسط خمسينيات القرن الثامن عشر، وازن إخلاصه لمؤلف بلوتارك الجليل «سير» على الأقل حماسه الجديد لكتاب «التاريخ العام للرحلات» الذي حرره الأب بريفو، مؤلف رواية «مانون ليسكو». وبينما زادت الانقسامات بين طبيعة الإنسان وثقافته التي أحس روسو أنها تزداد حدة ووضوحا، ينطبق الأمر على الحجج التي ساقها لتصوير تلك الانقسامات، وخلال مسار تطور نظريته الاجتماعية المبكرة، سرعان ما غلب امتداد نطاق أفكاره المتعمقة التأملية في المأساة العامة لجنسنا ككل ومداها على أوجه القصور التي شابت معرفته التاريخية.
اتهمه أيضا العديد من نقاد «الخطاب» الأول بإحياء أوهام الحنين إلى عصر ذهبي قديم كان له وجود فقط في الأساطير والأشعار، لكنه لم يكن يمت للواقع بصلة قط. ورد روسو على هذا الاعتراض، ولا سيما في سياق رده على «خطاب حول مزايا الفنون والعلوم» الذي ألفه بورد عام 1751، بأن فكرة العصر الذهبي القديم لم تكن وهما تاريخيا، بل تجريدا فلسفيا ليس أكثر وهمية في جوهره ولا أقل أهمية لفهمنا لذواتنا ولسعادتنا من مفهوم الفضيلة نفسه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لم يتناول روسو حقبا ماضية وحاضرة من تاريخنا جنبا إلى جنب للحث على إنقاذ فضائل خيالية أو البراءة المفقودة للعصور القديمة. في مؤلفين من مؤلفاته المستندة إلى «الخطاب» الأول، وهما «ملاحظات» الموجه إلى ستانيسواف ملك بولندا ومقدمة مسرحيته «نرسيسس»، ذكر أن البشر، عند فسادهم، ليس بوسعهم العودة إلى حالة الفضيلة أبدا، وهي الفكرة التي التزم بها طوال حياته. والأهم من ذلك أنه استاء بشدة من التلميح الذي أشار به أولا العالم الرياضي والمؤرخ جوزيف جوتييه بأنه أمسى شخصا تواقا لعصر الجهل ويبدو أنه يؤمن بضرورة سحق ثقافتنا وإشعال النيران في مكتباتنا. رد روسو أنه بالطبع لا يجب أن نعيد أوروبا إلى حالة البربرية التي كانت تعيشها، وأنه لم يكن يؤيد إحراق المكتبات أو الأكاديميات أو الجامعات، وبالطبع لم يدع إلى هدم المجتمع نفسه (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). تكاد تكون العودة إلى الحالة الطبيعية مستحيلة بالنسبة إلى الإنسان المتحضر، وكذا استعادة البراءة أو الجهل بالرذيلة. بعد هذه الاعتراضات على مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم»، حرص روسو دوما على التشديد على أن المواطن المستقيم أخلاقيا يجب أن يحاول شق طريقه في «هذا» العالم لا في فردوس عتيق من شطحات الخيال. لم يكن هذا المسار البديل من العزلة والتواصل مع الطبيعة الذي اعتنقه روسو شخصيا قرب نهاية حياته مسارا يوصي به كاستراتيجية للمتحررين من سحر الدول الحديثة، وظل مصمما على أن أفكاره لم تكن مثالية جدا أو عنيفة في مضامينها.
لقد أعجب بقوة ببعض الاعتراضات التي أثارها ناقدوه، وقام بين الفينة والأخرى بتعديل أو التخلي عن نقاط بعينها من نظريته في ضوء تلك الاعتراضات. ولذا، فعندما طعن الملك ستانيسواف في رؤيته الخاصة بالعلاقة بين الفضيلة والجهل، على أساس أن الجاهلين الذين أثنى عليهم روسو نزعوا أحيانا إلى القسوة والهمجية أكثر من اللطف، قبل روسو وجهة النظر هذه، واقترح تمييزا بين شكلين من الجهل؛ أحدهما بغيض ورهيب والآخر طبيعي ونقي (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع ذلك، ومن دون المزيد من الشرح والإيضاح، كان هذا الرد بالكاد مقنعا، وفي كتاباته اللاحقة، ثبت أن روسو أكثر ترددا في عزو البراءة الأخلاقية للبشر البدائيين لافتقارهم فقط إلى التعلم. زعم الفيلسوف شارل بورد الذي أقام معه روسو علاقة صداقة في أوائل أربعينيات القرن الثامن عشر بأن مؤلف «خطاب حول الفنون والعلوم» لم يكن أيضا حكيما عندما أثنى على الشجاعة العسكرية لغير المتحضرين الذين كانت غزواتهم البربرية دليلا على ظلمهم لا على براءتهم . وسارع روسو بالموافقة على هذه الحجة، حيث سلم بأن قدرنا الطبيعي لا يقضي بتدمير بعضنا بعضا. ولو أنه أشار في بداية الأمر إلى أن التكريس للحرب لغاية الغزو هو نقيض الاستعداد للقتال دفاعا عن الحرية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، غير أنه لم يبادر ثانية لتصوير نموذج البسالة العسكرية بالوضوح الشديد الذي صوره به في «الخطاب» الأول. لم يتخل روسو عن اعتقاده، المستوحى من مكيافيللي، بأن حريات الجمهورية الرومانية حافظت عليها ميليشيات من مواطنيها، ولكن في «خطاب عن اللامساواة» وما بعده، نزع روسو إلى تصوير الحروب كلها على أنها إجرامية ودموية ولعينة، وحتى بالنسبة إلى المقاتلين أنفسهم لا مغزى لها.
رغم أن روسو بهذه الطريقة غير من بعض آرائه استجابة لآراء النقاد، فإنه استغل اتهامات أخرى وجهت إليه استغلالا مثمرا في تطوير نظريته. وينطبق ذلك تحديدا على ردوده على مزاعم ستانيسواف وبورد بأن الانحلال الأخلاقي للإنسان يعزى إلى فرط الثروة لا التعلم، وكذا على رده على زعم بورد بأن اضمحلال الأمم يمكن أن يعزى في نهاية المطاف وحسب إلى أسباب سياسية. في مؤلفه «ملاحظات»، أقر روسو بأن العادات والأجواء والقوانين والاقتصاديات والحكومات المختلفة (وهي النقطة التي لفت إليها دالمبير الانتباه في اعتراضه على أطروحة روسو في مقدمته لكتابه «الموسوعة» المعنونة ب «خطاب تمهيدي» الذي ظهر في عام 1751) لا بد أنها كان لها دور في تشكيل الخصال الأخلاقية للبشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وبعدها قدر له أن يتعاطى مع أثر مثل هذه العوامل بطريقة أكثر مباشرة. ففي «الرد الأخير» على بورد عام 1752 على سبيل المثال، أوضح روسو أن الرفاهية، التي أشار إليها قبل ذلك على أنها السبب الأساسي لانحدارنا الأخلاقي، تعزى بقدر كبير إلى تدهور الزراعة في العالم الحديث (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وفي العمل نفسه، ولاحقا في مقدمته لمسرحيته «نرسيسس»، لفت روسو الانتباه لأول مرة في كتاباته إلى الأثر الفظيع للملكية الخاصة. وفي «الرد الأخير» تعاطى روسو بشكل أساسي مع مفهوم الملكية، والتقسيم الظالم للأرض بين الأسياد والعبيد الذي ينطوي عليه التطبيق العملي لهذا المفهوم، وذلك إلى حد كبير للطعن في رؤية بورد التي مفادها أن البشر في أكثر حالاتهم بدائية لا بد أنهم كانوا بالفعل وحشيين وعدائيين. في هذا الشأن قال روسو: «قبل اختراع الكلمتين المروعتين «ملكك» و«ملكي»، وقبل وجود بشر على قدر من البشاعة يجعلهم يتوقون لما يفيض عن حاجتهم بينما يتضور آخرون جوعا، أود أن أعرف ماذا كان يمكن أن تكون آثام أسلافنا» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في مقدمته لمسرحيته «نرسيسس»، انصب تركيزه بدلا من ذلك على حقيقة أن السمات الأخلاقية للشخص الهمجي كانت أسمى بشكل ملحوظ من تلك الخاصة بالأوروبيين؛ وذلك لأن الهمج لم يتشبعوا بالرذائل المعتادة مثل الطمع والحسد والخداع التي أدت بالبشر في العالم المتحضر إلى أن يحتقر الواحد منهم الآخر ويستعديه. قال روسو إن «كلمة «ملكية» لا يكاد يكون لها معنى بين الهمج؛ فهم ليس لديهم أية مصالح متعارضة بخصوصها؛ فما من شيء يدفعهم لخداع بعضهم بعضا»، كما يفعل المتحضرون الطماعون دوما (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في هاتين الفقرتين الموجهتين لنقاد «خطاب حول الفنون والعلوم»، نجد أوائل بيانات روسو الرئيسية حول الأطروحة التي سيسهب في بيانها لاحقا في شكل تحد - في تلك المناسبة لتحدي نظرية الملكية الخاصة بلوك - في مقالته «خطاب عن اللامساواة».
كان روسو حينئذ قد بدأ ينظر بقدر أكبر من التمحيص إلى الدور الذي تلعبه العوامل السياسية أيضا. أشار روسو في مقدمة مسرحيته «نرسيسس» إلى أن استعراض شرور المجتمع المعاصر تم من قبل على يد مفكرين كثر، ولكن بينما أحس هؤلاء بالمشكلة، كشف هو الستار عن أسبابها. والحقيقة الجوهرية التي توصل إليها بحلول عام 1753 هي أن كل آثامنا لا تنبع أساسا من طبيعتنا بل من سبل الحكم المجحفة التي نحكم بها (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وقد أشار إلى النقطة نفسها بعدها بعامين في مقالته «خطاب عن الاقتصاد السياسي» حيث أورد أن «الناس على المدى الطويل هم صنيعة حكوماتهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وشدد على ذلك مرة أخرى في العقد التالي في مقالته «رسالة إلى كريستوف دي بومون» حيث أعلن أن السلوك الزائف للرجال المتحضرين سببه «نظامنا الاجتماعي» الذي يمارس إجحافا مستمرا على طبيعتنا (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع). وقرابة عام 1770، قال روسو في مؤلفه «اعترافات» إن حقيقة هذا المبدأ تجلت بالفعل له منذ ثلاثين عاما، وتحديدا خلال إقامته في البندقية، عندما شهد التبعات الوخيمة التي حلت بشعبها والمترتبة على عيوب حكومتها؛ وبذا، فإن مقدمة مسرحيته «نرسيسس» تتضمن التصريح الأول عن فكرة شغل تطويرها في سياقات متعددة وبأشكال مختلفة جزءا رئيسيا من حياة روسو وأعماله.
وفيما يخص الدور الذي لعبته الثروة في اضمحلالنا الأخلاقي، أوضح روسو لاحقا أنه متفق، جزئيا فقط، مع أفكار ستانيسواف وبورد. في العديد من الكتابات المتفرقة التي ظهرت له في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، ولا سيما في مقالة قصيرة عنوانها «الرفاهية والتجارة والفنون»، أقر روسو بأن جشع الإنسان دليل على رغبته في التعالي على جيرانه؛ ولذا لازم إقحام الذهب في الشئون البشرية حتما اللامساواة في توزيعه، ومن ثم نشأت رذيلة الفقر وإذلال الأغنياء للفقراء (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). ولكن حتى في إدراك الدور الذي يلعبه كنز الثروات في الفساد الأخلاقي للبشرية، أصر روسو على أنه لم يكن السبب الرئيسي لانحدارنا الأخلاقي. على العكس من ذلك، كما أعلن في «اعترافات»، فالثروة والفقر اصطلاحان نسبيان يعكسان مدى اللامساواة في المجتمع، لا يحددانه. وبعد أن أعاد روسو ترتيب أسباب الرذائل التي رسم خطوطها العريضة في «الخطاب» الأول، اقترح أن مكان الصدارة في الترتيب المشئوم لأسباب فسادنا ينبغي أن تحتله اللامساواة ثم تأتي بعد ذلك الثروة التي جعلت بدورها بالإمكان زيادة الرفاهية والكسل اللذين ساعدا على نشأة الفنون من ناحية، والعلوم من ناحية أخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وهكذا وردت هنا نسخة جديدة من حجته جاءت فيها الفنون والعلوم في المرتبة الأخيرة، لا الأولى كما افترض نقاده.
إن جانبا على الأقل من السبب الداعي لتعديله لآرائه ربما يمكن استخلاصه من مؤلفه «ملاحظات» ومقدمة مسرحيته «نرسيسس» حيث أوضح أنه رغم أن تطور الثقافة كان مسئولا عن مجموعة كبيرة من الرذائل، فإن «رغبتنا» في الأساس في التفوق عبر التعلم وليس أعمال المثقفين هي التي قوضت أخلاقنا في المجتمع المتحضر؛ وذلك لأن سعينا وراء الثقافة أكثر من أي شيء آخر يعبر عن إصرارنا على تمييز أنفسنا عن جيراننا وأبناء وطننا، هكذا زعم روسو مسهبا في العملين في استعراض ملاحظة موجزة عن «التهافت على التميز» وردت في «الخطاب» الأول نفسه؛ حيث ربما استرجع الدافع الأساسي لإسهام فينلون، الذي أدى إلى الصراع الذي اندلع بين القدماء والمحدثين في فرنسا لأكثر من ثلاثين عاما قرابة نهاية القرن الثامن عشر. إن ما يحثنا على تصنيع الأدوات والمعدات التي تستخدم في المجتمعات المتقدمة ليس رغبتنا في التميز بقدر ما هو رغبتنا في اكتساب احترام الآخرين، بحيث تبدو الحضارة مجرد إشباع لمحاولاتنا ترسيخ توزيع غير عادل للتقدير العام (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). يستحيل أن يكون للفضيلة الأخلاقية وجود حقيقي، هكذا زعم روسو، ما لم تكن الحظوظ الفردية من الموهبة تقريبا متكافئة. إن صمام الأمان الذي كان لدينا ضد الفساد، بحسب زعم روسو في «ملاحظات» هو المساواة الأصلية التي ضاعت الآن بلا رجعة، والتي صانت في فترة من الفترات براءتنا، وكانت المصدر الحقيقي للفضيلة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبهذا انتهى روسو إلى أن توقنا للتميز في الفنون والعلوم هو تجل للشعور الزائف نفسه تقريبا الذي يكتنفنا عندما تشتعل بداخلنا الرغبة في السيادة في مجال السياسة، وهي الفكرة التي سرعان ما سينصب تركيز روسو عليها في عمله «خطاب عن اللامساواة».
وهكذا، في جميع هذه الجوانب أدت ردود روسو على نقاد مقاله «خطاب حول الفنون والعلوم» به إلى وضع يده على الخطوط الأكثر تركيزا على الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحجته التي تتبعها في «الخطاب» الثاني والأعمال التالية عليه. ومع ذلك، فهو لم يتخل قط عن آرائه السابقة حول أهمية الفنون والعلوم باعتبارها عوامل مسببة للفساد البشري. على العكس، فطوال الصراع الذي اكتنف «خطاب حول الفنون والعلوم»، أعاد روسو دوما تأكيد مزاعمه التي طرحها في مقالته الحاصلة على جائزة تقديرية حول الصلات المتداخلة بين الخيلاء والكسل والرفاهية والثقافة، حتى عندما وسع نطاق حجته بحيث تستوعب عوامل أخرى. استطاع أحد نقاد روسو، ويدعى كلود-نيكولا لو كات، وهو أستاذ في التشريح والجراحة وسكرتير دائم لأكاديمية روان، أن يمد روسو بجبهة جديدة كليا لتطوير أفكاره؛ إذ تحداه بأن طلب منه تحديد أي جوانب الثقافة هي العرضة لاتهاماته. لا شك أن روسو لم يكن ليقترح تضمين الموسيقى ضمن الفنون والعلوم التي أفضت إلى انحطاطنا، هكذا قال لو كات الواثق بأن المساهم الأبرز في الموضوعات الموسيقية في «الموسوعة» لا بد أنه أدرى من غيره بفائدة ومزايا هذا الفن، وكيف أنه، على الأقل، يمثل استثناء لأطروحته العامة.
كان افتراض لو كات أبعد ما يكون عن الحقيقة. ففي عام 1753، وتحديدا إبان ذروة ما يعرف ب «الخلاف بين الممثلين الهزليين»، وهو الجدل الذي دار حول أوبرا «الخادمة السيدة» لبيرجوليسي و«الأوبرا الهزلية» الإيطالية الذي أدى إلى انقسام رعاة أوبرا باريس والبلاط الفرنسي إلى فصائل موسيقية، كتب روسو مقالته «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» التي ثارت حولها موجة من الجدل والاعتراض أكبر مما أحدثته مقالته «خطاب حول الفنون والعلوم» التي ظهرت قبلها بثلاث سنوات. ذهب روسو في مقالته إلى أن بعض اللغات أنسب للموسيقى من البعض الآخر؛ لأن لها أحرفا متحركة أكثر عذوبة، وتحولات نغمية أكثر روعة، وصورا بلاغية موزونة بقدر أكبر من الدقة. وزعم أن تلك اللغات، وفي مقدمتها اللغة الإيطالية على وجه الخصوص، مناسبة أكثر للتنغيمات اللحنية والتعبير الغنائي، وأن ثمة لغات أخرى، كالفرنسية مثلا، تتميز بافتقارها للأحرف المتحركة الرنانة، وبأحرف ساكنة غليظة جدا لدرجة أن الألحان العذبة يستحيل أن تنشد بها؛ مما يجعل المؤلفين الموسيقيين المنتمين للدول المتحدثة بمثل هذه اللغات يضطرون إلى تجميل موسيقاهم ببعض الضوضاء الحادة لقطع موسيقية مصاحبة. وبذا، انتهى روسو في السطر الأخير من مقالته إلى أن نطق الفرنسية في أغنية بسيطة خالية من المجملات مستحيل، وإذا سعى الفرنسيون إلى وضع شكل من الموسيقى خاص بهم، فسيكون هذا من سوء طالعهم. وبعد هذا العمل المستفز، وهذه الملاحظات التي تحط من قدر الموسيقى الفرنسية، تعرض روسو لهجوم واسع النطاق لإساءته إلى الذوق العام. وإذ لم يشعل روسو ثورة حقا بمؤلفه «رسالة عن الموسيقى الفرنسية»، فقد جعله يبدو لأول مرة في حياته عدوا للدولة الفرنسية. وكما أقر فولتير لاحقا، لم يكن روسو في أعماله كلها مستفزا من الناحية السياسية كما كان في تعليقه على الموسيقى الفرنسية.
شكل 2-3: صفحة عنوان الطبعة الثانية من مقالة روسو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية» (باريس، 1753).
Неизвестная страница
لو استطاع لو كات قراءة القسم المخصص لهذا الموضوع الذي كتبه روسو أصلا كجزء من مؤلفه «خطاب عن اللامساواة»، والذي ظهر في نهاية المطاف بعد وفاته عام 1781 على هيئة فصلين من «مقالة عن أصل اللغات»، لفهم لم لا يمكن أن تشكل الموسيقى أي استثناء لأطروحة روسو العامة الخاصة بمقالته «خطاب حول الفنون والعلوم». على العكس من ذلك، فقد تجلى فساد الأخلاق البشرية أيما تجل، بحسب روسو، في تاريخ تطور الموسيقى. جادل روسو في مقالته بأن لغاتنا الأولى ربما نشأت في المناطق الجنوبية من العالم حيث المناخ المعتدل والأرض الخصبة. ولا بد أنها كانت تتمتع بسمة إيقاعية ونغمية مميزة، وكان طابع الحديث بها شعريا أكثر منه نثريا، ويتغنى بها الناس أكثر من أن يتحدثوا بها. ولذا، فلا بد أن أسلافنا في تعبيرهم الأول عن المشاعر التلقائية، باختصار، كانوا يغنون (الأعمال الكاملة، الجزء الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لكن اللغات التي قدر لها أن تنشأ لاحقا في الظروف القاسية للشمال عبرت أولا عن احتياجات البشر لا عن عواطفهم، واتسمت بأنها أقل جهورية وأكثر حدة (الأعمال الكاملة ، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع الغزو المحتم لمنطقة البحر المتوسط إثر موجة من الغارات البربرية، لا بد أن طريقة الكلام الحلقية والمتقطعة لأهل الشمال طغت على التنغيمات العذبة التي ساعدت على التعبير عن المشاعر البشرية من قبل، وفقدت كل حلاوة لغاتنا الأصلية واتزانها وأناقتها (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). زعم روسو أنه لا بد أن الأشكال اللحنية للكلمات قد ذوت، وحرمت تعبيراتنا تدريجيا من سحرها الأولي. وتحت نير الحكم البربري والعمالة الزراعية، طغى الطابع النثري الرتيب فعليا على الطابع الشعري الغنائي، وبالتزامن مع نشأة النثر، أمست اللغات، ولا سيما الأشكال الأولى للفرنسية والإنجليزية والألمانية تبعا لذلك، نثرية الطابع (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
والموسيقى، من ناحية أخرى، لا بد أنها فقدت طابعها الحسي بفعل فقدان المكون الدلالي اللفظي الذي يحدث في اللغات النثرية، ولا بد أنها قد شهدت المزيد من التطور وحسب بفعل الابتكار القوطي للإيقاع بحيث تم إقحام أنماط وترية على ألفاظ البشر لتتمخض عن متع متكلفة عوضا عن المتع الطبيعية للأغاني المتداولة. تحت هذه الضغوط، لا بد أن الموسيقى أصبحت أكثر اعتمادا على الآلات الموسيقية منها على الغناء؛ ولا بد أن حساب الفترات الفاصلة حل محل عذوبة التحولات اللحنية (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولا بد أن النثر كان يتم تهذيبه كتابة لا حديثا، ولم يكن ليتم توصيله بقوة تعبيرية، بل فقط بإحكام القواعد النحوية وباستخدام دقيق للألفاظ، التي كانت الضرورة تقتضى الاحتكام إليه كي يتأكد المرء من مشاعره (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
وكأنه يواجه تحدي لو كات الذي وجهه لفلسفته التاريخية، سمى روسو الفصل الأخير من مقالته «علاقة اللغات بالحكومة»، وزعم فيه أن اللغات التي انفصلت تدريجيا عن الموسيقى معادية للحرية. إن البلاغة النثرية تلهم المرء خلق الخنوع، والكلام الذي يمسي خاويا بسبب افتقاره للنغم والإيقاع، بحسب تأكيد روسو، يساعد أيضا على خلق بشر خاوين من الداخل . لقد أمست لغات أوروبا الحديثة مناسبة وحسب للحديث العادي على مسافات قصيرة، كالثرثرة العقيمة للذين يتمتمون وحسب بوهن بعضهم لبعض بأصوات تفتقر إلى التنغيم، ومن ثم تعوزها الروح والعاطفة أيضا. وبينما استسلمت لغتنا إلى فقدان سماتها الموسيقية، فقدت حيويتها ووضوحها الأصليين، وأضحت لا تتجاوز كونها محض همهمات واهنة لأشخاص يفتقرون إلى قوة الشخصية أو الغاية. وإذا كان هذا هو الجانب الخاص للغاتنا المعاصرة، فما زال تجليها العام، بحسب روسو، أثقل وطأة وأكثر تعسفا. فبالنسبة إلى الذين يحكمون آخرين وليس لديهم ما يقولونه هم أنفسهم، ليس بوسعهم الكثير عندما يجتمعون بالناس غير الصياح فيهم ووعظهم، بألفاظ مغالى فيها وعصية على الفهم. إن بيانات حكامنا ومواعظ رجال ديننا تسيء باستمرار استغلال أحاسيسنا، وتصيبنا بخدر المشاعر، وأمست الخطب والمواعظ الملتوية التي يلقيها الحواة من العلمانيين والمتدينين الشكل الوحيد للخطابة الشعبية في العالم الحديث (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
ولذا، فإن الوجهين الخاص والعام للغة، بحسب ما انتهى إليه روسو، يشكلان صورة دقيقة للحالة المتردية تماما التي وصلت إليها مجتمعاتنا. فقد أمسى الحوار مستترا، وأضحى الخطاب السياسي عقيما، ونجحنا جميعا في الوصول بأسلوبنا الأصلي في الحديث إلى شكل عصري؛ إذ أمسينا وحسب مستمعين صامتين للذين يحكموننا بمساجلات وتلاوات من منبر الحكم أو الوعظ. وحقيقة الأمر أنه حتى منذ أن أمست تلك الأشكال من البلاغة المشوهة غير ضرورية لإبقائنا في أدوارنا المخصصة لنا، أدرك حكام الدول الحديثة على نحو صحيح أن باستطاعتهم الحفاظ على سلطتهم دون عقد أية اجتماعات أو تجمعات شعبية بالمرة. كل ما في الأمر أنه باستطاعتهم صرف انتباه رعاياهم إلى الأمور الكثيرة التي قد يتبادلونها فيما بينهم، وعن القليل من الأفكار التي ربما يودون إيصالها رغم كل شيء؛ لذا فإن التنغيمات الصوتية في شكلها الأخير التي عبرت قبل ذلك عن متعنا أعيد تشكيلها باعتبارها الألفاظ التي تشير إلى أعمالنا. وبينما أنه لا بد من أن التعبير «ساعدوني»
aidez-moi
حل في الماضي محل «أحبوني»
aimez-moi ، فإن كل ما نحدث به بعضنا بعضا الآن هو «أعطوني المال»
donnez de l’argent (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في الفصل الخامس عشر من الكتاب الثالث لمؤلفه «العقد الاجتماعي»، واصل روسو التأكيد على الفكرة نفسها، مقتطعا منها البعد الموسيقي، ومبقيا على البعد السياسي.
وبالطبع، لا بد أن عمل روسو «مقالة عن أصل اللغات» استلهم من أمور أكثر من مجرد اعتراض لو كات على «خطاب حول الفنون والعلوم». فاستنادا لشهادة روسو نفسه، كانت هذه المقالة تعد في الأساس جزءا من «خطاب عن اللامساواة»، لكنه تراجع عن ذلك؛ لأن المقالة كانت أطول من اللازم ولا تتسق مع موضوع الخطاب، ثم عاد فأرفقها عام 1755 بدراسة عنوانها «مبدأ اللحن» كتبها جزئيا ردا على انتقادات رامو لمقالاته حول الموسيقى التي خصصها لمؤلف «الموسوعة»، ثم ما كان منه إلا أن سحبها منها مرة أخرى. إن تأكيد المقالة على أولوية اللحن على الانسجام في الموسيقى محوري للقضية التي عرضها روسو معارضا بها رامو الذي أصر طوال حياته على أولوية الانسجام، التي فسرها في ضوء فكرته المبتكرة عن «الجهير الأساسي» للجسم الرنان. لكن معالجة روسو للموسيقى واللغة في مقالته تشكل جزءا جوهريا من فلسفته التاريخية أيضا، وتضم شرحا أكثر ثراء لزعمه بأن تقدم الحضارة أفضى إلى فساد الأخلاق مما يحويه نقاشه لأي من الفنون أو العلوم الأخرى. إلى هذا الحد تقبل المقالة تحدي لو كات لأطروحته الأصلية بأكبر قدر من المباشرة. في ملاحظة في «الرد الأخير» على بورد، زعم روسو أنه تنبأ مقدما وتعامل مع كل الاعتراضات المنطقية للناقدين التي يمكن أن توجه إلى رؤيته (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، لكنه بذلك لا يعطي إبداعهم حقه إلا قليلا، ولا يولي دقة ردوده السريعة غير المحسوسة أفكارها الجديدة إلى حد بعيد في نصه الأصلي قدرها الحقيقي.
شكل 2-4: صفحة عنوان مخطوطة «مبدأ اللحن».
Неизвестная страница
ولكن ثمة اعتراض وحيد على الأقل على «الخطاب» الأول قدر له أن يظل معلقا دون إجابة في الكتابات الأولى لروسو. فقد اشتكى أحد النقاد - ربما كان الأب رينال الذي تعاون لاحقا مع ديدرو وآخرين في جمع مؤلف ضخم بعنوان «تاريخ الهندين» - من أن روسو قد أخفق في تقديم أي استنتاجات عملية مترتبة على أطروحته، وتجاهل اقتراح علاج للحالة التي وصفها. في «الرد الأخير» على بورد، أقر روسو بصحة هذا الانتقاد، وعلق بأنه رأى الشر وحسب، وحاول أن يضع أصابعه على أسبابه. زعم روسو في هذه المرحلة من حياته أن البحث عن علاج مهمة يجب أن يتركها للآخرين (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). فهو لم يقبل التحدي في مقالته «خطاب عن اللامساواة»، ولا في غيرها من كتاباته التي ظهرت في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر وأواسطها، لكنه لم يدر له ظهره كليا أيضا. ففي أعمال بعينها خلال تلك الفترة أو بعدها بفترة وجيزة والتي لم يقدر لها النشر، سمح روسو لخياله بأن يشطح في أحلام اليقظة السياسية التي قد تبدو وكأنها توعز إلى ضرورة التغيير الجذري، كما في الفصل الثاني من الكتاب الأول لمؤلفه «مخطوطة جنيف»، وهي نسخة مبكرة لمؤلفه «العقد الاجتماعي» الذي كان يشمل رده على بعض ملاحظات ديدرو في «الموسوعة» حيث كان يدعو إلى إقامة «جمعيات جديدة لتصحيح ... عيوب المجتمع بشكل عام» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبالتالي، ففي «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح»، وفي النسخة الأخيرة من «العقد الاجتماعي»، في محاولة لإحياء مثل المجتمع المدني التي فقدتها البشرية، اقترح مجموعة من المبادئ التي من شأنها أن تؤدي إلى سمو مشاعرنا الأخلاقية لا إلى انحطاطها، لكنه اكتشف فجأة أن السلطات في بلده جنيف ومستضيفته فرنسا منزعجة بشدة مما كتب لدرجة أنها رأت في وجوده على أرض بلادها تهديدا للنظام العام.
الفصل الثالث
الطبيعة البشرية والمجتمع المدني
يعتبر «خطاب عن اللامساواة» أهم كتابات روسو المبكرة وأبرزها على الإطلاق، وبالإضافة إلى «العقد الاجتماعي» و«إميل»، كان لهذا العمل أوسع أثر بين أعماله كلها. ولكن أثره على قرائه لم يكن فوريا أو قويا جدا كرد الفعل العام تجاه عمله «خطاب حول الفنون والعلوم» أو «رسالة عن الموسيقى الفرنسية»؛ حيث إنه - على النقيض من «الخطاب» الأول - لم ينل جائزة أكاديمية ديجون التي دخلها روسو به طمعا في الحصول على جائزة جديدة، وافتقر إلى إسهام روسو في جدال كان مثيرا للاهتمام مثل «الخلاف بين الممثلين الهزليين» الذي أثار مشاعر قوية بين أنصار السياسة والموسيقى الفرنسية والإيطالية على حد سواء. حاول هذا العمل، الأقل اهتماما في أسلوبه بالزخارف البلاغية من أعماله السابقة، تقديم تحليل أعمق للحضارة وسماتها المميزة بواسطة حجة أقوى، للمرة الأولى بأسلوب سياسي واجتماعي يمثل حقا إشراق فلسفة روسو التاريخية في أكثر أشكالها نضجا. وبينما حاز هذا العمل بعض الثناء وأيضا قدرا أكبر من العداء من النقاد الفرنسيين، فإن أثره الأعظم أمكن لمسه ربما أولا في اسكتلندا، حيث صاغ آدم سميث «نظرية المشاعر الأخلاقية» خاصته جزئيا كرد على مؤلف روسو، وبنى اللورد مونبودو حجته الخاصة ببشرية القردة العليا في عمله «أصل اللغة وتطورها» في ضوء الافتراضات المتعلقة بهذا الموضوع التي حواها عمل روسو. وفي ألمانيا، استلهم كانط في «فكرة لتاريخ عالمي» وهيردر في «أفكار حول فلسفة تاريخ البشرية» أيضا من مبادئ ذلك الخطاب التطورية؛ فاستلهم كانط تحديدا تمييزه بين تهذيب الثقافة وغرس الأخلاق، بينما استلهم هيردر بصفة أكثر خصوصية رؤيته للتشكل الاجتماعي للغة. وفي عصرنا الحالي، اعتبر كلود ليفي-ستروس هذا العمل الإسهام التنويري الافتتاحي لعلم الأنثروبولوجيا. ورغم أن هذا العمل يستعرض عصورا أقدم مما تناولته أعمال روسو الأخرى، فقد اعتبر أكثر أعماله راديكالية وتقدمية بين أعماله الرئيسية، وبالتأكيد بين الأعمال التي نشرت في حياته.
يرجع جزء من السبب وراء اكتساب هذا العمل تلك المكانة إلى الأسلوب النقدي لتقييمه للمبادئ السياسية السابقة، بما في ذلك المفهومين القديم والحديث للقانون الطبيعي والنظريات المعاصرة للعقد الاجتماعي. وبينما كان هناك تركيز كبير من جانب روسو في هذا العمل على فلسفة اللغة عند كوندياك والتاريخ الطبيعي عند بوفون، وتعرض بالنقد الشديد لبعض أفكارهما، فإن الأفكار السياسية والاجتماعية لكل من هوبز وبوفندورف ولوك، في المقام الأول ، هي التي نالت أكبر قدر من التمحيص والهجوم من جانبه. فقد كان روسو على قناعة بأن هؤلاء المفكرين قدموا رؤية لمصادر الفساد الأخلاقي البشري بشكل كان صحيحا إلى حد كبير بصفة عامة، لكنهم أساءوا فهم الدلالة الحقيقية لأفكارهم. فمن ناحية، فسروا كيف أن الناس في الماضي تعرضوا للتضليل حتى قبلوا المؤسسات التي أفسدتهم أخلاقيا، ولكنهم من ناحية أخرى اعتقدوا أن واجب كل إنسان أن يدعم مثل هذه المؤسسات؛ نظرا لتقديمها حلولا لمشكلة أخرى، وهي مشكلة مختلفة بالكامل من وجهة نظر روسو. ودحضه لأفكار كل من هوبز وبوفندورف ولوك سار تقريبا على نفس الخطوط الأساسية.
في تصدير «خطاب عن اللامساواة»، زعم روسو أنه لا بد أن هناك نوعين من اللامساواة أو التفاوت بين البشر؛ أحدهما طبيعي، ومن ثم فهو خارج عن إرادتنا، والآخر أخلاقي أو سياسي لأنه يعول على الاختيار البشري (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لاحظ روسو أنه ما من رابط جوهري بين هذين النوعين من اللامساواة؛ وذلك لأن مزاعم الهيمنة التي يطرحها القلة التي تحكم الأغلبية لا يمكن أن تكون ذات تأثير ما لم يتم الإقرار بصحتها، وهذا الإقرار لا يكون هبة من الطبيعة للحكام وإنما يمنحه الناس لهم. ولذا، فإن الشكلين الأخلاقي والسياسي للامساواة اللذين يسودان شتى أرجاء العالم لا يجوز تبريرهما مطلقا بالإشارة إلى أي من الخصال الطبيعية التي تميز الأفراد بعضهم عن بعض. ولو كان العكس صحيحا، لخلقت ممارسة القوة نفسها إلزاما بالامتثال، ولنال البشر حينئذ بشكل ما احترام جيرانهم للسبب نفسه الذي يثير خوفهم منهم. في «العقد الاجتماعي» فسر روسو بإسهاب أكثر أن القوة ليست أساس الحق، وهذا هو موقفه في «خطاب عن اللامساواة» أيضا. فقد اعتقد هو وغيره من منظري العقد الاجتماعي أن القواعد التي تميز بين الأشخاص في المجتمع لا تسود إلا من خلال موافقتهم وحسب؛ ولذا فلا بد أن حالات اللامساواة، بحسب زعم روسو في الجزء الأول من نصه، التي خلقتها الطبيعة «تحولت» إلى حالات اللامساواة التي فرضها البشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
شكل 3-1: صفحة العنوان والصورة الموجودة في الصفحة المقابلة لها (لوحة «عاد لأنداده») لمقالة «خطاب عن اللامساواة» (أمستردام، 1755).
تصور روسو الفكرة المحورية ل «الخطاب» الثاني خاصته على أنها سرد للكيفية التي ربما شهد بها الجنس البشري تحولا من هذا النوع. فما دام أن أسلافنا في حالتهم الطبيعية لم يكن ليتاح لهم سوى تواصل عارض ونادر فحسب بعضهم مع بعض، فقد زعم أن عناصر التمييز المبكرة بين الأفراد لم تكن لتتمتع بأي حيثية. لكن حالات اللامساواة التي خلقها البشر أنفسهم شكلت السمات السائدة لكل مجتمع (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في حالتهم الأصلية، كان من الممكن ألا يتمتع أسلافنا «بأي صلات أخلاقية أو واجبات محددة بعضهم تجاه بعض» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وبما أن الإنسان البدائي لم يكن بحاجة لصحبة المخلوقات الأخرى من أقرانه، ولم يكن لديه رغبة في إلحاق الضرر بهم، لم يتحول ضعفه إلى جبن أو قوته إلى خطر محدق بجيرانه إلا مع ميلاد المؤسسات الاجتماعية وحسب. إن حالات اللامساواة التي نشأت بين الناس في المجتمع، في المقابل؛ حيث تسود العلاقات الثابتة والمحددة، تربط بين الأفراد بعضهم بعضا بشكل دائم عبر قنوات التبعية والسلطة.
ولأنهم، هوبز وبوفندورف ولوك، أخطئوا تماما في تصوراتهم للحالة الطبيعية للبشر، فقد أخطئوا، في المقابل، عندما افترضوا أن كل الأفراد يجب أن يكونوا متساوين في قدراتهم، وتخيل كل من هؤلاء المفكرين أنه كتبعة لهذه المساواة، فإن كل شخص كان سيخشى جيرانه وسيعجز عن العيش في أمان بينهم. إن البشر ذوي القدرات المتكافئة، بحسب زعم هوبز، يمكن أن يسعوا لتحقيق الغايات نفسها على مسئوليتهم الشخصية وحسب؛ لأنه من دون قوة مشتركة تجعلهم يخافون ويحترم بعضهم بعضا، كانوا سيعيشون في حالة حرب دائمة (المواطن، الفصل العاشر، ليفايثن، الفصل الثالث عشر). ولإقرار السلام، كان يجب على البشر تأسيس فكرة الكيان السامي المختلق أو «الإله الفاني»، بحسب افتراضه، الذي يمارس سلطة مطلقة لحماية كل شخص من غيره، بحيث يمكن التغلب على الآثار المدمرة للمساواة عبر إخضاع الأغلبية كلها «لليفايثن». ولذا، بما أن حالات اللامساواة الناتجة عن الحالة الطبيعية لدى روسو كانت غير ذات أهمية بالمرة للبشرية، فبحسب هوبز حقيقة أنه لا بد أن تكون هناك مساواة في عالم ليس له سيد كانت لها أهمية عظيمة، وكانت من بين الأسباب التي جعلت تحقيق السلام في ذلك العالم مستحيلا بطبيعة الحال.
بالنسبة إلى بوفندورف، بالمثل، لا بد أن البشر كانوا متساوين بشكل مثير للقلاقل في حالتهم الأصلية. وعلى الرغم من أنه اتفق مع هوبز على أن الأنانية هي الدافع الأساسي الذي كان يقودنا، لا الإيثار أو الرفقة، فقد حاج بأننا في الحالة الطبيعية وقعنا تحت رحمة عناصر الطبيعة والحيوانات المفترسة؛ مما دفعنا للتكتل معا بسبب ضعفنا وترددنا، لا بشكل إيجابي بل بشكل سلبي، كي نبقى على قيد الحياة (قانون الطبيعة والأمم، الباب الثاني، الفصل الثالث). كان هذا مذهب بوفندورف الخاص ب «النزعة الاجتماعية الطبيعية»؛ وهي الخصلة التي أفضت، بحسب زعمه، بأسلافنا إلى تشكيل مجتمعات تزداد تعقيدا وتطورا باستمرار نظرا للإمكانات اللامحدودة والرغبات النهمة التي يتفرد بها جنسنا. وبالتالي، كان نمو المجتمع السياسي تدريجيا أكثر مما تخيل هوبز، ولكن بالنسبة إلى بوفندورف، فقد وجد بالمثل للتغلب على حالة عدم الاستقرار الخطرة التي تسببت فيها حالة المساواة الطبيعية الخاصة بنا عبر قبولنا بقاعدة الحاكم المطلق. قدم المجتمع المدني أو الحضارة، المتخيلة على هذا النحو، علاجا للشقاء البربري لحالتنا الهمجية. لاحقا، سيسمي كانط نظرية نشأة المجتمع هذه بمبدأ «النزعة الاجتماعية للاجتماع».
Неизвестная страница
وبالنسبة إلى لوك أيضا، لا بد أن المساواة الطبيعية بين البشر في حالتهم الأصلية، «التي تكون فيها السلطات والنفوذ كلها متبادلة» (الأطروحة الثانية عن الحكومة، الفصل الثاني)، هي التي جعلت حيازة الممتلكات غير مؤكدة وغير مأمونة. فلا يمكن، بحسب فرضيته، حماية الملكية الخاصة وضمان حقنا الطبيعي فيها إلا في المجتمع المدني حيث تقوم بحمايتها دوما سلطة أعلى مكلفة بالعناية بها. وبينما كان تركيز هوبز الأساسي البعد السياسي للسلام، وبوفندورف الحاجة الجمعية للأمن، ولوك الحماية المدنية للملكية، بدا أن الكتاب الثلاثة متفقون على أن الأفراد كانوا بفطرتهم عاجزين عن الاستمرار في الحياة في غياب الحكومة، ومن ثم لا بد دوما من خلق سلطة حاكمة للحد من الأخطار التي تصاحب المساواة المطلقة بين البشر.
كانت رؤية روسو لأصول اللامساواة في «الخطاب» الثاني على الأقل موجهة جزئيا لمعارضة هذه المزاعم. ففي رأيه، لا بد أن السلطات العليا التي تخيلها هوبز وبوفندورف ولوك عززت من الاختلافات التي تفرق الناس بعضهم عن بعض، ولم تتجاوز مثل هذه الاختلافات. لقد اعتقد روسو أنه يستحيل أن يكتشف المرء من أعمال أي من هؤلاء أو غيرهم من المفكرين السياسيين لماذا كان ينبغي على البشر في حالتهم الطبيعية التماس الحماية من جيرانهم، لكنه اعتقد أن أفكارهم مجتمعة فسرت مع ذلك كيف اعتبر البشر هذه العلاقات المحددة والثابتة التي تشكل الاختلافات فيما بينهم شرعية في المجتمع الفاسد. وبحسب روسو، تحديدا في مواجهة هوبز، صحيح أن البشر لا بد أنهم استحدثوا كل التزاماتهم الاجتماعية من أجل حماية حياتهم وممتلكاتهم، ولكن ما دام أنه من الممكن أنهم لم يكونوا في حالة حرب، أو أنهم حازوا أي ممتلكات، أو كانت لديهم أي طموحات للهيمنة أو أي سبب يدعو الواحد منهم للخوف من الآخر، في حالتهم الطبيعية، فقد كان من غير المتصور أن يشعروا أصلا بالحاجة إلى مثل هذا الأمن (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). كان من الممكن ألا تنطوي الحالة الطبيعية على عوامل داخلية تقصي من يعيشون تحت مظلتها خارجها، ولم تكن مشاعر الحسد أو الريبة التي تجعل الناس يخشون على أمانهم أو يهابون خسارة ممتلكاتهم، في رأيه، ملائمة ببساطة للبشر الذين كانوا يعيشون وحدهم راضين.
في «خطاب عن اللامساواة» أقر روسو بأن فكرة الملكية الخاصة لا بد أنها شكلت المبدأ «الأكثر» جوهرية للالتزام ضمن مجتمع ما، وعلى الرغم من أنه من المستبعد أصلا أن يصوغ الهمج مبادئ من أي نوع، أصر روسو على أن مثل هذه الفكرة لا بد أنها قد نشأت في فترة ما بعد أن شرعوا في الاستقرار في مجتمعات. أخطأ بوفندورف عندما افترض أن النزعة الاجتماعية الطبيعية للبشر لا بد أنها دفعتهم إلى العيش معا، بما أن المجتمع نفسه غير طبيعي ويعول على مفردات رمزية متفق عليها، أي لغة، وهي التي تجعل إطار الخطاب المفهوم المشترك ممكنا. لكن اللغة بدورها لم يكن يمكن أن تنشأ دون مجتمع موجود مسبقا قام بتشكيلها وأعطاها معنى مقبولا عموما للألفاظ المفردة. وفي ظل حاجة اللغة إلى مجتمع بنفس قدر حاجة المجتمع إلى لغة، انتهى روسو - في فقرة تتناول أصول اللغة الموجهة فوق كل شيء للفلسفة اللغوية لكوندياك - إلى أنه يعجز عن إثبات أيهما سبق الآخر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
في رأي روسو، توصل كوندياك، في عمله «مقالة عن المعرفة البشرية» الصادر عام 1746، بشكل صحيح إلى أنه من غير الممكن أنه كانت هناك لغات قائمة على المنطق في الحالة البدائية للبشرية، أيا كانت الوسيلة التي تشكلت بها، ما دامت المهارة اللغوية يمكن اكتسابها وحسب بمجهود كبير في غضون فترة تدريب طويلة. أدرك كوندياك، وكذا روسو، أن اللغات البدائية للبشر لا بد أنها كانت مجرد صرخات طبيعية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى؛ مقالة عن المعرفة البشرية، الجزء الأول، القسم الثاني). ولكن على العكس من روسو، تخيل كوندياك أن هذه التعبيرات العفوية كانت رموزا بدائية للفكر، تمثل الترابط البدائي للأفكار لدى أسلافنا؛ لأنه حتى في أقدم العصور لا بد أن استخدامهم للرموز اللغوية الاعتباطية كان يشير إلى شيء آخر بخلاف اللغة. في «خطاب عن اللامساواة» عارض روسو هذه الأطروحة زاعما أن الأفراد في حالتهم الطبيعية لم يكونوا ليشرعوا في تصور أفكار دون لغة، تماما كما لم يكن باستطاعتهم إقامة مجتمع دون لغة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). زعم روسو أن الهمج كانوا بحاجة إلى خبرة في التاريخ الطبيعي والميتافيزيقا لكي يفهموا المعاني العامة للاصطلاحات التي تقتضيها حتى أكثر الرموز اللغوية بدائية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، بما أن اللغة لا تمثل الأفكار والصور وحسب، بل تبين وتشكل جزءا أساسيا منها، إذ لا تمتلك وضعا مستقلا خاصا بها.
في غياب المجتمع واللغة في أكثر حالاتنا همجية، كان تأسيس حق الملكية، بوصفه الذي أشار إليه لوك، مستحيلا أيضا هناك. فلم يكن من الممكن أن يعبر الرجال والنساء عن ادعاءاتهم الخاصة بالملكية أو يفهموها حتى توضع أولا القواعد اللغوية للحياة الاجتماعية؛ لأنه دون شكل ما من اللغة لم يكن ليتشكل لدى الأفراد تصور عما ينضوي تحت ملكيتهم تحديدا، ولما كان باستطاعتهم احترام أي شيء يملكه الآخرون. وحقيقة الأمر أن تأسيس الملكية الخاصة، بحسب اعتقاد روسو، لا بد أنه اعتمد على مجموعة متنوعة كاملة من الأعراف والممارسات التي تطورت على مدار التاريخ البشري. ولم يتطلب لغة وحسب، بل صناعة وأعمالا وتطورا وتنويرا بحيث شكل فعليا ما أطلق عليه «الحد الأخير في الحالة الطبيعية»، والحد الأول لنشأة المجتمع المدني (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
لكن إذا كانت فكرة امتلاك حق حصري في حيازة بعض الأراضي لم يكن من الممكن اكتسابها إلا بعد أن شرع البشر في إقامة علاقات ثابتة بعضهم مع بعض، فما زال من المهم لروسو أنه من الواجب علينا إدراك أن التأسيس الذي تم استنادا إلى هذه الفكرة يعتبر محوريا في جميع العلاقات الاجتماعية اللاحقة. لاحظ روسو أن «الإنسان الأول الذي سور قطعة أرض، وفكر في عبارة «هي ملكي»، ووجد من البسطاء من يصدقونه ... كان مؤسس المجتمع المدني الحقيقي.» إن هذا المدعي، السلف الهمجي لجنسنا البشري المستلهم من بلاغة لوك البارعة، زج بالبشرية إلى التبعية الاجتماعية، طامسا الحقيقة، التي أقرها لوك نفسه قبل أن يطرح قضيته المتعلقة بالملكية الخاصة، التي مفادها أن «ثمار الأرض لنا جميعا، والأرض نفسها ليست ملكا لأحد» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لو كان المجتمع المدني قد تشكل من الأساس لتبرير علاقات الملكية البشرية، فلا بد إذن أن «هذه العلاقات»، علاوة على ذلك، هي التي أشعلت أتون الحرب. ولا بد أن الأراضي أمست شحيحة من خلال الاستئثار الفردي والميراث، بينما لا بد أنه كانت هناك زيادة في عدد السكان؛ مما أفضى إلى حالات اغتصاب للأراضي من قبل الأثرياء، وسرقة من قبل الفقراء، وأهواء لا كابح لها من قبل الطرفين (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولذا، كما أخطأ لوك في افتراضه أن البشر كان بإمكانهم تأسيس حقوق إقليمية للاستخدام والحيازة الحصريين قبل أن يقيموا أي مؤسسات اجتماعية، أخفق هوبز في إدراك أن علاقات الملكية التي أقامها البشر في مجتمعاتهم لا بد أنها كانت السبب الرئيسي في اندلاع الحرب، بحسب زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبما أن البشر كان من الممكن أن يضر بعضهم بعضا فقط بعد أن يقيموا علاقات ملكية تقسيمية، وبسبب هذه العلاقات، لم يكن لديهم ببساطة في حالتهم الطبيعية الخالية من فكرة الملكية أي داع لإلحاق الضرر بعضهم ببعض أو ليعاني أحدهم على أيدي الآخرين.
لذا، اعتقد روسو أن العقد الاجتماعي الذي وضعه البشر لتأمين ممتلكاتهم لم يكن ليصاغ في الحالة الطبيعية، ولكن، على النقيض، لا بد أنه حيلة احتال بها الأثرياء في المجتمع ليخدعوا الفقراء. ربما بدت بنوده مقنعة ظاهريا؛ لأن من وضعوه أشاروا إلى سيادة القانون غير المتحيزة وإلى أمن كل البشر، لكن غايته الحقيقية كانت تأسيس نظام كانت تقتضيه الضرورة لحماية أملاك البعض على حساب البعض الآخر. وكانت تعني موافقة الفقراء (أي السواد الأعظم من الناس) على هذا العقد أنه مطلوب منهم التخلي عن حقهم في مشاركة الثروة التي يتمتع بها أصحاب الأملاك، وترتب على ذلك أنه في مقابل العيش في سلام وحماية أرواحهم، بحسب تعبير روسو، «تهافت الجميع على قيودهم، ظنا منهم أنهم بذلك يضمنون حريتهم» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن فكرة أن «الملكية سرقة»، التي روج لها برودون وغيره من الاشتراكيين في القرن التاسع عشر، تدين بالكثير لهذه الحجة.
كما رآها روسو من وجهة نظره، فقد خدمت الرؤى السياسية لكل من هوبز وبوفندورف ولوك وحسب غاية توفير إقرار قانوني للامساواة الأخلاقية بين البشر، وترسيخ تلك العلاقات الاجتماعية الظالمة وحسب في القانون وبقوة السلطة القائمة بشكل غير طبيعي، تلك العلاقات التي تتطلب في واقع الأمر قواعد العدالة الخاصة بالمجتمع المدني للسيطرة عليها. قال روسو في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «مخطوطة جنيف»، لم يكن الخطأ الذي وقع فيه هوبز افتراضه المسبق بوجود حالة حرب بين البشر فور أن اجتمعوا في مجتمع، بل افتراضه أن هذا الوضع طبيعي وأنه يرجع إلى الرذائل النابعة منه حقا لا المفضية إليه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). لقد نظر كل من هؤلاء المفكرين الثلاثة فعليا إلى أفكارهم باعتبارها حلولا لبعض المشكلات التي كانت تلك الحلول في حقيقة الأمر سببا فيها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن افتراضات هوبز وبوفندورف حيال خصالنا الأساسية جعلتنا نبدو بائسين جدا، لدرجة أنه لا يسعنا إلا الإعجاب بالسلام والعدالة اللذين تجلبهما لنا حكوماتنا التي تحولنا من همج إلى مواطنين. غير أننا عندما نبادر بتنحية الأعمال الرائعة لمثل هؤلاء الكتاب القانونيين جانبا، وتأمل حال البشر بعمق خارج إطارها، ماذا سنرى؟ هكذا سأل روسو في مقالة موجزة له بعنوان «حالة الحرب»، التي ربما كتبها في أواخر خمسينيات القرن الثامن عشر، والتي ربما كانت ذات صلة بتعليقاته على مساعي الأب دي سان-بيير في أوائل القرن الثامن عشر للترويج للسلام الدائم. أجاب روسو عن ذلك بقوله: إننا نرى كل البشر «يئنون تحت نير حديدي، والبشرية كلها تسحقها حفنة من الطغاة»، والمعاناة والجوع في كل مكان، بينما الأثرياء يعيشون دون أي تأنيب ضمير على معاناة الآخرين وآلامهم؛ وفي شتى أنحاء العالم لا نجد شيئا سوى «التسلط الشديد على الضعيف من جانب القوي، والمدعوم بقوة القانون المهيبة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبرؤى كهذه عبر عنها بألفاظ عميقة مماثلة، عبر أتباع روسو ومعجبوه الراديكاليون خلال الثورة الفرنسية عن ازدرائهم الشديد لمؤسسات النظام الفرنسي القديم.
اعتقد روسو أن هوبز وبوفندورف ولوك قد تغافلوا عن الدلالة الحقيقية لأفكارهم؛ غالبا لأنهم كانت لهم آراء مغلوطة عن الطبيعة البشرية. فقد نسبوا للإنسان الهمجي مجموعة من الخصال لم يكن ليكتسبها إلا عندما يكون عضوا في مجتمع، وبما أنهم أخفقوا في التمييز بين سماتنا الاجتماعية وخصالنا الفطرية، فإن تصوراتهم لسلوكنا الأصلي تشكلت بسرعة مبالغ فيها، وتلبست بتراكمات تطورنا. وبعد أن اضطلعوا بمهمة تفسير الحالة الطبيعية، بحسب زعم روسو في حاشية مهمة ومطولة في «الخطاب» الثاني، لم يتوانوا في نقل أفكارهم عبر قرون من الزمان، وكأن البشر في عزلتهم عاشوا بالفعل مع جيرانهم (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). والأدهى من ذلك أنهم اقترحوا أن بعض أكثر رذائلنا جسامة ينبغي أن يجيزها القانون.
السؤال الآن: كيف كان حال أسلافنا إذن دون كابوس تاريخنا الاجتماعي، كشأن تمثال جلوكوس الذي وصفه أفلاطون في الكتاب العاشر من «الجمهورية»، قبل أن تشوهه آثار الزمن المدمرة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؟ لقد كانت غاية «خطاب عن اللامساواة» الأساسية تفسير تغير طبيعة جنسنا البشرية بسبب التحولات التي تعرض لها في المجتمع، على غرار الاعتقاد الذي ساد في أواخر القرن العشرين الذي وصف ما حدث للبشرية بأنه انتقال من الطبيعة إلى الحضارة. زعم روسو هنا أن أسلافنا الهمج لا بد أنهم اشتركوا مع غيرهم من الحيوانات الأخرى في خصلتين في حالتهم الطبيعية؛ الأولى: هي حب الذات أو النزعة الدائمة لحفاظ المرء على حياته، والثانية: هي الرأفة أو التعاطف مع معاناة غيره من أبناء جنسه. كتب روسو في مقدمة عمله يقول: «بتدبر أول أعمال الروح البشرية وأبسطها على الإطلاق، أعتقد أنه بإمكاني أن أرى فيها مبدأين سابقين للعقل»، يعنى أحدهما برفاهيتنا وحفاظنا على نوعنا، والآخر يوحي بوجود نفور طبيعي عند رؤية أي من الكائنات الأخرى وهي تتألم أو تموت . وزعم روسو أنه يبدو أن كل قواعد الحقوق الطبيعية مستقاة من هذا الاتفاق بين هذين المبدأين، دون الحاجة إلى إقحام فكرة بوفندورف عن النزعة الاجتماعية الطبيعية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولا بد أن هاتين الخصلتين كانتا سابقتين للعقل والنزعة الاجتماعية الطبيعية؛ ذلك لأن هاتين السمتين اللاحقتين كانتا ستحتاجان إلى فترة طويلة جدا كي تنضجا، ولم يكن من الممكن أن يكون لهما أي وجود في حالتنا الطبيعية. وبينما زعم فلاسفة القانون الطبيعي الذين جاءوا قبله أن السبب الأساسي الذي جعل البشر يجتمعون معا هو وجود نزعة اجتماعية لديهم، وهي التي أمكن إشباعها من خلال امتلاكهم العقل، رفض روسو في «خطاب عن اللامساواة» تأسيس المجتمع على القانون الطبيعي. فهو لم يوافق على فكرة أن البشر يختلفون عن الحيوانات بسبب امتلاكهم لأي خصلة أو مبدأ طبيعي سام؛ ولذا فردا على سؤال المسابقة الذي طرحته أكاديمية ديجون - «ما أصل اللامساواة بين البشر؟ وهل يجيزها القانون الطبيعي؟» - أجاب مرة أخرى بالنفي تماما كما فعل من قبل في «خطاب حول الفنون والعلوم». تعجب روسو في ختام «الخطاب» الثاني بأنه «مما ينافي قانون الطبيعة» أن قلة من البشر يعيشون متخمين بما يفيض عن حاجتهم بينما يفتقر السواد الأعظم إلى أبسط الضروريات (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لا يخول القانون الطبيعي اللامساواة، بحسب ظن روسو؛ لأن القانون الطبيعي لا يملي قواعد السلوك البشري في الحالة البدائية للبشر. ويشكل الجزء المتبقي من «الخطاب» الثاني لروسو محاولة لاقتفاء أصل وتاريخ اللامساواة الأخلاقية.
Неизвестная страница
كان روسو مقتنعا بأن هوبز تحديدا تجاهل الرأفة أو التعاطف الطبيعي عند البشر؛ لأنه كان لديه انطباع خاطئ عن حبهم لذاتهم. فقد تخيل أنه لكي يحافظ الأفراد على حياتهم، فإنهم كانوا مضطرين إلى مقاومة محاولات الآخرين القضاء عليها؛ ولهذا كان من المستحيل في الحالة الطبيعية لأي إنسان أن يكون متعاطفا وآمنا في الوقت نفسه. لكن بالنسبة إلى روسو، في المقابل، لا يتعارض اهتمام المرء بذاته على النحو الملائم مع اهتمامه برفاهية الآخرين، على العكس من ذلك، فقد اعتقد روسو أن الرغبة التي لا تعرف الرأفة والتعاطف في التمتع بالأمن على حساب أي إنسان آخر تتسبب في نشأة مشاعر الغرور والازدراء التي تحيل الغرباء إلى أعداء. لاحظ روسو أن ماندفيل، الذي تشابهت نظريته عن الطبيعة البشرية في كتابه «قصة النحل» الصادر عام 1714 مع نظرية هوبز، اتفق مع هذا التصور، على عكس هوبز (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولم يكن تصوره عن حب الذات يعني اهتمام المرء بذاته على النحو الملائم بل الخيلاء، وهو شعور نسبي ومصطنع يثير في المجتمع لدى الأفراد رغبة في إعلاء ذواتهم على الآخرين، ويعتبر، كما يشير روسو في حاشية أخرى مهمة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، مصدرا «للشعور بالفخر» الذي نسبه هوبز بشكل جوهري وخاطئ للطبيعة البشرية عامة.
وبينما يرعى البشر والحيوان على حد سواء أنفسهم في حالتهم الطبيعية أو غير المتحضرة ويتعاطفون مع الآخرين من بني جنسهم، فإن الأشخاص المنحرفين أخلاقيا وحسب هم الذين يرعون أنفسهم بالنظر إلى الآخرين متمنين أن يكونوا مثلهم أو أفضل منهم. في الحالة الطبيعية الحقة، لم يكن للخيلاء وجود. وكان حب الذات والرأفة اللذان تشاركنا فيهما بقية المخلوقات كافيين لضمان بقائنا. وباستبعاده الخيلاء من تعريفه للطبيعة البشرية في «الخطاب» الثاني، انفصل روسو عن تقليد قائم على التخمين الذي كان سائدا في بدايات الفلسفة الحديثة والمتعلق بالدوافع التي تجعل البشر ينزعون إلى الاجتماع. إن الهيمنة المزعومة للعواطف الأنانية على العقل البشري، من ناحية، وتعرضها لتحكم محمود بطرق تدعم الصالح العام، من ناحية أخرى، كانت فرضية آمن بها أتباع باسكال من بين فلاسفة اللذة الأوغسطينيين، وكذا هيوم وغيره من فلاسفة الأخلاق المحسوبين على حركة التنوير الاسكتلندية، بهدف جعل فكرة «التجارة المسالمة» ممكنة، وبهذا يجعلون في نهاية المطاف السبب وراء ثروة الشعوب هو السعي وراء الرفاهية. وعلى نفس هذا النسق جاء تحول علم اللاهوت في القرن السابع عشر إلى علم النفس الاجتماعي في القرن الثامن عشر لدعم روح الرأسمالية، وخلع مصداقية على المؤسسات التي ترعاها. لكن مثل هذه الحجج كانت، بحسب تفسير روسو، مغلوطة بالمرة بسبب عزوها لفكرة مصطبغة بصبغة اجتماعية بالفعل عن حب الذات لأفراد لم يكن لهم أصلا أن يتأثروا بها. في الجنة كما صورت في «خطاب عن اللامساواة»، لم يعان الإنسان من أي إغراءات من شأنها أن تؤدي إلى سقوطه وصعوده اللاحق.
ومع ذلك، افترض روسو أيضا أن البشر كان لديهم قدرة فريدة على تغيير طبيعتهم. وبينما أن غيره من الأجناس الأخرى من الحيوانات منحها الله بشكل طبيعي الغرائز والقدرات التي تحتاج إليها للبقاء، نجد أن البشر في المقابل أحرار قادرون على الاختيار. وتمييزا لنا عن المخلوقات المنساقة دوما وراء غرائزها، فإننا نتمتع بإرادة حرة، وبالتالي نحظى على الأقل بإمكانية تحمل مسئولية تحديد كيف نعيش حياتنا. لقد رفض هوبز بالفعل هذا التصور العتيق للحرية الذي أحياه روسو بتمييزه بين السلوك القهري والمتعمد. في رأي هوبز، ليست الحيوانات أسيرة شهواتها؛ لأن تلك الشهوات شجعتها على الحركة بدلا من أن تكبحها، ومن ثم كانت السبب الذي يدفع سلوكها، لا الكابح الذي يثبط من عزيمتها. ولقد ظن أيضا أن فكرة حرية الإرادة سخيفة، ما دامت الأجسام وحسب يمكن أن تكون حرة أو مقيدة، أما الإرادة، بما أنها ليست عرضة لأي حركة، فلا يمكن أن تعاني من أي عائق خارجي يمكن أن يعطلها عن الحركة (ليفايثن، الفصل الحادي والعشرون). لكن روسو - المدين في هذه النقطة إلى تقليد الفلسفة الكلاسيكية الذي سعى هوبز للإطاحة به - كان مقتنعا بأن الطبيعة مارست قيدا داخليا على السلوك الحيواني، وأن أسلافنا، لأنهم كانوا قادرين دوما على إشباع دوافعهم الطبيعية بعدة سبل متنوعة؛ لم يكونوا مقيدين بالغرائز التي كانت تدفع وتسيطر على كل المخلوقات الأخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وكان كل فرد ليس معاقا ذهنيا من جنسنا حرا في الأساس في أن يحكم نفسه.
ظن روسو أنه نظرا لأن البشر في حالتهم الطبيعية كانوا قادرين على تمييز أنفسهم عن غيرهم من الحيوانات، لا لأنهم وهبوا أي خصال خاصة أو مميزة من البداية، فلا بد أن أسلافنا كانت لديهم دوما ميزة تسمو بهم على غيرهم من المخلوقات بكافة أنواعها. افترض بوفندورف أن الضعف البدني للبشر وجبنهم لا بد أنهما جمعا بينهم في الأساس، وهو بذلك يناقض تصور هوبز الخاص بحالة الحرب الفطرية. ورغم ذلك، افترض روسو أن تخمين بوفندورف مغلوط شأنه شأن تخمين هوبز. لم يكن المجتمع البشري ضروريا لتفادي الحرب أو التغلب على الضعف، وإقامة هذا المجتمع لم تكن ممكنة إلا بالإرادة الحرة، والقدرة البشرية - لا الحيوانية - على الاختيار، بحسب زعمه. كانت إقامة المجتمع اختيارية لا ضرورية، حيث نبعت من لاحتمية الطبيعة البشرية، ولم تكن مفروضة على البشر بفعل الطبيعة. ولا بد أن أسلافنا كانوا قادرين على اتخاذ القرار بأنفسهم، حتى في حالتهم الطبيعية، فيما يتعلق بأفضل وسيلة للتعامل مع كل موقف. فكان نظامهم الغذائي المرن يتألف من الفاكهة أو اللحوم، وكان بإمكانهم العدو برفقة الحيوانات البرية، وتسلق الأشجار في الوقت نفسه، وكان بإمكانهم الاختيار بين مواجهة الخطر والفرار منه (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في «خطاب عن اللامساواة» كتب روسو تعليقا على الهمجي أن «روحية نفسه تتجلى تحديدا في وعيه بهذه الحرية» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
علاوة على ذلك، لا بد أن الجنس البشري كان دوما مميزا عن غيره من الأجناس بطريقة أخرى وهي أننا وحدنا نتحلى بسمة «الاستعداد للكمال»، وهو اصطلاح قدمه روسو هنا لفلسفة التاريخ وتاريخ الفكر السياسي. في حالته الأصلية، كل إنسان لا بد أنه كان لديه القدرة لا على تغيير خصاله الأساسية وحسب، بل وتحسينها أيضا. وفور تبني عادات لا يمكن أن يشاركه إياها الحيوانات الأخرى، استطاع الإنسان أن يجعل من هذه العادات سمة دائمة من سمات شخصيته، وفي رأي روسو، لأن البشر كانوا قادرين تحديدا على الارتقاء بأنفسهم بشكل تدريجي التماسا للكمال باعتبارهم كائنات أخلاقية لا انطلاقا من كونهم مختلفين وحسب عن غيرهم من الكائنات، فمن الممكن أنهم قد شهدوا «تاريخا» من التغيير. وبعد ألف سنة، ظل كل كائن بخلاف الإنسان يتسم بالغرائز والأنماط الحياتية نفسها التي تحلى بها جيله الأول، بحسب تعبير روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، مقترحا بالفعل الأطروحة البيولوجية التي مفادها أن علم تطور السلالات يستعرض وحسب تاريخ التطور الفردي للكائنات. لكن الإنسان، نظرا لامتلاكه ملكة تطوير الذات، قادر على تحسين طبيعته ومحاولة إيصالها للكمال، وبالمثل فهو يتميز عن الحيوانات من حيث امتلاكه للملكة نفسها التي تجعله يتخذ خطوات رجعية تؤدي به إلى إفساد الذات.
بذا انتهى روسو إلى أن خصلتي الحرية والاستعداد للكمال المنقوصتين الداخليتين جعلتا التطور التاريخي للجنس البشري ممكنا. وإذ افترض روسو أنه لا بد أننا بطبيعتنا كنا أكثر «شبها» بالحيوانات مما تصور هوبز وبوفندورف ولوك، فقد زعم أيضا أن الفارق بين الرجل الهمجي والمتحضر أكبر من عدة جوانب من الفارق بين الهمج والحيوانات الأخرى (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، وهو الزعم الذي تناوله بإسهاب بطريقة تتعارض مع الأفكار الخاصة بالموضوع نفسه التي قدمها بوفون في مؤلفه الضخم «التاريخ الطبيعي»، الذي بدأ يظهر على الساحة عام 1749. في «خطاب عن اللامساواة» أسهب روسو في الثناء على هذا العمل العلمي والأدبي المبدع؛ حيث استقى منه العديد من الرؤى التي ألهمته أفكارا خاصة بتاريخ الحياة الطبيعية، والهوية التكاثرية والتوارثية للأجناس ككل، وخاصة أنماط التطور في الطبيعة. وما من عمل حظي بمثل هذا الاهتمام العظيم من روسو في خطابه كهذا المؤلف، ولم يعجب روسو بأي من معاصريه كما أعجب ببوفون. وحقيقة الأمر أن «الخطاب» الثاني نظر إليه إلى حد كبير على أنه مجموعة من التخمينات في سياق التاريخ البشري والمدني، على غرار رواية بوفون، في سياق التاريخ الطبيعي، لأصول الأرض ومولد الحيوانات ونموها وتحللها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
شكل 3-2: بورتريه لبوفون.
ورغم ذلك، اختلف روسو مع بوفون في النقطة التي قد يبدو التاريخ الطبيعي والبشري عندها أنهما يتلاقيان، وقد قام بهذا في المقام الأول بتبنيه منظورا خاصا بقابلية جنسنا للتغير التي رآها ملائمة جدا مع وصف بوفون للمخلوقات الأخرى، والتي أعرض بوفون نفسه عن مدها عند دراسته للبشر. بحسب بوفون، ولا سيما في المجلدات الثاني والثالث والرابع من مؤلفه «التاريخ الطبيعي»، شقت الطبيعة فجوة يتعذر تجاوزها بين عالمي الحيوانات والإنسان، وهو شق نوعي في تسلسل الكائنات أو «سلم الارتقاء الطبيعي» الذي ضمن تفوق البشر على الحيوانات كلها، نظرا لامتلاكنا لعقل أو روح. في عام 1766، قدر لبوفون، سيرا في المقام الأول على نهج إدوارد تايسون، عالم التشريح الإنجليزي في القرن السابع عشر، وضع هذه الأطروحة فيما يتعلق بقردة الشمبانزي التي أسماها هو وتايسون «أورانجوتان» (وهو اصطلاح بلغة الملايو يعني «إنسان الغاب»). وصار هذا الاصطلاح اسما عاما لأغلب القردة العليا، حتى تم تمييز هذين الجنسين الأفريقي والآسيوي، على التوالي، على نحو ملائم في سبعينيات القرن الثامن عشر. وبينما اعتبر تايسون وبوفون أن قردة الأورانجوتان تشبهنا نحن البشر بقدر كبير جسمانيا في شكلها الخارجي، أصرا على أنها يستحيل أن تنتمي للجنس البشري ما دامت تفتقر بشكل واضح إلى القدرات البشرية الخاصة بالتفكير والكلام. لكن روسو، حتى في تأييده أن طبيعة الإنسان روحية بشكل متفرد، عارض أطروحة بوفون وتطبيقها على قردة الأورانجوتان في «الخطاب» الثاني؛ حيث زعم أن تنوع أنواع البشر في شتى أنحاء العالم يوحي بأنه على مدار فترة زمنية طويلة من التطور، ربما شهد جنسنا تحولات أكثر دراماتيكية عن «الجنين الأول» له من تلك التي حدثت بسبب التغيرات المعاصرة للمناخ أو النظام الغذائي (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
وبما أن اللغة لم تكن فطرية لدى البشر بقدر ما كانت قدرة إعمال العقل التي عبرت عنها اللغة، لم يكن بوسعنا، كما فعل تايسون ومن بعده بوفون، الإشارة إلى لغات البشر المتحضرين باعتبارها دليلا على دونية قردة الأورانجوتان عن البشر. إن هذا الخطأ، بحسب تصور روسو له، أشبه إلى حد كبير بالخطأ الذي وقع فيه كل من هوبز وبوفندورف ولوك وكوندياك عندما أشاروا بشكل خاطئ إلى أن السلوك المعقد في المجتمع دليل على الطبيعة البشرية. وزعم روسو أنه سواء أكانت قردة الأورانجوتان بشرا بدائيين أم جنسا آخر أمر لا يتسنى التدليل عليه إلا بالتجربة، الأمر الذي كان يعني، وفقا لتعريف بوفون للأجناس القابلة للحياة، إجراء اختبار خصوبة السلالة، إن وجدت، الناجمة عن المخالطة الجنسية بين رجل أو امرأة مع مثل هذا المخلوق (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). أشار روسو إلى أنه من الواضح أن القردة لم تكن أفرادا في جنسنا، ويرجع ذلك إلى حد كبير لافتقارها للملكة البشرية الخاصة بوجود استعداد لديها للكمال. ولكن روسو، كما أوضح في رده على شارل بونيه المنادي بالمذهب الطبيعي، الذي انتقد هذه النقطة تحديدا لديه، حسب على الأقل أنه من الجائز أن تلك القردة تتمتع بتلك الملكة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
شكل 3-3: شكل رقم 1 من كتاب إدوارد تايسون المعنون «أورانجوتان، أو هومو سيلفيستريس: أو تشريح شامبنزي قزم» (لندن، 1699).
Неизвестная страница
لم يؤيد روسو قط أي وجهة نظر تقول بتحول نوع إلى نوع آخر، وهي وجهة النظر التي ستمسي الفكرة المحورية للرواية الداروينية عن التطور الطبيعي بعد أكثر من قرن من نشر «خطاب عن اللامساواة». فقد كان مقتنعا كل الاقتناع بثبات الأنواع في تسلسل المخلوقات التي خلقها الله، وعندما افترض أن الأورانجوتان قد يكون نوعا محتملا من أنواع الإنسان البدائي، فقد خمن أن هذا المخلوق كان يمشي منتصبا، وأن شكله كان أشبه بنا، وأنه كان متمايزا من الناحية الحيوانية عن القردة والقردة العليا. انصب اهتمامه بشأن هذه القردة حقا على اللغة، وفي مقابل بوفون وغيره من المؤرخين الطبيعيين وعلماء التشريح، أراد روسو وحسب أن يشدد على أنه، ما دامت اللغة تعبر عن التقاليد الاجتماعية ويتعين تعلمها، لا بد لنا ألا نعتبر المخلوقات التي تشبهنا جسمانيا لكنها تفتقر إلى إتقاننا للكلام الواضح البين أنها تنتمي للسبب هذا وحده إلى جنس متمايز عنا بالكامل (الأعمال الكاملة ، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ومع ذلك، ففي تأملاته حول قردة الأورانجوتان، كان لروسو بعض الأثر على التاريخ المبكر للأنثروبولوجيا الطبيعية، وعلم الأحياء التطوري؛ وذلك لأن فرضيته أن الأجناس المتمايزة ظاهريا قد تكون متماثلة أو حتى متطابقة وراثيا فتحت احتمالية وجود علاقة تسلسلية للروابط في تسلسل الخلق، التي ستحل في نهاية المطاف محل فكرته عن الثبات، وتستبدل بها فكرة التحول. لم يتخيل أحد في القرن الثامن عشر الطبيعة البشرية باعتبارها أكثر عرضة للتغير في مسار تطورها. ولم يفترض أحد أن الإنسان الهمجي أقرب شبها بكثير إلى الحيوانات منه إلى الإنسان المتحضر. وما من أحد قبل روسو كان أقرب منه تصورا للتاريخ البشري باعتباره انحدارا للبشر من أحد القردة العليا. علاوة على ذلك، تصادف أن صورته التخمينية بالكامل لقردة الأورانجوتان باعتبارها نوعا من الهمج غير المتكلمين في حالتهم الطبيعية رسمت بدقة تجريبية أكبر من أي وصف لسلوك تلك القردة على مدار المائتي عام التالية على الأقل؛ أي حتى ظهرت الأعمال الميدانية التي اضطلع بها في جنوب شرق آسيا في أواخر ستينيات القرن العشرين بيروتي جالديكاس وجون ماكينون وبيتر رودمان. فتعليقا على حياة الترحال التي تعيشها هذه المخلوقات، ونظامها الغذائي النباتي، وعلاقاتها الجنسية المتباعدة، وحياتها المنعزلة الكسولة إلى حد كبير، سلط روسو الضوء على الفجوة الاجتماعية التي تفصل بيننا وبين أنواع معينة من القردة العليا التي تخفق أوجه الشبه البيولوجية بينها وبيننا، بما في ذلك فوق كل شيء تركيبة جيناتها، في إخفاء أوجه الاختلاف الشديدة في الخصال السلوكية. وعن طريق تصوير الطبيعة البشرية منزوعة من المجتمع على أنها تشبه حالة أكثر القردة العليا استقلالية، فإن تخميناته الخاصة بالحدود الحيوانية لجنسنا تشير إلى مدى تعقيد البعد الاجتماعي لحيواتنا بقدر ما تشير إلى بساطة حالتنا الأصلية.
وبالطبع لم يضمن وجود استعداد للكمال لدى البشر البدائيين في حالتهم الطبيعية تطورهم الأخلاقي؛ وذلك لأن التطور «الحقيقي» لهذه الخصلة اعتمد على الاختيارات الفعلية التي لا بد أن الأفراد قد استقر رأيهم عليها في تبنيهم لمؤسساتهم المجتمعية والسياسية المتعددة. لقد ضمنت هذه الخصلة وحسب أنه يمكن أن يكون هناك تغير تراكمي في اتجاه أو آخر، وكانت متسقة مع تاريخ فساد الإنسان الأخلاقي بقدر ما كانت متوافقة مع تاريخ تطوره. وبحسب روسو، فقد أساء الإنسان حقا استخدام حريته فيما يتعلق بالخصال التي تشاركها مع جميع المخلوقات الأخرى، بحيث إنه، خلال مسار تطوره، كبت تعاطفه وحبه لذاته؛ مما أدى إلى فساد أخلاقه. وبينما تراجع تدريجيا تعويل الهمج على الطبيعة، فقد عودوا أنفسهم بالقدر نفسه وبشكل متزايد على اعتماد بعضهم على بعض؛ بحيث عبر الواحد منهم عن استعداده الأصلي للكمال بطريقة تتعارض مع حريته الطبيعية، إثر اختياره في المجتمع ليكون عبدا لنوازع جديدة فرضها هو على نفسه. لقد أدى كمال الفرد في واقع الأمر إلى «تقويض الجنس البشري»، بحسب ما انتهى إليه روسو؛ مما يثبت أن الاستعداد الذي نمتلكه للكمال هو مصدر كل مصائب البشر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لقد كان سوء استغلال هذه القدرة على الارتقاء بالذات لا القانون الطبيعي هو الذي أدى إلى تحول اختلافاتنا الجسمانية وحسب إلى فروق أخلاقية مهولة، ومن ثم لعب الدور الأكبر على الإطلاق في تأسيس اللامساواة الاجتماعية.
لو كانت الطبيعة هي التي خلقت الفروق الأولى المهملة بين الهمج، فلا بد أن المصادفة هي التي جمعت بينهم في بادئ الأمر. في العديد من الفقرات الواردة في «الخطاب» الثاني، وكذا في الفصل التاسع من «مقالة عن أصل اللغات»، خمن روسو أن ثمة حوادث وكوارث طبيعية مثل الفيضانات أو الثورات البركانية أو الزلازل لا بد أنها في المقام الأول ألفت بين الهمج المنعزلين وجمعتهم في مناطق قريبة بعضها من بعض، ربما عبر تشكل الجزر (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وبعيشهم على مقربة بعضهم من بعض، هجر أسلافنا حياة الترحال، وبصنعهم الأكواخ وغيرها من الملاجئ بالأدوات التي كانت الضرورة تستدعي اختراعها، شرعوا في التوطن وتكوين العائلات، وبهذا يكونون قد استهلوا حقبة التحول الأول في التاريخ البشري، مستحدثين معها فكرة بدائية عن الملكية، بحسب زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)، على غرار الأفكار نفسها التي تناولها لاحقا إنجلز بإسهاب في مؤلفه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة». ولكن على فرض أن هذا هو ما كان عليه الحال، كان روسو مقتنعا بأن مثل هذا التحول في أسلوب حياة الهمج من الصعب أن يفضي إلى تطور اللامساواة الاجتماعية نفسها، ولو فقط لأن القوى التي أجبرتنا أصلا على الاجتماع بعضنا مع بعض، بحسب ملاحظته في الفصل الثاني من «مقالة عن أصل اللغات»، لا يمكن أن تطابق تلك التي لا بد أنها أبعدتنا بعضنا عن بعض لاحقا (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إن الاختلافات الأخلاقية المنتشرة في المجتمع كانت من صنع البشر أنفسهم لا من صنع الطبيعة أو المصادفة، واللامساواة الاجتماعية لم تكن لتنشأ وحسب بسبب عيشنا على مقربة بعضنا من بعض.
والأرجح، بحسب مقترح روسو، أنها نبعت من الطريقة التي اتبعها الهمج ل «تحديد» جيرانهم، فور أن بدءوا يلتقون بتواتر غير معتاد. فعندما بدأ أسلافنا، في مستوطناتهم البدائية، في مصادفة الأشخاص أنفسهم يوما بعد يوم، لا بد أنهم بدءوا يلاحظون إلى حد ما تلك الخصال التي ميزتهم بعضهم عن بعض. ولا بد أنهم أدركوا تدريجيا من بينهم الأقوى أو الأكثر مهارة أو بلاغة أو وسامة، على سبيل المثال. وبصفة عامة، لا بد أنهم شرعوا في ملاحظة الفروق في بنية أجسامهم التي ترجع إلى الطبيعة. ولا بد أن كل إنسان أيضا حدد ذاته في ضوء السمات التي بدا أن الآخرين أقروا بها باعتبارها معبرة عن سلوكه. ولا بد أنه شرع في مقارنة نفسه بالأشخاص الذين أصبحوا تدريجيا أكثر ألفة بالنسبة إليه، ولا بد أنه بدأ يرى بعض الأهمية في الفروق التي لاحظها. وفي عزو قيمة لخصائص بعينها وإعلائها على غيرها، حول أسلافنا تبايناتهم الطبيعية إلى فروق أخلاقية، وصرفوا انتباههم إلى مواهب جيرانهم، وودوا أيضا لو ينالون الإعجاب لمهاراتهم الخاصة. ويبدو أنهم حسدوا الذين يتمتعون بخصال تختلف عما يملكونه من سمات أو احتقروهم؛ وبذلك بدأ التوزيع غير العادل للتقدير العام في التفريق بينهم في طبقات اجتماعية. وبينما «يعيش الهمجي متقوقعا داخل ذاته، فإن الإنسان الاجتماعي يعيش خارج ذاته دوما، ولا يقدر على العيش إلا في نفوس الآخرين» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وفي تصنيفاتهم للسمات التي حددوا بها جيرانهم، لا بد أن البشر البدائيين حولوا النظام الأساسي لتمييز الصفات الطبيعية إلى نظام ترتيبي لتصنيف التفضيلات الأخلاقية؛ «حيث نتج عن هذه التطورات الجديدة»، بحسب نص روسو، «توليفات قاتلة للبراءة والسعادة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). بالنسبة إلى مونتسكيو أو سميث، لا بد أن الرغبة في نيل احترام الآخرين خلقت احتياجات مشتركة ومصالح تجارية خففت من وطأة الرغبات النهمة للإنسان البدائي، ولكن بالنسبة إلى روسو لا بد أن هذه المحاكاة وما يلازمها من سعي لتحسين الذات عن طريق مزاولة التجارة كانت بدلا من ذلك مسئولة عن التقويض الاجتماعي للاكتفاء الذاتي البشري في الحالة البدائية لجنسنا.
وبالطبع ما كانت الخصال البشرية المتعددة التي قدرها أسلافنا الهمج لتتجلى كلها في الوقت عينه. ولا بد أن أسلافنا ميزوا من بينهم من يتمتعون بأعظم قوة (وهي صفة جسدية) قبل أن يحكموا أيهم أكثر وسامة أو بلاغة (وهي صفات اجتماعية كما هو واضح تعتمد على الذوق)، وبحسب رواية روسو فإنه من الصعب أن نعرف السبب وراء اعتبار الأفراد لبعض السمات الشخصية أجدر بالإجلال والاحترام من غيرها. لكنه كان مقتنعا بأنه فور أن شرع البشر في عزو أهمية لاختلافاتهم، فلا بد أنهم بذلك هموا بتشكيل مؤسساتهم الاجتماعية. إن براعة وبلاغة البشر البدائيين تحديدا اللتين يشير إليهما روسو في أولى هذه الفقرات من الجزء الثاني من «الخطاب» الثاني لا بد أنهما جعلتا تأسيس فكرة الملكية الشخصية ممكنا. ولا بد أن المؤسس الحقيقي للمجتمع المدني؛ إذ وجد الناس على قدر كاف من السذاجة لتصديق زعمه بأن قطعة الأرض التي سيجها تخصه، استغل براعته في التعامل مع الأرض وبلاغته في التعاطي مع جيرانه بطريقة تصبغ شرعية على أكثر علاقاتنا الحاسمة أساسية التي تربط بعضنا ببعض.
بعد تأسيس فكرة الملكية الخاصة، لا بد أن التعدين والزراعة تطورا للارتقاء بإنتاجية الأرض، وفي الوقت نفسه زيادة الفروق الأخلاقية بين الذين يملكونها والذين لا يملكونها. وبينما يرى الشعراء أن الذهب والفضة هما اللذان جعلا البشر متحضرين في البداية، اتبع روسو، واصفا هنا التحول الثاني الكبير في التاريخ البشري، الفلاسفة الذين يزعمون بأن هذا التحول لا بد أنه حدث تقريبا إبان زراعة الذرة والتنقيب عن الحديد، وهو ما جعل الأوروبيين بالفعل أسرى احتياجات جديدة، لكنهم لم يدمروا أمريكا الهمجية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). في «مقالة عن أصل اللغات» التي تتبنى وجهة نظر مختلفة نوعا ما عن المجتمع البدائي في فصلها التاسع، تجاهل روسو رواية التحولين الكبيرين في التاريخ المبكر للإنسان، مفضلا، على غرار تيرجو والمؤرخين الاسكتلنديين المعاصرين له القائمة أعمالهم أساسا على التخمين، التعليق على مراحل الصيد والرعي والزراعة من تطورنا التي يقابلها الإنسان الهمجي والبربري والمتحضر على الترتيب، بحسب ملاحظة روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). لكن، لا يوجد ذكر محدد لبوفندورف أو كوندياك أو بوفون في أي موضع في مقالته، التي لا تتبع عكس ترتيب رؤى هوبز ولوك وهو الأمر المحوري جدا لحجته في «الخطاب» الثاني. وهنالك، زعم أنه عندما خضعت كل الأرض المتوافرة بشكل واضح بفعل التوريث وزيادة عدد السكان لحقوق الملكية، ما من أحد كان يستطيع أن يحصل على ملكيته أو يزيد من رقعتها إلا على حساب الآخرين. ولا بد أن حالة المجتمع المدني بالتبعية أدت إلى اندلاع الحرب، وجعلت الأثرياء من أسلافنا عرضة لخطر أكبر من الفقراء، ما دام أنهم لم يخاطروا وحسب بحياتهم، بل وبممتلكاتهم أيضا؛ لذا، تشكل لديهم حافز قوي على نحو خاص للتفاوض من أجل الوصول لحالة من السلام ظاهريا يفرضها القانون، وتنفذها قوات الشرطة. وحفاظا على حياتهم، لا بد أن الفقراء تخلوا عن حقوقهم في الحصول على أي نصيب من ممتلكات الأثرياء، وبهذا تمكن الأفراد المهرة والفصحاء بالمجتمع، الأقرب شبها بالأشخاص «المجتهدين والعقلانيين» الذين وصفهم لوك في الفصل الخامس من مؤلفه «الأطروحة الثانية عن الحكومة»، من تأمين ثروتهم بالكامل وحمايتها من الغير؛ إذ مارسوا حيلة «أحالت اغتصابا بارعا إلى حق نهائي» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). إذا كان قد ثبت خطأ الفلاسفة القانونيين حيال الطبيعة البشرية، فقد كانوا رغم ذلك دقيقين إلى حد كبير في توصيفاتهم للتاريخ البشري، على فرض أن تصور لوك للملكية الخاصة لا بد أنه سبق تصور حالة الحرب لهوبز، وكان سببا رئيسيا له حقا.
إن الأشكال المتمايزة للحكومة التي لا بد أن البشر تبنوها في البداية - الملكية والأرستقراطية وحتى الديمقراطية - كلها تدين في ظهورها، بحسب اقتراح روسو، للدرجات المختلفة للامساواة السائدة إبان تأسيسها (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولكن حيث إن كل شكل من أشكال الحكومة كان الهدف منه إضفاء المشروعية على تفاوتنا الأخلاقي والتأسيس له، لا بد أنه اتبع في كل حالة نمطا مماثلا من أنماط التطور. ولا بد أنه وسع تدريجيا سلطان الأثرياء، وفي الوقت نفسه زاد من التزامات الفقراء، حتى تحولت غالبية العلاقات بين البشر في المجتمع إلى علاقات بين سادة وعبيد. ولا بد أن المؤسسات التي تأسست في بداية الأمر بالاتفاق أفسحت في نهاية المطاف المجال لوجود سلطة تعسفية، ولا بد أن الحكومات بعد فترة أصبحت ترهق رعاياها بأعباء ثقيلة جدا لدرجة أنها لم تعد تستطيع الحفاظ على السلام الذي أقيمت من أجل ضمانه؛ لذا، خضع المجتمع المدني للتغير الثوري، ولا بد أن البشر فروا من الأزمات الدورية لتطورهم السياسي فقط باللجوء إلى سادة جدد أقنعتهم بلاغتهم الملتوية بتبني المزيد من مبادئ الاستعباد والاستبداد التي توضع أطرها في خضم الفوضى والثورة (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). علق روسو على هذا قرابة ختام مؤلفه قائلا: «وهنا آخر حد للامساواة وأقصى نقطة تغلق الدائرة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). تأسست حالة طبيعية جديدة حيث الهيمنة والسيادة للأقوى، لكنها حالة طبيعية ليست بنقائها الأول، بل حالة تعتمد بدلا من ذلك على الفساد المفرط.
إن هذا التصوير للمراحل الثورية لتاريخنا الاجتماعي التي لا بد أنها أنتجت في بداية الأمر حكم الطغاة وقضت عليه بعد ذلك قدر لإنجلز أن يصفه لاحقا في كتابه «الرد على دورينج» باعتباره «نفيا للنفي»، ومن ثم فهو تأويل جدلي للتاريخ البشري مهد الطريق للتأويل الخاص بماركس في نفس الإطار. وحقيقة الأمر أن ماركس نفسه لم يوافق قط على هذا الحكم، وفضل، شأنه شأن هيجل، أن ينظر لروسو باعتباره فيلسوفا تنويريا ملتزما تجاه الحقوق الطبيعية المجردة للبشر التي كان تحقيقها إبان الثورة الفرنسية بمثابة إيذان بانتصار سياسي للطبقة البرجوازية. لكن، لو كان قد قرأ «خطاب عن اللامساواة» بالعناية التي أولاها إنجلز للجزء الثاني منه تحديدا، لربما لاحظ وجود نظرية لتطور الملكية الشخصية واللامساواة الاجتماعية قريبة بشكل مدهش من مفهومه الشخصي عن التاريخ باعتباره تتابعا من الصراعات الطبقية خفف من وطأته حكم القانون الأيديولوجي. لم يكن روسو ثانية ماركسيا جدا في تفسيره للمجتمع كما كان في الصفحات الختامية من «الخطاب» الثاني.
رغم ذلك، ينبغي أن نضع في الاعتبار أن روسو، على النقيض من ماركس، تصور حجته كاستعراض «تخميني» لأصول اللامساواة. لم يكن الهدف من أفكاره طرح تاريخ للبشرية بقدر ما كان وضع نظرية للطبيعة البشرية، وقد استقى وصفه للماضي من فهمه للحالة الأخلاقية التي أصبح عليها جنسنا. وكان روسو يرى أن السمات الأساسية لطبيعتنا يمكن الكشف عنها فقط إذا كان بالإمكان أن نتأملها بمعزل عن السمات المعاصرة السطحية لسلوكنا، بحيث ينبغي نزع الإنسان الطبيعي من المواطن، بدلا من أن يتشكل الإنسان المتحضر من الهمجي. وحيث إن روسو بدأ بحثه من خلال منظور الحالة الحالية للبشرية، فمن المنطقي ألا تعتمد محاولته لبناء صورة الماضي القائمة على الافتراض كثيرا على أي تاريخ لأحداث فعلية. فقد أشار إلى أنه قد نحى كل الحقائق جانبا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى)؛ حيث إنها لا تؤثر على المسألة. وكانت استقصاءاته افتراضية لا تاريخية، وتسعى لتفسير طبيعة الأشياء دون أن تؤكد أصلها الفعلي. ولذا كانت الحالة الطبيعة التي عرضها مصممة باعتبارها عالما خياليا أقصيت منه السمات الفاسدة للمجتمع، ولم تكن نقطة انطلاقه الماضي السحيق الذي لم يتبق منه سوى معلومات محدودة على أي حال، بل العالم الحاضر الذي نعرفه جميعا تمام المعرفة. لقد صيغ «خطاب عن اللامساواة» بقدر أقل كتاريخ عام للجنس البشري وبقدر أكبر كنظرية للطبيعة البشرية طرحت في شكل تاريخ، ولم يكن من المرجح العثور على الهمج المنعزلين الذين وصفهم روسو بأنهم أسلاف الإنسان الحديث بين البشر البدائيين الذين عاشوا في الماضي السحيق تماما كما كان من المستبعد العثور على الكائنات الحديثة كليا لهوبز وبوفندورف ولوك. آمن روسو بأنه لم يكن هناك إنسان طبيعي قط حقا، لكنه استطاع طرح نظرية عن تغيرنا الأخلاقي نسبة إلى مثل هذه الشخصية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى).
بالطبع إذا كانت الحالة الطبيعية محض خيال، فمن المنطقي أنه لن يجدي أن نحاول العودة إليها، وذلك كما أوضح روسو نفسه في أطول حاشية في مقالته (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). وزعم روسو لاحقا في مؤلفه «محاورات» أن «الطبيعة البشرية لا تخطو خطوة للوراء قط» (الأعمال الكاملة، المجلد الأول). وما إن نهجر براءتنا المفقودة حتى لا يمكننا استعادتها فيما بعد. وحتى هذا النوع من المجتمع البدائي الذي لا بد أنه نشأ فيما يصفه روسو ب «أكثر الحقب سعادة واستقرارا» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى) كان مجتمعا لا يمكن أن يأمل الإنسان المتحضر في استعادته. إن تلك الحالة البدائية التي كان أسلافنا يعيشون فيها ببساطة وفي سلام ووئام بعضهم مع بعض هي في مكان ما بين ماض خيالي وحاضر واقعي، وتحوي عناصر من الزمانين. ولو كان البشر قد عاشوا في هذه الحالة، لربما كان من الأفضل لهم ألا يفارقوها، لكن العالم الذي فقد من المستحيل استعادته، والحالة المستخلصة من الحاضر لم تقدم المبادئ الأخلاقية الملائمة للأجيال القادمة. وكما اتضح في رده على الهجوم الموجه إلى «الخطاب» الأول من قبل الملك ستانيسواف، في محاولتنا العودة إلى حالتنا الطبيعية، من الممكن أن نغرق في الفوضى والدمار، وليس بالإمكان محو شرور المجتمع الفاسد بادعاء الجهل.
Неизвестная страница
بهذه الطريقة وظف روسو بعض المبادئ السياسية لهوبز وبوفندورف ولوك في مناقشته لأصول اللامساواة. فقد كان يرى أن أفكارهم طرحت رواية دقيقة تماما، لا لالتزاماتنا الحقة، بل لماضينا على النحو الذي لا بد أنه كان عليه، وأن الصلات التعاقدية التي عرضت في نظريات كل من هؤلاء وغيرهم من المفكرين ساعدت على تفسير كيف تسنى للبشر إبرام هذه الاتفاقات التي أفسدتهم أخلاقيا. ومع ذلك، اعتقد روسو أنه بما أن الأعراف الاجتماعية التي أفسدت البشر فرضها الأفراد على أنفسهم، لم يكن من المستحيل بالنسبة إليهم قط، حتى في المجتمعات الفاسدة، أن يقيموا مؤسسات من نوع مختلف بالكلية. وإذا ضاعت حريتنا الطبيعية بلا رجعة، فإن قدرتنا على تحسين أنفسنا، من ناحية أخرى، ظلت دون مساس، وكما يزعم لاحقا في «العقد الاجتماعي» (الكتاب الثالث، الفصل الثاني عشر)، فإن الممكن في علاقاتنا الأخلاقية أقل تقييدا بشكل حاد مما هو مفترض. لا بد أن الإنسان أساء استخدام ملكة الاستعداد للكمال بطريقة قيدت حريته عندما أسس للملكية الخاصة، وانتقل من الهمجية إلى الحضارة. لكن، إذا كان الإنسان يتمتع باستعداد للكمال بطبيعة الحال، لكان بالإمكان تصحيح الأخطاء التي اقترفها على الأقل نظريا والتغلب عليها. في الجمهوريات العتيقة كما تخيلها روسو، تشكلت المجتمعات المتحضرة في إطار جعل المواطنين أحرارا أخلاقيا ومتساوين سياسيا تحت مظلة القانون، وفي «العقد الاجتماعي»، ركز روسو انتباهه على الطريقة التي يمكن بها إقامة مؤسسات بديلة تراعي مثل هذه الحرية والمساواة في العالم الحديث، كما تأسست في وقت من الأوقات داخل دستور جنيف.
الفصل الرابع
الحرية والفضيلة والمواطنة
في أوائل خمسينيات القرن الثامن عشر، وتحديدا من خلال «الخطاب» الأول والثاني و«رسالة عن الموسيقى الفرنسية»، ذاع صيت روسو في شتى أرجاء أوروبا كناقد للتنوير والمجتمع المدني. لم تقربه كتاباته التي تناولت هذين الموضوعين من أبرز معاصريه الذين توقعوا مساندته لهم في حملاتهم ضد الوثنية الدينية والظلم السياسي، وشجب فولتير - وهو رائد دعاة الثقافة العالمية - سعي روسو الرجعي في ظاهره للترويج لضرورة العودة للحياة البربرية. علاوة على ذلك، في عام 1756، عارض آدم سميث، الذي أمسى أبرز دعاة المجتمع التجاري في القرن الثامن عشر والمؤسسات المهذبة أخلاقيا المرتبطة به، في مجلة إدنبره ريفيو أيضا تفضيل الهمجية على الحضارة الذي عبر عنه روسو تحديدا في «الخطاب» الثاني. وفي حين أن فولتير وسميث وغيرهما من المفكرين قدموا برامج تربوية وسياسية واقتصادية يمكن أن تسهم في التطور الأخلاقي للبشر، بدا روسو، في معارضته لهذا التوجه، عدوا للتطور بكل أشكاله. ومع ذلك، وكما لاحظ سميث في تعليقاته على «الخطاب» الثاني، فقد كرس روسو هذا العمل لجمهورية جنيف، وأقر بالإحساس العميق بالشرف الذي خلعه عليه كونه مواطنا في هذه الدولة. وقد أعلن روسو عن هويته المدنية والجمهورية بصفحة عنوان «الخطاب» الأول أيضا، ورغم أنه اشتكى لاحقا من أن معاصريه خانوا مبادئ دستورهم، ظل روسو فخورا بأصوله وبالمدينة التي أشعلت جذوة حماساته الأولى، حتى بعد أن استنكر بعض أبناء وطنه مبادئه على اعتبار أنها مثيرة للفتن.
أيد روسو أكثر من غيره من أبرز الشخصيات في القرن الثامن عشر وجهة النظر التي تقول بوجود علاقة بين السياسة والأخلاق والتي استقاها من اليونان القديمة. وافترض أنه إذا كان بالإمكان عزو فساد أخلاق أهالي البندقية المعاصرين إلى فساد حكومتهم، فإن فساد غيرهم من الشعوب بالمثل يرجع إلى حد كبير للجرائم السياسية والاضطهاد اللذين تمارسهما حكوماتهم. وفي كتاباته الأولى، حاول روسو أن يتعقب أصول ذلك الانحطاط الأخلاقي على مدار فترات زمنية أوسع وأكثر تباعدا تاريخيا من خلال التجريد الفلسفي للظلم السياسي الراهن. لقد كان على قناعة بأنه ما دامت أزمة الإنسان الحديث في ظل أغلب الحكومات المعاصرة خلقتها ظروف سياسية، فإن الدول التي تتبنى مبادئ سياسية مغايرة يمكنها في المقابل جعل مواطنيها ينتهجون سلوكا أفضل؛ مما يتمخض عنه إحلال الفضيلة محل الرذيلة. وفي مؤلفه «العقد الاجتماعي» المنشور في ربيع عام 1762، رسم روسو بناء على ذلك سيناريو ملهما للاجتماع السياسي يختلف تماما في طبعه عن رؤيته للمجتمع المدني في «الخطاب» الأول والثاني. والحقيقة أن «العقد الاجتماعي» يبدو أنه يتناول الفكرة المحورية ل «خطاب عن اللامساواة» ولكن بطريقة عكسية؛ حيث يرسم الخطوط العامة لعقد للاجتماع السياسي يجمع بين المواطنين بدلا من أن يفرقهم، ويحافظ على قيم المشاركة العامة العادلة التي تدعم حريتهم بدلا من أن تدمرها. وبعد أن عرض روسو من قبل مراحل الفساد الأخلاقي للبشر في المجتمع المدني، طرح هنا بالتفصيل على نحو توجيهي لحجته السابقة ولكن بشكل عكسي عن طريق رسم صورة للمؤسسات الضرورية لحصول المواطنين على حريتهم. وبوضع الأسس الدستورية للسلطة السياسية الشرعية بأشكال مختلفة ملائمة للظروف المتباينة، استطاع أكثر مواطني جمهورية جنيف فخرا بانتمائه لها شجب النظم الاستبدادية الملكية الحاكمة في عصره، وفي الوقت نفسه تقديم مخطط للدول التي ربما تتحقق فيها الفضيلة السياسية من خلال تجمع رعاياها معا كي يحكموا أنفسهم بأنفسهم.
شكل 4-1: صفحة من الفصل الثالث من الكتاب الأول لمؤلف روسو «مخطوطة جنيف» التي تتضمن الفقرة الافتتاحية للفصل الأول من الكتاب الأول من كتاب «العقد الاجتماعي».
تظهر العبارة الأشهر من «العقد الاجتماعي»، وربما الأكثر اقتباسا من بين أعمال روسو كلها، في بداية الفصل الأول من الكتاب الأول، بعد ثلاث فقرات قصيرة تمهيدية أرسى فيها روسو خبرته التي تخوله تناول مسائل الحق والعدالة والمنفعة، لا من منطلق كونه أميرا أو مشرعا، ولكن لأنه أحد أبناء أو مواطني دولة حرة، ومن ثم فهو صاحب سيادة فيها. قال روسو وكأنه يوجز الملحمة الرهيبة لتحولنا السياسي السابق إيرادها في عمله «خطاب عن اللامساواة»: «يولد الإنسان حرا، ولكنه مكبل في كل مكان بالقيود.» تتناول الفصول الأولى من «العقد الاجتماعي» في واقع الأمر موضوعات شبيهة جدا بالموضوعات التي يرتكز عليها «الخطاب» الثاني، من حيث إنها تسعى مرة أخرى لبيان أنه لا يمكن أن يكون هناك أساس طبيعي للمجتمع المدني، سواء على مستوى العائلة أو على مستوى أي حق مفترض نابع من استخدام القوة الوحشية. زعم روسو أن الحق لا يمكن أن ينبع من القوة، كما زعم قبل ذلك أن اختلافاتنا الجسمانية لا تقدم أي مسوغ على تفاوتاتنا الأخلاقية. وإذا كان للقوة أن تخلق الحق، فإنما هو حق سيكون عابرا شأنه شأن كل تغير في نزعة القوة، ولتحول العصيان إلى تصرف شرعي فور توفر قوة كافية. وزعم هوبز في الفصلين الخامس والسادس من كتابه «المواطن»، والفصل الثامن عشر من «ليفايثن»، وفي مواضع أخرى أن القوة والحق لا بد أن يتلازما، ما دامت «الكلمات» (أي القوانين) من دون «السيف» (أي الوسيلة اللازمة لتطبيقها) ليست ملزمة بشكل كاف. ولكن في «العقد الاجتماعي» كرر روسو التمييز بين القوة والسلطة (وهما في اللغة اللاتينية
potestas
و
auctoritas ) وهو أمر لم يكن يعني الكثير بالمرة بالنسبة إلى هوبز، ولكنه عنى الكثير بالنسبة إلى مواطني الجمهورية الرومانية.
Неизвестная страница
إن إعادة ذكر روسو للتمييز بين الطبيعة والأخلاق في «العقد الاجتماعي» أيضا جعلته ينكر أن الروابط الأسرية عملت كنموذج للعلاقات بين المواطنين في الدولة. وقبل ذلك بألفي عام، وفي الكتاب الأول لمؤلفه «السياسة»، علق أرسطو بالفعل على الفرق بين الصلات غير المنصفة التي تربط بين أفراد الأسرة والمساواة الأساسية بين الرعايا والحكام في سياق الاجتماع السياسي - ومن ثم الطوعي - وأقر روسو، في كل من «العقد الاجتماعي»، وخاصة في الصفحات الأولى من «خطاب عن الاقتصاد السياسي»، بأنه يدين بشدة إلى أرسطو بخصوص هذا الموضوع، وبأنه يعيد صياغة ما قاله أرسطو بالفعل إلى حد بعيد. والواقع أن مقابلته بين النطاقين العام والخاص في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» تتبع أيضا تمييز لوك الذي أورده في «الأطروحة الثانية عن الحكومة» بين السلطة السياسية والسلطة الأبوية؛ فشأنه شأن لوك، وضع روسو في بادئ الأمر تمييزه الخاص هذا من أجل تفنيد ما وصفه ب «النظام المضاد للصواب» الذي أورده السير روبرت فيلمر في كتابه «السلطة الطبيعية للملوك» الذي زعم روسو أن أرسطو إذا اطلع عليه لكان سيرفضه أيضا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). لقد شارك روسو كلا من أرسطو ولوك اعتقادهما بأن الحكومة الشرعية بين أشخاص متساوين أخلاقيا تأسست بالاتفاق فيما بينهم ولم تكتسب بشكل طبيعي، وفي «العقد الاجتماعي»، وبقدر لا يقل عن كتاباته السياسية السابقة، كان روسو مصرا على أن سلطة الإنسان على أخيه الإنسان في المجتمع المدني - سواء بالخير أو بالشر - تأسست، وحري بها أن تتأسس، بالاختيار لا بالضرورة.
في الفصلين الثاني والثالث من مؤلفه، عبر روسو عن هذه الأفكار الجليلة بأسلوب جديد مميز، ومن ثم فقد خلع عليها زخما جديدا عبر محاولته الثورية تفنيد منطق تقليد العقد الاجتماعي بأكمله السابق عليه، كما استوعبه هو. وأثارت فلسفة جروشيوس تحديدا هنا ثائرته، كما فعلت من قبل فلسفة هوبز وبوفندورف ولوك في «الخطاب» الثاني. فبينما أشار جروشيوس إلى أن موافقة الرعايا هي التي أدت إلى التأسيس الصحيح للسلطة السياسية، فقد حاج، سائرا على نهج شيشرون وغيره من الكتاب القدماء، في مؤلفه «عن قانونية الحرب والسلام» (الباب الأول) الذي ظهر في عام 1625، أن موافقة شعب بأكمله على طاعة أحد الملوك تشبه بالضبط جعل الفرد من نفسه عبدا لغيره طواعية؛ أي بواسطة التنازل عن حريته أو نقلها إلى الأبد إلى سيد يرتضيه. ولم يكن جروشيوس وحده، بل هوبز وبوفندورف أيضا، في طرح الأطروحة التي مفادها أن خضوع الأفراد أو الجموع الطوعي لحاكمهم أدى إلى التأسيس الشرعي للدولة، من خلال إجازة أو تخويل طاعة الرعايا إلى سلطة مطلقة بواسطة نقل للحقوق لا رجعة فيه. وأصر جروشيوس على أنه يمكن للمقاتلين المهزومين التنازل عن سلطتهم على أنفسهم للغزاة المنتصرين عليهم، متجاهلين بذلك حقيقة أن الحرب في واقع الأمر علاقة بين دول لا بين أشخاص؛ ولذا رفض روسو الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه تقليد العقد الاجتماعي قبله، الذي لم يكن هناك فارق جوهري فيه بحسبه - وبتعبير هوبز - بين السيادة التي تكتسب بموافقة الناس والسيادة التي تكتسب عن طريق الاستحواذ أو الغزو. زعم هوبز أنه رغم أن سلطة الدولة كانت غير محدودة، فقد كانت هي أو الحاكم مجرد وكيل أو قائم مقام أو ممثل لإرادة الشعب، مجرد ممثل يمثل رعاياه الذين هم بالتبعية المؤلفون الحقيقيون لكل عرض يقدمه باسمهم (ليفايثن، الفصل السادس عشر).
اعتبر روسو فكرة الخضوع الطوعي هذه حجر الأساس للتشريع القانوني الحديث، وإذ شجب عواقبها الجائرة وأفكارها المغلوطة بشأن الطبيعة البشرية في «خطاب عن اللامساواة»، نراه الآن، في «العقد الاجتماعي»، يطعن في شرعيتها، ويقترح رواية مختلفة تماما لتدعيم سلطة الدولة عبر الاختيار الجمعي لمواطنيها. لقد اقترف جروشيوس وأتباعه من المؤمنين بفكرة العقد الاجتماعي خطأين أساسيين في فلسفاتهم الخاصة بالخضوع الطوعي، بحسب ظن روسو. الخطأ الأول هو: الخلط بين العقد الاجتماعي الخاص بالدولة وعقد الخضوع، على فرض أن تأسيس السيادة وتأسيس الحكومة، اللتين أساءوا فهم أساسهما ومسئولياتهما، لا يختلف أحدهما عن الآخر. وكما حاج في الفصل السادس عشر من الكتاب الثالث في «العقد الاجتماعي»، لا تتشكل الحكومة وفقا لعقد، ولا يجوز قط تمرير السيادة التي لا تتجزأ التي للشعب إلى الملك. وعندما اختار جروشيوس إهداء أعظم إبداعاته للملك لويس الثالث عشر، لم يبد أي تأنيب للضمير عندما سلب الناس جميع حقوقهم، بحسب زعم روسو في إضافة ناقمة له في نهاية الفصل الثاني بالكتاب الثاني، الأمر الذي يرسم مقابلة بشكل واضح بين تاريخه الفكري وتاريخ سلفه الخادم لمصلحته بوضوح. قال روسو إن الحقيقة لا تؤدي إلى الثروة، والناس لا يجعلون من أحد سفيرا أو يعطونه كرسي أستاذية في الجامعة، ولا يعطون أحدا معاشا تقاعديا. وبدلا من تحديد دور التأسيس الشرعي للدولة في العملية التي بموجبها يسلم الناس مقاليدهم للملك، كان من الأفضل لو حدد جروشيوس العملية التي يصبح بموجبها الشعب شعبا؛ وذلك لأن في هذا، بحسب تصريح روسو، يكمن «الأساس الحقيقي للمجتمع» (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل الخامس).
كان الخطأ الثاني الذي وقع فيه جروشيوس وأشار إليه روسو، وارتكبه بدوره هوبز وبوفندورف بالمثل ، هو افتراضه أن الأشخاص ربما تنازلوا فرادى أو جماعات عن حريتهم بخضوعهم بإرادتهم لإرادة حاكمهم. على العكس، فإن التخلي عن الحرية تخل عن بشريتنا، بحسب تصريح روسو، وبالتالي نزع للأخلاق من سلوكنا. إن العقد الذي يرسخ، من ناحية، للسلطة المطلقة، ومن ناحية أخرى للطاعة العمياء واه وباطل؛ وذلك لأنه يستقي العبودية من الحرية، ويضع المشارك فيه في تعارض مع نفسه في الأداء المفترض لإرادته الخاصة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل الرابع). في هذا النقد للعبودية الطوعية، والموجه تحديدا ضد آراء جروشيوس، وافق روسو على الحجة الواردة في الفصل الرابع من «الأطروحة الثانية عن الحكومة» للوك التي مفادها أن الإنسان لا يمكن أن يجعل من نفسه عبدا لأي أحد بمحض إرادته. لكن مصدره الأساسي في هذا الشأن لم يكن لوك نفسه بقدر ما كان جون باربيراك، المشرع الهوجونوتي الفرنسي المعروف ومحرر الكتابات السياسية الأساسية لكل من جروشيوس وبوفندورف، الذي وبخه روسو أيضا في «العقد الاجتماعي» لإهدائه عمله (ترجمته لعمل جروشيوس «عن قانونية الحرب والسلام») لأحد الملوك (جورج الأول ملك إنجلترا)، لكنه تردد ووارب في التعبير عن ذلك تفاديا لإثارة حفيظة سيده. ومن بين الملاحظات الضخمة التي أرفقها باربيراك في نسخته الفرنسية المحكمة لمؤلف بوفندورف «قانون الطبيعة والأمم» المنشور لأول مرة عام 1706، الملاحظة المضافة إلى الفصل الثامن بالباب السابع، التي ألمحت إلى زعم لوك السابق بأنه «ما من إنسان يمكن أن يتنازل عن حريته بحيث يخضع نفسه بالكلية لسلطة تعسفية؛ لأن ذلك سيكون بمثابة تخلصه من حياته التي لا سلطان لنفسه عليها.» في تأملاته النقدية في كل من «خطاب عن اللامساواة» و«العقد الاجتماعي»، كان يدين روسو بالكثير لتعليقات باربيراك على أعمال كل من جروشيوس وبوفندورف، ومن الواضح أن معرفته الأولى على الأقل بلوك تمت في بادئ الأمر عبر تعليقات باربيراك على بوفندورف. وفي «العقد الاجتماعي» تحديدا، قام روسو بتطوير نسخة باربيراك لنقد لوك الشخصي للعبودية الطوعية؛ بغية تحدي أسس الفلسفة السياسية الحديثة التي تم وضعها في القرن السابع عشر، موظفا اصطلاحاتها هنا لكي يضمن الإدراك الجمعي للناس لحريتهم، لا القرار المتعمد لهم بإخضاع أنفسهم للملك. ولقد بنى روسو الكثير من أفكار الحرية والمساواة والسيادة في «العقد الاجتماعي» على خلافه مع جروشيوس وبوفندورف وهوبز.
في قلب هذا التقليد التخميني الطوعي، كما تصوره روسو، استقر الاعتقاد بأن البشر الذين لا سيد لهم كانوا بطبيعة الحال بحاجة إلى دولة لحمايتهم. وكانت ممارسة الحرية غير المقيدة تعرض الأمان الشخصي للأفراد للخطر، بحيث إنه حتى يحصل هؤلاء الأفراد على الأمان الذي اعتبروه - عن حق - أهم من حريتهم، كان يتعين عليهم التنازل عن حقوقهم لسلطة مخولة بموجب القانون وقوة السلاح لحفظ السلام فيما بينهم، علاوة على إبعاد خطر الأعداء. ولم تتطلب المواطنة في الدولة وحسب التنازل الإرادي من جانب كل شخص عن حريته، ولكن لتأسيس التفوق الظاهري للحاكم على الجميع، حولت تلك المواطنة المساواة الطبيعية بين كل البشر إلى تسلط وخضوع سياسيين. في الفصلين الثامن والتاسع من الكتاب الأول ل «العقد الاجتماعي»، حاول روسو أن يقلب كل هذه الافتراضات رأسا على عقب. إن انتقالنا الملائم من الحالة الطبيعية إلى حالة التحضر يجب ألا يكبت حريتنا الحقيقية، بحسب زعم روسو، بل يتعين عليه تحقيقها بتحويل الغرائز لدينا إلى خضوع لقانون نوجبه على أنفسنا. ولا ينبغي أن يؤسس هذا الانتقال مبادئ هرمية للخضوع في تجاوزه لمساواتنا الطبيعية المزعومة. على العكس، فهو يحل المساواة الأخلاقية والقانونية محل لامساواتنا الطبيعية المستندة إلى القوة أو الذكاء وحسب. والصلات التي يشترطها روسو بين هذين المبدأين - الحرية والمساواة - هي التي تمثل أغلب الأفكار المحورية في عمله «العقد الاجتماعي».
وكما أوضح في الفصل الثامن من الكتاب الأول والفصل السابع من الكتاب الثاني من «العقد الاجتماعي»، فإن تأسيس الدولة بالاتفاق المشترك لرعاياها ينتج عنه تغير ملحوظ في الإنسان؛ وهو التحول الذي يوصف هنا فيما يتعلق بأهمية التنازل عن الاستقلال الطبيعي لكل شخص الذي نتج عن هذا التحول، والذي صوره روسو في «خطاب عن اللامساواة» باعتباره خطوة مدمرة أدت إلى الفساد الأخلاقي والرذيلة. وبالزعم أن سوء استغلال الحالة الجديدة للبشر كثيرا ما يفضي إلى أزمة أسوأ من حالتهم الأصلية، ألمح روسو إلى جوهر حجته السابقة، لكنه هنا بدلا من ذلك شدد على الروح المشرفة والسامية لهذا التغيير، عندما يبرم العقد الاجتماعي، ومن ثم يتأسس المجتمع المدني، على النحو السليم. وعوضا عن الحرية الطبيعية التي ربما امتلكها البشر في غياب المجتمع المدني، يكتسب البشر حرية مدنية وأخلاقية؛ ويمكن وصف الأولى بأنها مقيدة بفعل الإرادة العامة، بينما تجعلهم الثانية، بإلزامهم بطاعة القوانين التي شاركوا جميعا في وضعها، أسياد أنفسهم حقا. وبعد أن وصف الحرية الأصلية للبشرية في «خطاب عن اللامساواة» فيما يتعلق بالإرادة الحرة وغياب السيطرة علينا بفعل غرائزنا الحيوانية، كان من الممكن وحسب أن يربك روسو قراءه المتابعين لأعماله بتعريفه الجديد للحرية الطبيعية التي يصورها الآن على أنها عبودية لمثل هذه الغرائز. وعلى النقيض من «الخطاب» الثاني، لا يأتي «العقد الاجتماعي» مطلقا على ذكر الحالة الطبيعية للبشر، وتعليقاته عن الحيوانات على وجه الخصوص قليلة، ولم يذكر الكثير عن خصالها الحميدة كما فعل في مناقشته السابقة.
لكن الغرض من حجة روسو أصبح الآن مختلفا. فقد كان يأمل في إثبات أن المشاركة الجمعية للبشر في الحكم الذاتي من الممكن أن تزيد من حريتهم بشكل كبير يتجاوز ما يكفله الاستقلال الطبيعي للهمج في حالتهم الأصلية، الموصوفة هنا بالمقيدة داخليا بغرائزهم، إن لم تكن مقيدة أيضا خارجيا باعتمادهم على الآخرين، بينما في «خطاب عن اللامساواة» زعم روسو أن البشر البدائيين لم تحكمهم غرائزهم. بخلاف المفكرين المؤمنين بفكرة العقد الاجتماعي قبله، صور روسو عقد الاجتماع الأساسي بين البشر في سياق تحقيقهم طموحات لم تكن لتخطر لهم على بال في غياب هذا العقد، بحيث إن حرية العيش دون الخضوع لسيطرة بعضهم على بعض، التي يستنكرونها بطبيعة الحال، تجلب بعدا إيجابيا آخر عند فقدانها، حيث يكتسب المواطنون شخصيات أخلاقية ومصالح تعاونية لا يمكن أن يتخيلها الهمج المنعزلون. وعلى النقيض من زعم هوبز بأن الحرية في الدولة تتمثل في «صمت» القوانين، التي يقيد إصدار الحاكم لها بالتبعية حرية الأشخاص من خلال إلزامهم بطاعتها، اعتقد روسو أن القوانين والحرية من الممكن أن تمضيا قدما معا شريطة أن يشارك في وضعها أيضا الخاضعون لها، فلا يعلو بذلك الحاكم أو ينفصم عن عموم المواطنين. وبينما الحرية بالنسبة إلى هوبز تستبدل بها السلطة من خلال إحالة البشر حقوقهم الطبيعية إلى حاكمهم، فإن الحرية بالنسبة إلى روسو، شريطة أن يحكم المواطنون أنفسهم، تكتسب داخل الدولة بدلا من أن تصان منها. وبهذا اللجوء للمثل الجمهورية القديمة التي تلزم بقوانينها الإنسان الحر في المدن المتحررة، سعى روسو إلى إعادة تعريف النظرية الحديثة للسيادة بما يناقضها بحيث يتم استحضار ألفاظها لاستعادة ما وضعت من أجل هدمه تحديدا.
إذا كانت الحرية محورية لمفهوم روسو عن الدولة الشرعية، فالمساواة لا غنى عنها لتحصيل الحرية، بحسب زعمه، ولا سيما في الفصل التاسع من الكتاب الأول والفصل الحادي عشر من الكتاب الثاني. وكما شجب الآثار السلبية للتوزيع غير المتكافئ للملكية في «الخطاب» الثاني، فقد عارض بشدة في «العقد الاجتماعي» فرط الثراء وفرط الفقر اللذين يرى كلا منهما «مدمرا للصالح العام» حيث تعرض الحرية في المزاد، فيزيد مشتروها من سلطات الطغاة، ويتخلى بائعوها عن حريتهم طلبا لرفقة الطغاة. ولعل أكثر الأفكار تواترا بإصرار في جميع كتابات روسو السياسية، وبالطبع في حياته الشخصية أيضا، تجلت في رغبته في إنهاء علاقات التبعية والخضوع بين البشر، تلك العلاقات التي تسيطر على الأشخاص وتجعلهم لا يبرحون مكانهم في الحياة، وتدمر حريتهم. إن الاعتماد على البشر، بحسب زعم روسو في الكتاب الثاني من كتابه «إميل» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، تمييزا له عن الاعتماد على الأشياء، يتسبب في كل الرذائل، فيفسد السيد والعبد على حد سواء. وعلى الرغم من أن روسو كان على قناعة بأن المساواة لا غنى عنها للحرية، فقد ظل مصرا على أنه يتعين السعي وراءها لذاتها. ورغم حدة نقده للملكية الخاصة، لم يسع قط إلى إلغائها، كما ستحاول أجيال من علماء الاجتماع من بعده؛ وكان سببه في ذلك أنه تصور أن العالم المنزوع منه الملكية الخاصة من الممكن أن يجعل مبدأ المساواة يدخل في صراع مع مبدأ الحرية. فإذا منع الأفراد من حيازة الممتلكات من خلال عملهم وسعيهم، فإن خضوعهم سينتقل وحسب من الأثرياء إلى الدولة، ولن تكبت حريتهم بأقل من ذي قبل. ولأنه اعتبر أن الملكيات المحدودة من الأراضي دليل على اعتماد البشر على أنفسهم، فقد أقر بوجود الجمهوريات الزراعية. وفي «خطاب عن الاقتصاد السياسي» لاحظ أن «الملكية هي أساس العقد الاجتماعي»، مع الإشارة إلى أن الشرط الأول لذلك أن «يكفل لكل شخص حق التمتع تمتعا هادئا بكل ما هو خاص به» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). في الفصل الحادي عشر من الكتاب الثاني من «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن فرط الثراء والفقر يجب أن يخضع للسيطرة السياسية، بحيث لا يكون أي مواطن ثريا جدا بشكل يمكنه من شراء مواطن آخر، ولا يعاني أي مواطن فقرا مدقعا فيبيع نفسه. وبما أن «قوة الظروف تميل دوما للقضاء على المساواة»، بحسب ما انتهى إليه روسو، «فإن قوة التشريع عليها دوما أن تميل إلى صونها.»
وشدد روسو هنا على البعد السياسي للمساواة أكثر مما يتعلق بعلاقاتنا الاجتماعية والاقتصادية، فقد زعم أن كل قانون يكون ملزما للمواطنين جميعا دون تمييز؛ حيث لا تميز الدولة بين الأشخاص المشمولين به (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصلان الرابع والسادس). وزعم أيضا من قبل في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» أن «أول القوانين هو أن تحترم القوانين» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مضيفا في «العقد الاجتماعي» أن كل المواطنين يخضعون لتلك القوانين سواء بسواء؛ لأن القوانين بهذا الشكل تتجاهل كل الاعتبارات والاختلافات الفردية التي تهتم بها الحكومة عند تنفيذ تلك القوانين، لكنها لا تسترعي اهتمام المجتمع ككل لها. ولعل استبعاد روسو لأي مزايا أو أضرار فردية ممكنة من تشريعات الدولة هو الذي حدا به أن يعلق على هذا الأمر، في الفصل السابع من الكتاب الأول من كتاب «العقد الاجتماعي» قائلا: «إن الحاكم، بموجب ماهيته، دائما ما يكون ما ينبغي عليه أن يكون»، ولو أن المعنى الذي يرمي إليه في هذا الجزء الذي كثيرا ما يستشهد به ملتبس. لكن اهتمامه بالمساواة المدنية يتضح بجلاء شديد في تأكيده الحماسي على المسئولية المتساوية للمواطنين المتعلقة بالمشاركة الفعالة في المجلس التشريعي الذي له السيادة في كل دولة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول - الفصل السادس، والكتاب الثاني - الفصل الثالث، والكتاب الثالث - الفصل الخامس عشر). وافترض روسو، شأنه شأن غيره من المؤيدين المعاصرين للديمقراطية التشاركية الذين كثيرا ما يرجعون لمؤلفاته لاستلهام الأفكار، أن سلطة أي حاكم - التي زعم، شأنه شأن جروشيوس وهوبز وبوفندورف، أنها لا بد أن تكون مطلقة - تكتسب صفة الشرعية فقط إذا لعب كل المواطنين دورا نشطا بالكامل في إطارها. وهنا يكمن لب فكرته عن السيادة الشعبية التي تشكل علاقاتها، خاصة بنموذجه المثالي عن الحرية في الدولة، حجر الأساس للمذهب السياسي الذي اشتهر به روسو منذ الاحتفاء به، وكذلك تشويهه، خلال مسار الثورة الفرنسية.
يعد ربط روسو بين كل من الحرية والمساواة والسيادة عنصرا أصيلا بشكل مدهش في كتاباته، الأمر الذي يميز فلسفته عن فلسفة أفلاطون ومكيافيللي ومونتسكيو وغيرهم ممن انشغلوا مثله بالحرية السياسية لا الشخصية وحسب. وقبل رؤية روسو لمفهوم السيادة في «العقد الاجتماعي»، ارتبط هذا المفهوم من قبل مفسريه بفكرة القوة أو السلطة أو الإمبراطورية، وكان يرتبط بصفة عامة بسيادة الملوك على رعاياهم، أيا كانت الطريقة التي اكتسب بها الملوك تلك السيادة، لا بحرية المواطنين. وبالنسبة إلى بودين وهوبز تحديدا - وهما أشهر أنصار السيادة المطلقة قبل روسو - كان مقابل كلمة سيادة، سواء الفرنسي
Неизвестная страница
souveraineté
أو الإنجليزي
sovereignty - المشتقان من العبارة اللاتينية
summa potestas
أو
summum imperium ، يشير إلى السلطة المهيمنة - أي المطلقة - للحاكم. أما بالنسبة إلى روسو، في المقابل، تعتبر فكرة السيادة بالأساس مبدأ للمساواة، التي يراها العنصر الخاضع للحكم، أو الرعايا أنفسهم، باعتبارها السلطة المطلقة، وترتبط هذه الفكرة بمفهومي الإرادة أو الحق، بحسب تعريفه لهما، لا بالقوة أو السلطة؛ مبينا مرة أخرى التمييز بين البعدين الأخلاقي والطبيعي للأمور البشرية الذي دار حوله مؤلفه «خطاب عن اللامساواة»، والذي يتجلى بقدر لا يقل وضوحا، ولو أن أولوياته أمست الآن معكوسة، في «العقد الاجتماعي».
شكل 4-2: صفحة عنوان كتاب «العقد الاجتماعي» (أمستردام، 1762).
وبوصفه للشعب بأكمله - الذي قوامه المواطنون، إن لم يكن السكان جميعا - بأنه صاحب السيادة (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل السادس)، سعى روسو علاوة على ذلك، شأنه شأن باين من بعده، إلى أن يقوم عامة الناس في كل أمة بالإدارة المطلقة لشئونهم العامة. ونادرا ما وصف روسو سيادة الشعب هذه بأنها ضرب من «الديمقراطية»، ولم يصفها بذلك مطلقا في «العقد الاجتماعي»، حيث إنه اعتبر الديمقراطية شكلا لا للسيادة المباشرة بل للحكومة المباشرة؛ مما استدعى من الناس أن يظلوا في حالة تشاور دائم لتنفيذ السياسة العامة وإدارتها، على غرار ما يقوم به الموظفون الحكوميون أو البيروقراطيون الذين يعملون بدوام كامل، وبذلك جعلوا الدولة عرضة تحديدا للفساد والحرب الأهلية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع). وعلى فرض أن ممارسة المواطنين لسيادتهم الشعبية كان مرجحا جدا في الدول الصغيرة المنعزلة جغرافيا بحيث لا تتعرض لأي غزو خارجي، وهي التي وزعت ثرواتها بالتساوي بشكل أو بآخر بين أشخاص يقدرون حريتهم، رأى روسو أن جزيرة كورسيكا قد تكون الدولة الوحيدة في أوروبا التي ما زالت مناسبة للتشريع الجديد (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل العاشر). ولكن حتى في الدول الكبرى، كان للناس لا المسئولين التنفيذيين الذين يختارونهم السلطة العليا، وهو الأمر الذي حاول أن يضمنه لبولندا، عن طريق الانتخابات الدورية للنواب المفوضين في مجلسهم النيابي الوطني، عندما كلف بإعداد دستور لحكومتهم المرتقبة. وفي كل مكان كان فيه للناس السيادة لا بد أنه كانت هناك مجالس دورية لم يكن بالإمكان حلها، هكذا حاج روسو في «العقد الاجتماعي» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الثالث عشر)، مبينا في أطول فصول عمله عن المجالس الشعبية الرومانية (العقد الاجتماعي، الكتاب الرابع، الفصل الرابع) كيف أكدت هذه المجالس، التي يشارك فيها كل المواطنين، على أنه تحت مظلة جمهوريتهم كان لأهل روما بالفعل السيادة على بلادهم، قانونا وواقعا على حد سواء. وأضاف روسو (العقد الاجتماعي، الباب الثالث، الفصل الخامس عشر) أن ممثلي الشعب، الذين استأمنهم الناس على مناصبهم المقدسة، لم يسعوا في تلك الدولة أبدا لاغتصاب سلطات الناس لأنفسهم الذين باستطاعتهم إذا اقتضت الضرورة أن يقرروا الحكم مباشرة بالاستفتاء العام. في وجود الممثل، لا يمكن أن يكون هناك تمثيل؛ وذلك لأنه «لحظة أن يجتمع الناس قانونا كصاحب سيادة، تتعطل الولاية القضائية كلها للحكومة» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع عشر). ورغم ذلك، فما لم يسارع الناس إلى مجالسهم بحماس في مثل هذه الظروف، وما لم يخدم كل منهم بلده بشخصه لا بماله، فستضيع الدولة. لم يبد أي مفكر سياسي قبل روسو قط مثل هذا الإخلاص لفكرة التعبير الذاتي الجمعي أو الحكم الذاتي الشعبي. ورغم أنه افترض أنه من الممكن أن يتعرض العامة للخداع أو التضليل، فقد آمن بأن السيادة الشعبية نفسها هي الإجراء الوقائي الوحيد الممكن من الاستبداد. فقط عندما يشارك الناس جمعيهم في التشريع يمكنهم ردع إساءة استخدام السلطة التي قد يسعى البعض لممارستها. وإذ تظاهرت السلطات الحاكمة التي أوردها جروشيوس وهوبز وبوفندورف وتلامذتهم بتمثيل المواطنين باعتبارها ممثلة لهم، اغتصبت حريات الحكام الحقيقيين لكل دولة الذين عكسوا دورهم، إذ قاموا به بأنفسهم باعتبارهم بدلاء لأسيادهم، وبالتالي أمسوا صانعي إخضاع الناس وتبعيتهم.
كان روسو قد وضع من قبل أطروحة مماثلة في سياق الفنون عندما دعا في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» في عام 1758، ردا على اقتراح إقامة مسرح في جنيف، وهو ما رآه روسو مفسدة لحرية أبناء بلده، إلى إقامة احتفالات عامة وأخوية للناس كبديل للعروض المسرحية الاحترافية التي يقدمها الممثلون، بحيث تعج جمهوريته الأم بالكامل، لا في جانب واحد من جنباتها وحسب، بالمواكب الفنية والفنانين، وذلك على غرار ما كان يشاهده في شبابه. في العالم القديم، وخاصة بين شعب أسبرطة، زعم روسو (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح) أن «المواطنين، الذين كانوا يجتمعون باستمرار، كانوا يهتمون بشدة بوسائل الترفيه التي كانت الشغل الشاغل للدولة، والألعاب التي لم يتوقفوا عن ممارستها قط إلا للخروج للحرب.» في العالم الحديث، فقدت روح المشاركة العامة هذه، وضاعت معها حرية الناس. ومن خلال الفنون والعلوم والدين، وبالقدر نفسه السياسة، خدر الناس وصاروا سلبيين، بحسب ظنه، وأخرجوا من قلب الحياة الثقافية، وسيقوا لأطرافها لاهثين وراء عروضها. وإذ تحولنا من عناصر فاعلة فيما نقوم به من أفعال إلى شهود على ما يحدث لنا، فقد صرنا جمهورا صامتا، وتعلمنا الرضوخ والجبن وكأننا مشاهدون لقصة كنا من قبل شخصياتها الرئيسية. ولقد تعلم الممثلون الذين لعبوا أدوارنا؛ أي ملوكنا وبرلماناتنا وغير ذلك من رءوس الدولة، أن الرعايا يجب عزلهم عن الحكم والسياسة. وذكر روسو في الفصل الأخير من «مقالة عن أصل اللغات» حيث فصل هذه الأفكار أن «هذا هو المبدأ الأول في السياسة الحديثة» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ الخطابات والكتابات السياسية المبكرة الأخرى). ولا شك أن شدة انجذاب روسو لما تصور أنه نموذج مثالي قديم للمشاركة العامة جعلته يؤمن بأن المواطنين ينبغي ألا يشجعوا بالمرة على إعلاء طموحاتهم الخاصة على مصلحة الدولة. وينبغي أن تكون المشاركة في المجلس التشريعي للدولة إجبارية، بحسب ظن روسو، وهو الاعتقاد الذي ربما استند إليه في زعمه، في الفصل السابع من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي»، بأن «كل من يرفض طاعة الإرادة العامة ... يجب أن يجبر على أن يكون حرا.» ومعنى هذه الملاحظة الغريبة، التي تعرضت لهجوم شديد من جانب نقاد روسو الليبراليين وذلك عن حق لما لها من آثار سيئة محتملة، غامض، رغم أنه يبدو وكأنه يتبنى فكرة أن القانون يجبر رعايا الدولة على التصرف بما يتفق مع ضمائرهم وإرادتهم كمواطنين، ومن ثم مع حريتهم الشخصية. ومع ذلك، فلا يبدو أن روسو في أي موضع آخر في كتاباته السياسية كان غافلا جدا هكذا عن الفارق، الذي يصر عليه في مواضع أخرى، بين القوة والحق.
كانت «الإرادة العامة» الاصطلاح الذي استخدمه روسو لممارسة السيادة الشعبية، والذي استخدمه لأول مرة في «خطاب عن الاقتصاد السياسي» عام 1755 المنشور مع مقالة ديدرو عن «الحق الطبيعي» في «الموسوعة»، حيث ورد هذا الاصطلاح أيضا، الذي استشهد به روسو بالتالي كإشارة مرجعية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، بعد أن اطلع على مخطوطة نص صاحبه. ويرجع الفضل في المقام الأول لمالبرانش في أن هذا الاصطلاح كان له بعض الرواج بشكل أساسي في الكتابات الفلسفية واللاهوتية الفرنسية بداية من منتصف القرن السابع عشر، وقد استخدمه ديدرو في العديد من إسهاماته في «الموسوعة» التي كان محررا لها أيضا. لكن روسو، أكثر من أي شخصية بارزة أخرى قبله أو بعده، هو الذي أخذه وأعطاه معنى جديدا خاصا به، ذا صبغة سياسية. وفي «خطاب عن الاقتصاد السياسي»، عرف روسو هذا الاصطلاح باعتباره إرادة الدولة ككل، التي تعد مصدر قوانينها ومعيارها الخاص بالعدالة. وفي «العقد الاجتماعي»، قال روسو إن هذا الاصطلاح يشير إلى الصالح العام أو المصلحة العامة التي يتعين على الدولة تحقيقها، وإلى الإرادة الفردية لكل مواطن التي يجب أن تحقق هذا الصالح العام، الذي كثيرا ما يتعارض مع المصلحة الخاصة للمواطن نفسه كإنسان أو كعضو بمؤسسات أخرى داخل الدولة. زعم روسو أن تكون جمعيات جزئية على حساب الجمعية العامة للشعب يمثل دوما خطرا جسيما على تحقيق الإرادة العامة لأية جمهورية، مستشهدا كدليل على ذلك (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثالث) بفقرة من كتاب «تاريخ فلورنسا» لمكيافيللي. ولذلك كان مصرا على أن الإرادة العامة، في تركيزها على الصالح العام، ينبغي ألا يخلط بينها وبين مصلحة الجميع التي هي وحسب مجموع المصالح الشخصية ومن ثم المتعارضة بضرورة الحال، والتي خلق تفوقها عبر عدد الأصوات وحسب جمعيات جزئية غير مستقرة، وجمعيات سرية وشقاقا سياسيا. وأحيانا ما كان يقترح روسو أنه لتحقيق الإرادة العامة ينبغي ألا يكون هناك أية جمعيات جزئية من أي نوع بالدولة، لكنه في الغالب كان يفترض أن مثل هذه الجمعيات لا مناص منها، وينبغي حقا زيادة عددها حتى يقل خطر الواحد منها قدر الإمكان، بحيث لا تستثنيها الإرادة العامة بقدر ما تعارضها. وفي إشارة لفقرة في مؤلف الماركيز دارجنسون عن حكومة فرنسا الذي لم ينشر حتى عام 1764 لكنه اطلع على مخطوطته، لاحظ روسو أنه «إذا لم تكن هناك أية مصالح مختلفة، فإنه لا يكاد يشعر بالمصلحة المشتركة التي لا تجد عائقا مطلقا ... ولن تمسي السياسة فنا فيما بعد» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثالث).
Неизвестная страница
بما أن عدد الأصوات كان ضروريا لإثبات الإرادة العامة وكذلك إرادة الجميع (العقد الاجتماعي، الكتاب الرابع، الفصل الثاني)، فمن غير الواضح كيف تخيل روسو أن المواطنين سيستطيعون التمييز بين الإرادتين، ولا سيما في ضوء زعمه بأن الإرادة العامة يمكن حسابها باعتبارها مجموع فوارق ما هو موجب وما هو سالب لإرادة الجميع. لكن الصدام بين الإرادة العامة والخاصة أمسى بعد ذلك محوريا لمحاجته، وتجلى أيما تجل في روايته للتوتر الذي يحدثه في عقل كل مواطن، والذي يجعله يفرق بين ما هو مفيد له وما هو مفيد للمجتمع (العقد الاجتماعي، الكتاب الأول، الفصل السابع). كثيرا ما شجب نقاد روسو الليبراليون فكرته عن الإرادة العامة نظرا لنظرتها الجماعية الواضحة، ولكن في «العقد الاجتماعي»، من الواضح أن هذه الفكرة كانت مصممة لتفادي الترسيخ الاجتماعي للأفراد، لا لتحقيقه. ولأننا فقدنا الكثير من روحنا العامة، كانت الإرادة العامة لكل شخص في العالم المعاصر أضعف بكثير من إرادته الخاصة، بحسب اعتقاد روسو، الذي أشار إلى أنه يمكن تقوية تلك الإرادة أو إحياؤها لا بالترديد غير المتروي لكل مواطن لما يقوله جيرانه في أي تجمع عام، بل بالعكس تماما؛ أي بتعبير جميع الناس عن آرائهم كل على حدة، دون أي تواصل فيما بينهم من شأنه جعل أحكامهم المنفصلة متحيزة لمصلحة المجموعة هذه أو تلك. وقد اعترض جون ستيوارت ميل لاحقا على الاقتراع السري هذا، ولربما وافق روسو أيضا على أن نواب الشعب، حيثما تقتضي الضرورة، ينبغي أن يكونوا مسئولين دوما أمام ناخبيهم. ولكن، في الاستفتاء الشعبي أو الاستفتاء العام أو التجمع العام لجميع المواطنين، ولضمان أن عدد الأصوات يضارع عدد الأفراد، يجب أن يتصرف كل مواطن دون اعتبار للآخرين، بحسب اعتقاد روسو، بحيث يسترشد بإرادته العامة كعامل مستقل؛ وبذلك ينزل على رغبة نفسه دون سواها. إن تمييز روسو، فيما يختص بالسياسة الدولية، بين «المصلحة الحقيقية» المتصورة بشكل غير واضح للدولة في إرساء سلام اتحادي تحت لواء القانون الدولي من ناحية و«المصلحة الظاهرة» المستمسك بها بإصرار في الحفاظ على استقلالها المطلق من ناحية أخرى، صيغ في السابق بألفاظ شبيهة في عمله «الحكم على مشروع السلام للأب دي سان-بيير» الذي خط حوالي عام 1756 (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ روسو عن العلاقات الدولية).
بعد أن فصل روسو «مبادئ الحق السياسي» (وهو العنوان الفرعي ل «العقد الاجتماعي») في الكتابين الأول والثاني، انتقل بعد ذلك إلى تطبيق تلك المبادئ، عاكسا أولوياته بين الجانبين الفعلي والأخلاقي للدولة، لكي يتعاطى مع سلطتها التنفيذية بدلا من سلطتها التشريعية، مع الحكومة بدلا من السيادة الشعبية، ومع القوة بدلا من الحق، كما أوضح في الفصل الأول من الكتاب الثالث. فعلى العكس من السيادة التي لا يمكن تمثيلها مطلقا، تتشكل الحكومة - التي وصفها روسو باعتبارها «كيانا وسيطا» بين المواطنين بصفتهم السيادية وكرعايا يحكمهم القانون - دوما من ممثلين للشعب. وبينما تكون السيادة عامة دوما في تشريعاتها، فإن القوة التنفيذية للحكومة تمارس فقط فيما يخص حالات بعينها (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الأول). وبينما تتخذ السيادة شكلا واحدا وحسب، تعتمد الحكومة على الظروف؛ ومن ثم فهي تتخذ عدة أشكال مختلفة مناسبة لسد احتياجات خاصة. ومؤسساتها محلية ومشروطة ومحددة.
إن العامل الأكثر محورية الذي يحدد طبيعة الحكومات التي يتعين أن تؤسسها الدول هو سكانها، حيث تتطلب الدول ذات الكثافة السكانية العالية الحكومات الأكثر تركيزا، بينما تتطلب الدول ذات الكثافات السكانية الأقل الحكومات الأكثر انتشارا، تبعا للتناسب العكسي بين السلطات الحكومية، من ناحية، ونصيب كل مواطن من السيادة من ناحية أخرى، بحسب زعم روسو في الفصلين الأول والثاني من الكتاب الثالث من «العقد الاجتماعي». وتوجهه هذه القاعدة نحو إيراد التصنيف القديم للحكومات من حيث عدد القائمين عليها أو مسئوليها - أي من حيث كونها تتمثل في شخص واحد أو عدد قليل من الأشخاص أو عدد كبير من الأشخاص، أو الملكية والأرستقراطية والديمقراطية (أو نظام الحكم) على التوالي - الذي اشتهر بوصفه أرسطو، وذلك في الكتاب الثالث من كتابه «السياسة». وبالمثل على نفس خطا أرسطو، وجه روسو اهتمامه للبناء الطبقي للدول، وتوزيع الثروات الأنسب لكل شكل من أشكال الحكومات، مشيرا تحديدا إلى المساواة في المكانة والثروة الأنسب للديمقراطية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع) وللنبلاء والطبقات الوسيطة ما بين الأمير والرعايا في الحكومة الملكية. أشار روسو إلى أنه في دولة كبيرة، ساعدت القوى المتضادة هذه على تقويض السلطة الملكية التي قد يبدو تركزها في يد شخص واحد كميزتها الرئيسية فقط عندما تمارس بما يخدم الصالح العام، وهو الوضع الذي ظنه روسو نادرا.
زعم بودين وبوسويه وغيرهما من فلاسفة الحكم الملكي المطلق أن تجانس الدولة يمكن الحفاظ عليه بأفضل ما يكون تحت سلطة القوة المتفوقة بشكل متفرد لشخص واحد، لكن روسو لم يكن مقتنعا بمثل هذه المزاعم، حيث حاج، بالمقابلة بفكرته عن السيادة، أنه من الخطأ افتراض أن «الأمير هو كل ما ينبغي أن يكونه» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل السادس). فالحكم الملكي في شكليه الانتخابي والوراثي ليس عرضة بشكل خاص وحسب إلى أزمات التعاقب على الحكم، لكنه أيضا عرضة لدسائس المرتشين وانعدام الكفاءة، بحسب زعم روسو، في ظل مكائد ضعاف المواهب أصحاب الطموحات العريضة. في «الحكم على مشروع السلام للأب دي سان-بيير»، صب روسو احتقاره أيضا على الخطط الأميرية للتوسع الإقليمي سعيا لإقامة إمبراطورية وحيازة المال، مثنيا على حكمة هنري الرابع ملك فرنسا الذي كان بروتستانتيا في فترة من الفترات، على سبيل المقابلة، وجهوده الدءوبة من أجل إنشاء كومنولث مسيحي دولي قرب نهاية القرن السادس عشر. لكنه أشار إلى أن سان-بيير من المستبعد أن يستطيع النجاح في تكرار هذه الجهود بعدها بمائتي عام، ويرجع ذلك جزئيا إلى قدراته الأقل بكثير، وبشكل أساسي للتغير المهول الذي طرأ على المؤسسات الدبلوماسية والعسكرية لدرجة أنه ما من اتحاد كونفدرالي للدول الأوروبية كان يمكن تأسيسه إلا عن طريق الثورات (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ روسو عن العلاقات الدولية). وافترض هوبز أن الحكومة الملكية أفضل عموما من غيرها من أشكال الحكومات نظرا للتماهي بين الصالح العام والخاص الذي تضمنه. ورغم ذلك، كان روسو مقتنعا بقدر أكبر بكثير بتقييم مكيافيللي أن «الشعب أكثر تعقلا واتزانا، ويتمتع بحكم أفضل وأكثر حكمة من الأمير» (نقاشات، الباب الأول). وشأنه شأن مكيافيللي، آمن روسو بأن الحكومة الجمهورية أفضل من الملكية، وحتى في «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن كتاب «الأمير» لمكيافيللي، في تصويره للحكم البغيض حقا، كان يراد أن يكون «دليلا للجمهوريين» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل السادس)، مخفيا عشق مؤلفه العميق للحرية الذي كان يشاركه روسو إياه.
في ضوء تلك الانتقادات الحادة، قد يبدو روسو وكأنه كان يرى أن الديمقراطية الشكل الأفضل للحكم، لكنه كان في واقع الأمر مصرا على أن الديمقراطية بالقدر نفسه خطرة؛ وذلك غالبا لأنها بطبيعتها تؤدي إلى الخلط ما بين صاحب السيادة الذي هو الشعب والحكومة في الدولة. ويجب ألا يقوم واضعو القوانين أنفسهم بتنفيذها، بحسب زعم روسو (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الرابع)؛ لأن ذلك من شأنه أن يجعل صاحب السيادة يلهيه تنفيذ الجزئيات عن المقاصد العامة، ويخلط ما بين الصالح الخاص والعام بقدر أكثر خبثا مما يحدث تحت الحكم الملكي. وزعم روسو أنه «عندما يحدث ذلك، تفسد الدولة من الداخل، ويستحيل إصلاحها.» ونظرا «لفضيلة التمييز بين صاحب السيادة والحكومة» التي تتمتع بها الأرستقراطية (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الخامس)، بدا أن روسو ميال أكثر إليها، أو بالأحرى الأرستقراطية الانتخابية، بما أنه كان يعتبر الأرستقراطية الطبيعية لا تناسب سوى الشعوب البدائية، وكان يرى أن الأرستقراطية الوراثية «أسوأ أنواع الحكومات على الإطلاق». ذهب روسو إلى أن الأرستقراطية الانتخابية لا تعتمد على أمانة كل مواطن وحكمته؛ ولذلك فهي بحاجة إلى فضائل أقل من الحكومة الديمقراطية. ورغم أنها يمكن أن تنجح فقط إذا وزعت الثروات بشيء من المساواة والاعتدال، فإن حقيقة أن المساواة الصارمة لا يمكن تحقيقها عموما يناسب هذا النوع من الحكم، حيث يتيح تكليف الإدارة اليومية للشئون العامة لأشخاص ذوي مواهب مناسبة تسمح لهم مواردهم المستقلة بتكريس كل وقتهم للدولة باتزان مالي. افترض روسو أنه تحت مظلة الأرستقراطية الانتخابية يستطيع أكثر المواطنين استقامة وذكاء وخبرة على الصعيد السياسي أن يضمنوا استقرار الدولة عندما يكونون أعلى مسئوليها وموظفيها الحكوميين.
اعتقد روسو هنا أن أهم حقيقية تتعلق بكل أشكال الحكومات المتنوعة تتمثل في اختلافها الجوهري عن صاحب السيادة في كل أمة. فإذا عجز الناس عن وضع وتنفيذ قوانينهم بشكل ملائم في الديمقراطية، فلن يستطيع حكامهم، في ظل الملكية أو الأرستقراطية على حد سواء، أن يحكموا بالنيابة عنهم. لقد استشعر روسو خطر إساءة استغلال السلطات التي تنتمي للشعب وحسب من قبل الحكومة بالقوة نفسها التي استشعرها لوك من قبله، ومن السائد جدا أن تميل الحكومات في الأعم الأغلب لإحلال إرادتها الخاصة محل الإرادة العامة لصاحب السيادة، الأمر الذي عده روسو ضربا من الاستبداد. فالشعب الإنجليزي لا يمارس الحرية إلا أثناء انتخابه لأعضاء البرلمان، بحسب ملاحظة روسو في الفصل الخامس عشر، بالكتاب الثالث من «العقد الاجتماعي»، وفي الفصل السابع من مقالته «حكومة بولندا». ففي تفويضهم الخاطئ لسلطتهم التشريعية كصاحب سيادة لهيئة عامة كان ينبغي أن تقوم على خدمتهم وحسب باعتبارها سلطة تنفيذية، أثبتوا أنهم غير مؤهلين للحرية التي كان حريا بهم ممارستها بأنفسهم مباشرة.
وأيضا، في جنيف، أمست السلطة التنفيذية (الممثلة في المجلس الصغير) تدريجيا أكثر هيمنة؛ إذ انتزعت سلطات كان من المفترض أنها تنتمي للمجلس العام للمواطنين (الممثل في المجلس العام)، لدرجة أنها منعت حتى اجتماع هذا المجلس صاحب السيادة. وفي ظل إقصاء القوة التنفيذية لبلده الأم للإرادة الشعبية، فسد الحق المطلق وتحول إلى قوة مطلقة. قال روسو تعليقا على هذه التطورات في «رسائل من الجبل»، مستعينا هنا بلفظ «الديمقراطية» إشارة إلى صاحب السيادة إنه «حيثما تسود القوة وحدها، تتفكك الدولة. وهكذا ... تنهار الدول الديمقراطية كلها في نهاية المطاف» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث). وإذ خصص روسو «خطاب عن اللامساواة» لجمهورية جنيف التي طبقت مثلا للسيادة الشعبية أكثر عداء للحكومة الاستبدادية من أي دستور آخر لدولة حديثة، شهد روسو في حياته فساد المبادئ التي ربط بها هويته الشخصية. ولقد حولت فكرة التجارة المسالمة التي روج لها دعاة التنوير في جنيف نظاما ديمقراطيا عادلا إلى حكم أقلية حرم أبناء بلده من حقوقهم المدنية؛ ولم تكن التحولات الطارئة على الطبيعة البشرية كتلك التي وصفها روسو من قبل في تاريخه التخميني للبشرية في أي مكان آخر قطنه في العالم أكثر تجليا بشكل واضح في السياق السياسي كما تجلت في بلده.
ولقد سعى المعلقون الأوائل مرارا وتكرارا لتقديم ضمانات ضد تهديدات الاستبداد باستدعاء مبادئ خاصة بالقانون الطبيعي يمكن أن يخالفها الحكام فقط على حساب أرواحهم أو حتى حياتهم، مخاطرين بتعرضهم للقتل أو اندلاع ثورات ضدهم. ومن بين معاصري روسو، فصل مونتسكيو مذهبا لحكم القانون، الذي ظهر أنه كان له تأثير عميق في الفكر الليبرالي الغربي، والذي ميز بين سلطة الملوك ورغبات المستبدين في سياقه، وعزز أيضا فكرته، فيما يتعلق بإنجلترا، عن النظام القضائي المستقل. لكن روسو، الذي اتضح أن إقامته القصيرة في إنجلترا بعد صدور «العقد الاجتماعي» بسنوات قلائل مرهقة لاستقلاله الشخصي إرهاق البرلمان للإنجليز بحسب رأيه، وجد مفهوم مونتسكيو للقانون غير مقنع أيضا. وعلى العكس من النقاد الذين سيخشون لاحقا سوء استغلال سلطات السيادة التي رسمها روسو، فقد آمن بأن الممارسة الحذرة لهذه السلطات من قبل الناس أنفسهم هي الضمانة الوحيدة ضد الاستبداد. وبموجب مبادئ فلسفته السياسية، ما من قوة يمكن ممارستها ضد أشخاص بعينهم في أي دولة من قبل صاحب السيادة نفسه المقيد بطبيعته بحيث لا يقدر على تنفيذ إرادته الخاصة. فهذه المسئولية كانت منوطة بالحكومة وحدها. ولذا فإن الحرية لا يحميها وجود قانون طبيعي شامل أو كيان قضائي مستقل داخل الحكومة، بل يكفل لها الحماية الفصل البنيوي للسلطات، المتصور بشكل مختلف عن منظور مونتسكيو ، بين الحكومة والسيادة.
في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي» زعم روسو أن جروشيوس أعطى شرعية زائفة للعبودية والاستبداد بتقديمه حقيقة محضة على أنها دليل على الحق. وفي الكتاب الخامس من «إميل» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية)، حيث كرر هذا الادعاء، ادعى روسو أن مونتسكيو أخفق كذلك في تناول مبادئ الحق السياسي، واكتفى بدلا من ذلك ب «مناقشة الحق الإيجابي للحكومات القائمة». وأصر روسو على أنه ما من شيء في عالم السياسة يمكن أن يكون أبعد عن الحقيقة أكثر من الحق؛ مما أشعل نزاعا بين الفلاسفة والعلماء أدى إلى انقسام محبيه، وغيرهم، من تلامذة جروشيوس ومونتسكيو حتى يومنا هذا. لكن روسو في «العقد الاجتماعي» كان أيضا تواقا للتعاطي مع حقائق الحياة السياسية، وما يدين به لأسلوب مونتسكيو في تفسير تلك الحقائق كبير. فشأنه شأن مونتسكيو، كان روسو معنيا بالتاريخ الطبيعي للحكومات وتحليل أمراضها، وبالطريقة التي نشأت بها الدول وتوسعت وتفككت؛ وذلك أن «الأمة كجسم سياسي»، بحسب زعمه، «شأنها شأن جسد الإنسان، تبدأ في الاحتضار فور ميلادها، وتحمل في طياتها دواعي انهيارها» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصلان العاشر والحادي عشر). وأقر روسو، سائرا على خطا مونتسكيو أيضا، بأثر العوامل المادية على طبيعة الحكومة ودساتير الدول، ملاحظا، بالإشارة إلى الكتاب الرابع عشر من مؤلف مونتسكيو «روح القوانين»، أن «الحرية ليست ثمرة كل الأقاليم»؛ ومن ثم فهي ليست في متناول كل الشعوب (العقد الاجتماعي، الكتاب الثالث، الفصل الثامن). وبينما أكد على مدى إمكانية تفسير أخلاق الأشخاص في المجتمع المدني بالرجوع إلى القوانين والعوامل السياسية، فقد شدد بالقدر نفسه تقريبا على الطريقة التي تحدد بها الأخلاق القوانين الإيجابية، واصفا قوى العادة والتقليد والإيمان، المحفورة، ليس على الرخام أو النحاس، بل في قلوب المواطنين وكأنها نوع رابع من القوانين (إضافة إلى القوانين السياسية والمدنية والجنائية)، معتبرها «النوع الأهم على الإطلاق منها جميعا» (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل الثاني عشر). وفي «إميل»، أثنى روسو على مؤلف «روح القوانين» تحديدا لتناوله علاقة الأخلاق بالحكومة (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). ورغم الاختلافات الفكرية بين روسو ومونتسكيو، فقد تأثر روسو كثيرا برواية مونتسكيو عن القيود الأخلاقية على التشريع التي تشكل اتجاهه، وتصبغه بروحها. وبينما تدبر في القوانين بحسب ما قد تكون عليه، فقد انشغل في «العقد الاجتماعي»، كما تجلى في عبارته الأولى، بتناول البشر كما هم. ورغم أن حقائق السياسة ومعاييرها شيئان مختلفان، فلا بد أن يتناولهما معا حتى يستطيع تقييم ما هو ممكن في الشئون البشرية، وكذلك ما هو حق. وشأنه شأن مونتسكيو، محص روسو الدساتير من أسسها، في ضوء الأعراف الاجتماعية والتقاليد الشعبية التي تعززها، وبالقدر نفسه من قمتها في سياق المبادئ الأولى.
إن حساسية روسو الواضحة في «العقد الاجتماعي» تجاه العادات المحلية والتقاليد الوطنية، إلى جانب تعلقه بمعايير ما هو حق دوما، جعلاه يحظى بمعجبين في شتى أرجاء أوروبا، وخاصة في الدول التي تكافح الاستعمار الأجنبي، أو التي تسعى للحفاظ على حريتها الطبيعية خلال الحروب الأهلية بعد أن كانت فريسة لقوى خارجية. وعندما دعا البطل الكورسيكي ماتيو بوتافوكو روسو عام 1764 ليكون المشرع الخاص بدولة حرة، التي قال روسو عنها بالفعل إنها مناسبة بشكل متفرد للتشريع، وعندما دعاه الكونت ميشيل فيلهورسكي عام 1770 للتعليق على جهود اتحاد بار البولندي لتحرير بولندا من استبداد روسيا، استجاب روسو في كلتا الحالتين بحماس. وإذ كان حريصا دوما على ألا تبدو كتاباته مثيرة للقلاقل سياسيا، تردد روسو في أخذ زمام المبادرة في الأزمة السياسية التي حلت بمدينته الأم في منتصف ستينيات القرن الثامن عشر، حيث بدا كارها لتقديم الكثير من الدعم للجمهوريين الراديكاليين المحبطين من بين أبناء بلده، الذين احتشدوا رغم ذلك في نهاية المطاف للدفاع عنه ضد الحكومة التي حظرت أعماله. اعترف روسو لتلميذه وكاتب سيرته برناردين دي سان-بيير قائلا: «إنني أتمتع بطبيعة جريئة، ولكن شخصيتي مترددة.» ولما لم يكن جسورا قط لتجاوز أي عراقيل، شأنه شأن باكونين، أو لتوجيه مصير الأحزاب الثورية من غرف اللجان، شأنه شأن ماركس، رفض روسو توريط نفسه مباشرة في الصراعات السياسية في عصره، على الأقل، كما ذكر ذات مرة في رسالة أرسلها إلى كونتيسة وارتنسليبين؛ لأن «حرية البشرية بأسرها لا تبرر إراقة دم إنسان واحد» (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 5450). لكن وضع دساتير بناء على خيال مدني خصب، وهي ما ليست بحاجة لوضعها محل التجربة السياسية، كان بالنسبة إليه مسألة أخرى، أكثر جاذبية.
Неизвестная страница
بالنسبة إلى الكورسيكيين، الذين وضع لهم في عمله «المشروع الدستوري» دستورا لبلدهم، أوصى روسو بتعزيز اقتصادهم القائم على الزراعة بشكل أساسي لأجل تحقيق الاكتفاء الذاتي وليس تحقيق فائض، ومشاركة أراضيهم ومحاصيلهم فيما بينهم والتمتع بهما بالتساوي وباقتصاد قدر الإمكان، وجمع ضرائبها العامة المستحقة بشكل عيني أو عملي بدلا من الشكل النقدي. وبالنسبة للبولنديين الذين أثنى روسو على عشقهم للحرية، أوصى بخطة للتربية تشمل الألعاب والمنح الدراسية الوطنية، والاكتفاء بالمربين البولنديين؛ من أجل جعل الطلاب «أبناء الدولة» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، إضافة إلى خطة للتشريع تتبنى وجود التزام شديد من جانب أعضاء المجلس النيابي الوطني الواحد تجاه ناخبيهم. يشير كل نص من النصين أو يلمح إلى أفكار سبق أن أعرب عنها روسو في «العقد الاجتماعي»، وعمله «حكومة بولندا» يعرض تحديدا مقابلات عديدة بين المجلسين النيابيين البولندي والإنجليزي، وهي التي تأتي دائما في غير صالح مجلس العموم الإنجليزي الذي أثبت إقصاؤه عام 1764 حتى لشخص مثل جون ويلكس، كما هو موضح هنا (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مرة أخرى مدى السيطرة المحدودة التي كان يمارسها الشعب الإنجليزي على برلمانه.
شكل 4-3: صفحة العنوان لكتاب «حكومة بولندا» (1782).
لم ينشر أي من هذين العملين أو ينتشران على نطاق واسع في حياة روسو؛ ولذا لم يكن من الممكن إلقاء اللوم عليه بأي حال لاستحواذ فرنسا الكارثي على كورسيكا (في عام 1769، وهو العام الذي ولد فيه نابليون في أجاكسيو) أو التقسيم الأول لبولندا (في 1772)، في كلتا الحالتين مباشرة بعد أن شرع في الدفاع الدستوري عن حريات مواطني الدولتين. ولا يمكن أن يكون هناك سبب وجيه لمشاركته الهاجس، الذي استحوذ عليه في لحظة من لحظات جنون الاضطهاد الشديدة، بأن الهدف من غزو كورسيكا النيل منه. لكن لعله وبعض أنصاره المعاصرين له، أخطئوا؛ إذ افترضوا أن أفكاره السياسية كمشرع للدول الجديدة لم يكن ليصبح لها أي تداعيات ثورية. وعلى فرض أن البشر يجب التعاطي معهم دوما كما هم، حاج روسو رغم ذلك في «العقد الاجتماعي»، كما فعل من قبل بالضبط في «خطاب عن اللامساواة»، بأن الطبيعة البشرية يمكن أن تتغير. في الفصل الذي يتناول فيه المشرع (العقد الاجتماعي، الكتاب الثاني، الفصل السابع)، ذكر روسو أن مهمة مثل هذا الشخص المميز، الذي يعد المؤسس الحقيقي للأمة أو الدين، تتلخص في تحويل الأشخاص المنعزلين إلى أجزاء من كيان أكبر منهم بكثير يستقي منه المواطنون بعدئذ حياتهم ووجودهم. واقترح روسو أن ليكرجوس من بين القدماء، وكالفين من بين المعاصرين ينطبق عليهما توصيف المشرع، مضيفا إليهما النبي موسى بين اليهود ونوما بين الرومان وذلك في الفصل الثاني من عمله «حكومة بولندا». شغل كل من هؤلاء الرموز مكانة استثنائية في الدولة، على ما يبدو بوازع من وحي رباني، مثل الملك الفيلسوف من وجهة نظر أفلاطون أو الأفراد التاريخيين العالميين بحسب هيجل، ووجهوا الجهال والحيارى نحو فجر جديد لم يكن باستطاعتهم تخيله دون عون خارجي. وفور وصولهم إلى الأرض الموعودة سياسيا، لم يضطلع المشرعون بأي جزء آخر من شئونها، كما لمح روسو بالفعل في «خطاب عن فضيلة البطولية» عام 1751 (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، الذي خطه متأثرا بأفكار استلهمها من كتاب «المنافع» لشيشرون في محاولة للحصول على جائزة أدبية أخرى تقدمها أكاديمية كورسيكا، لكنه تخلى عنه لاحقا. لم تكن وظيفة المشرعين ممارسة الحكم، بل تعزيز تمجيد كل من العقل والعمل للمصلحة العامة بين المواطنين بشكل من أشكال الإغواء السامي، بحسب زعم روسو. إنهم يتظاهرون بأنهم مفسرون للكلمة الإلهية، ويحثون دون إقناع. وهم لا ينتمون للحكومة ولا لصاحب السيادة. لكن شأنهم شأن بروميثيوس؛ إذ أهدى البشرية النار، فهم يجعلون التحول الأخلاقي للبشر ممكنا. إن مثل هذا المجاز، الذي أعاد نيتشه الكاره لروسو صياغته، سيأخذ ليس شكل التوجيه وحسب، بل الطاقة والقوة الإبداعيتين؛ حيث سينتقل إلى مجال يتجاوز معايير الخير والشر المبتذلة للحضارة.
في «العقد الاجتماعي»، قدر لروسو نفسه أن يلهم المشرعين المستقبليين في أواخر القرن الثامن عشر. ففي الفصل الخامس عشر من الكتاب الثالث، لاحظ روسو أن ثمة مؤسستين: المؤسسة المالية والمؤسسة النيابية، كانتا مجهولتين للبشر البدائيين الذين لم تكن لديهم حتى اصطلاحات للتعبير عن مثل هذه الأفكار. ولقد أدت الأولى، التي سماها «كلمة العبودية» وشجبها أيضا باعتبارها بدعة حديثة في كل من عمليه «دستور كورسيكا» و«حكومة بولندا»، إلى نشأة الإلزام بدفع بعض أموالهم - تلك الآفة المهيمنة الناجمة عن المجتمع التجاري، والتي انتقدها بالمثل في «مقالة عن أصل اللغات» - الذي يحث المواطنين على سداد الضرائب، حتى يمكن تعيين الجنود والنواب ليتسنى للمواطنين أنفسهم البقاء بالبيت. أما الثانية التي تمخضت عن فكرة الحكومة الإقطاعية عبر مفهومها الخاص بالسلطة المفوضة كما تتحقق في الأوامر المختلفة الصادرة من مجلس الطبقات العام، ومن بعد ذلك عبر الصلات التعاقدية التي وضع جروشيوس وتلامذته أفكارهم المتعلقة بالسيادة بناء عليها، تبعد بالقدر نفسه الأفراد في العالم الحديث عن واجباتهم العامة كأعضاء بالدولة، حيث إن ذاتها المشتركة أو هويتها المؤسسية تتخذ شكل «هيئة معنوية» لا تعدو كونها المواطنين أنفسهم يعملون بشكل جمعي، وذلك بحسب زعمه في الفصل السادس من الكتاب الأول، والفصل الرابع من الكتاب الثاني. إن الحرية المدنية، التي تقيدها وحسب الإرادة العامة، والحرية الأخلاقية، بحسب تجليها في استقلال المواطنين أو إذعانهم للقوانين التي يلزمون أنفسهم بها، في المقابل مبادئ عتيقة؛ فالأولى مبدأ روماني والثاني مبدأ يوناني، استبعد تعريفهما الذي أورده روسو في الفصل الثامن من الكتاب الأول من «العقد الاجتماعي» كلا من المؤسستين المالية والنيابية.
رغم سعي المشرعين القدماء إلى إقامة صلات من شأنها ربط المواطنين بدولتهم وبعضهم ببعض، فقوانين الأمم الحديثة تسعى فقط لإخضاع المواطنين للسلطة، وبذلك فإنها تقصي سعينا وراء الحرية من النطاق العام وتزج به في النطاق الخاص. تساءل روسو في «رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح» أين اليوم «التوافق بين المواطنين»؟ أين «الإخاء العام» (الأعمال الكاملة، المجلد الخامس؛ السياسة والفنون: رسالة إلى السيد دالمبير عن المسرح)؟ في «حكومة بولندا» بالمثل، دعا روسو الشباب البولنديين لإعادة إذكاء «روح المؤسسات القديمة» (الذي هو عنوان الفصل الثاني لهذا العمل) كي يعتادوا على «المساواة» و«الإخاء» (الفصل الرابع: الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، كمواطنين بدولة حرة حقا. وبينما كانت الحرية مرتبطة قبل ذلك بالمساواة والإخاء، دمرت المؤسسة النيابية الإخاء، وأهدرت المؤسسة المالية المساواة، بحسب ظن روسو، بحيث إنها أمست فعليا في العالم الحديث، بعد انقطاعها عن صلاتها القديمة، لا تعني شيئا أكثر من السعي وراء المنافع الشخصية.
وبالربط بهذه الطريقة بين أفكار الحرية والمساواة والإخاء، قد يبدو أن روسو بشر بثورة فرنسية مرتقبة، حتى وإن كان يتحدث عن عالم بائد. ويرجع جانب كبير من تقديره للحرية الجمهورية القديمة إلى مؤلف مكيافيللي «نقاشات»، لكن في أعماله أشعل هذا التقدير حماسا جديدا من جانبه، بما أنه على النقيض من مكيافيللي افترض أن الطبيعة البشرية كانت عرضة دائما للتغيير، وبينما تعرضت للفساد، كان بالإمكان رغم ذلك تحسينها، على الأقل نظريا. «لنستخلص من الشر نفسه الدواء الذي ينبغي أن يداويها»، هكذا صرح روسو في الفصل الثاني من الكتاب الأول من «مخطوطة جنيف» (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى)، مضيفا بعدها ببضع سنوات في الكتاب الثالث من «إميل» أننا «شارفنا على حالة الأزمة ودنونا من عصر الثورات.» وقال أيضا: «أعتقد أنه من المستحيل أن تصمد الممالك العظيمة لأوروبا لفترة أطول» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). لم يكن من المقصود الإعراب عن أي تحذير سياسي في هذا الزعم الذي أعلن عنه بقوة مماثلة غيره من رموز عصره الذين تمنوا عدم حدوث ثورات في العالم المتحضر. لكن، إذا كان روسو نفسه قد تاق لمستقبل سياسي متغير بالكامل للبشرية، وفي الوقت نفسه لم يعلق آمالا عريضة على ذلك، فإن مبادئ «العقد الاجتماعي» لاقت تقديرا عظيما خلال مسار الثورة الفرنسية وكأنها شكلت الوصايا العشر لجمهورية فرنسا الجديدة.
ولقد أقر بذلك لوي سباستيان ميرسييه الذي يرجع عمله «روسو، كأحد أوائل كتاب الثورة» إلى عام 1791، وكذلك بيرك الذي أدان في عمله «رسالة إلى عضو بالمجلس الوطني» في العام نفسه «سقراط المجنون» الذي ألهم إحياء مدمرا بالمرة لأخلاق البشر، والذي كان حينئذ مثالو باريس يصوغون تماثيلهم تخليدا لذكراه «بقدور الفقراء وأجراس الكنائس». إن النقاشات الثورية التي أفضت إلى تأسيس المجلس الوطني الفرنسي في يونيو 1789 دارت بقدر كبير حول مسائل المساءلة العامة التي أصر عليها روسو في «حكومة بولندا» لضمان شعور نواب البرلمان البولندي بالالتزام تجاه تفويض ناخبيهم لهم بالتعبير عن إرادة الشعب (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث؛ العقد الاجتماعي وكتابات سياسية متأخرة أخرى). وبينما فرض الأب سيياس وغيره من أنصار التمثيل النيابي غير المقيد رأيهم على النواب الذين وافقوا على وجهات النظر هذه، كانت جاذبية مبادئ روسو بشكل عام قوية للغاية طوال مسار الثورة الفرنسية لدرجة أنه في عام 1801، وبعد 12 عاما من التحولات السياسية الكبرى على الإطلاق في العالم الحديث، نشرت مجلة جازيت دي فرانس أن «العقد الاجتماعي» كان كتاب الحياة الذي أدى إلى وقوع هذه الأحداث وأنار لها الطريق. حتى صعود نجم نابليون بونابرت، الذي لم يخف عليه إشادة روسو بكورسيكا في ذلك النص، ألهم إصدار طبعة جديدة من ذلك العمل مهداة إلى الرجل الذي أمسى أبرز مواطني فرنسا، وكأن إشاراته المرجعية للإرادة العامة كان يراد بها في واقع الأمر إرادة الجنرال. لم يكن هناك أي مفكر سياسي آخر، قديما كان أو حديثا، في تلك الفترة يحظى بتوقير كذلك الذي حظي به روسو، وفي عام 1794، بعد فترة الإرهاب الثوري، أخرج رفاته من قبره بجزيرة بوبلرز بإيرمنوفيل، ونقلت إلى مقبرة العظماء بباريس حيث توج وسط احتفالات مهيبة بطلا للأمة التي كره سياستها وثقافتها ودينها أكثر من أي شيء، والأدهى من ذلك ، تأبيدا لعذابه، أنه دفن قبالة فولتير.
ولكن في عام 1762، لم يكن روسو ليتوقع حدوث مثل ذلك التقدير. فعندما ظهر «العقد الاجتماعي» إلى النور، تسبب في فضيحة فورية، وحظر توزيعه في فرنسا، واضطر روسو إلى الفرار من البلد خشية أن يزج به في السجن، ليجد الطريق أمامه مسدودا إلى جنيف نظرا للغضب العام المماثل الذي ماجت به المدينة. ورغم ذلك، لم تكن أفكاره عن الحرية أو السيادة هي التي أثارت القلاقل الحقيقية آنذاك. فقد نظر إليه أنه خطر على النظام المدني خاصة لأن الفصل قبل الأخير من «العقد الاجتماعي» الذي تناول الدين المدني، إضافة إلى أفكار شبيهة في كتاب «إميل» الذي نشر تقريبا في الفترة نفسها، عدت تجديفا، فاعتبر نظامه السياسي بناء على ذلك مجرما ومحرضا على الفتنة والشقاق فقط بسبب إساءته للمسيحية.
شكل 4-4: قبر روسو بجزيرة بوبلرز، من نقش لمورو الأصغر.
الفصل الخامس
Неизвестная страница
الدين والتربية والجنس
أشار روسو في الفصل الثامن من الكتاب الرابع من «العقد الاجتماعي» أنه في العصور القديمة الوثنية، كان لكل دولة آلهتها، وأن سلطة آلهتها تحددها حدود الدولة السياسية. لكن اليهود أولا ومن بعدهم المسيحيون قدسوا إلها مملكته ليست على هذه الأرض، إلها أخفقت سطوته الدنيوية أحيانا في مضارعة هيمنته الروحانية؛ مما أدى إلى انقسام بسبب فصله النظام اللاهوتي عن النظام السياسي في الدولة. وإذ وسع الرومان عقيدتهم مع اتساع رقعة إمبراطوريتهم، فقد شكوا في عدم الاكتراث بالسياسة الذي أبداه المسيحيون الروحانيون، وخوفا من ثورتهم عليهم في نهاية المطاف، فقد قاموا باضطهادهم. ولاحظ روسو أنه في الوقت المناسب تخلى المسيحيون حقا عن خضوعهم، وشددوا على حقهم في السيطرة على الجوانب الدنيوية، فأسسوا أعنف الدول الاستبدادية على الإطلاق في العالم الحديث. في عصر روسو، حدث خلط بين الهويات السياسية والدينية في كل مكان، حتى بين المسلمين، لدرجة أن «الروح المسيحية سادت تماما». وحيثما اكتسب رجال الدين سلطة مؤسسية، كانوا يسعون إلى بسط نفوذهم على الأمراء بموجب الأحكام التي تفرضها مكاناتهم المقدسة، ومن خلال حقوق الحرمان الكنسي التي يتمتعون بها، بينما في إنجلترا وروسيا في المقابل، جعل الأمراء أنفسهم سادة على الكنيسة مخاطرين بإحداث شقاق مماثل محفوف بالمخاطر بين الادعاءات المقدسة والدنيوية للسيادة. أدرك هوبز وحده بين الكتاب المسيحيين مثل هذه المخاطر التي تتهدد السلام المدني، وكان على حق إذ اقترح وضع السلطة الدنيوية والدينية في يد واحدة. لكنه أخفق في أن يضع في الحسبان الأخطار التي تمثلها المسيحية على نظامه، وحقيقة، أيا كانت الجهة المحصورة فيها السلطة، فإن المصلحة الخاصة لأي حاكم ستراعيها حكومته أكثر بكثير من المصلحة العامة للدولة.
بعد هذه التأملات حول تقويض المسيحية للأسس المقدسة للسلطة المدنية، ميز روسو بين ثلاثة أنواع أساسية للمعتقد الديني في بعده الاجتماعي: دين الإنسان، ودين المواطن، ودين القس. يقوض النوع الأول، وهو دين الإنجيل البسيط، أي ولاء للدولة، أما الثاني، بمزجه بين العبادة الإلهية وحب القانون، فيصيب الناس بالسذاجة والتعصب، أما الثالث، بإخضاع الناس لالتزامات متضاربة تجاه الكهنوت والحكومة الأميرية، فيغرس الشقاق بين المرء وذاته وبينه وبين جيرانه. وكل من هذه الأنواع مضر للدولة ككيان سياسي، بحسب استنتاج روسو، وما من نوع أكثر ضررا من النوع الأول الذي يفترضه الآخرون، وهم واهمون في افتراضهم، أفضل نوع على الإطلاق نظرا لمعتقداته المجمعة وصلاحه العميق. وحقيقة الأمر أن مجتمعا من المسيحيين الحقيقيين سيتسم بالكمال الروحاني الشديد لدرجة أن أعضاءه لن يكترثوا كثيرا بالنجاح أو الفشل الدنيوي. وسيؤدي المواطنون واجباتهم باعتبارها نوعا من الإذعان الديني وحسب، وهدفهم هو ضمان خلاص أرواحهم وحسب. تساءل روسو كيف يمكن لجمهورية مسيحية مواجهة المحاربين الوطنيين لأسبرطة أو روما «المفعمين بحب المجد وعشق بلادهم»؟ كيف يمكن حقا لجمهورية حقيقية أن تكون مسيحية إذا كان «المسيحيون الحقيقيون يتحولون إلى عبيد»، وإذا كانت عقيدتهم أكثر انقيادا للاستبداد منها إلى السعي وراء المصلحة العامة؟
فلكي تستقي الدولة قوة حقيقية من أعضائها، يجب أن تقوم على عقيدة تجعل كل مواطن يعشق واجبه دون التطفل على معتقداته بشرائع وطقوس وتعاليم. ويجب أن تطلب الدولة من رعاياها اعتناق دين مدني بحت، يفرضه صاحب السيادة فقط لإثارة المشاعر العامة للارتباط الاجتماعي، وينبغي أن تضم عقائده وحسب وجود إله قاهر لبيب وخير، وقداسة العقد الاجتماعي والقانون، وتحريم التعصب. وبما أن الإيمان ليس بحد ذاته عرضة للإجبار، فليس بمقدور صاحب السيادة إلا أن يقصي من أراضيه كل الذين يهدد تعصبهم تجاه الآخرين لا محالة نسيج المجتمع. وقد يسمح حتى صاحب السيادة بإعدام الذين يخونون يمين ولائهم المدني؛ أي الذين يحنثون بأيمانهم ويبدون استعدادهم لمخالفة القانون، ومن ثم استعدادهم لا لارتكاب المعاصي بل لغرس بذور الفتنة، بحسب تأكيد روسو أكثر ما يكون في ملاحظاته على الموضوع نفسه في رسالته إلى فولتير عن العناية الإلهية عام 1756 (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 424)، متنبئا بتلك الفكرة التي سيذكرها لاحقا في «العقد الاجتماعي». وذهب روسو إلى أن التعصب الديني من شأنه أن تكون له تبعات سياسية مشئومة. وفي ملاحظة أرفقها بالفصل قبل الأخير لهذا العمل، التي ربما حاول روسو أن يكبتها بدافع الحذر غير المعتاد، حتى أثناء طباعة عمله، شكا روسو من التهديد الذي يحدق بأسس الدولة نفسها، في تنظيمها للمناصب العامة والمواريث الخاصة، بسبب السيطرة الدينية على عقود الزواج المدنية. إن الفقرة المقابلة في «مخطوطة جنيف» أكثر وضوحا في هجومها على التعصب الذي تعرض له البروتستانتيون في فرنسا إثر إلغاء مرسوم نانت عام 1685، وتشريع عام 1724 الذي فرض ضرورة حصول الزيجات والتعميدات البروتستانتية على المباركة الكاثوليكية. ونظرا لأن البروتستانتيين في فرنسا لم يكن يمكنهم الزواج دون ترك دينهم، فإنه كان يتم التسامح معهم وحظرهم في الوقت نفسه، بحسب زعم روسو، وكأن السياسة الرسمية تقضي بأنه ينبغي عليهم العيش والموت في إطار علاقة زوجية محرمة، وإنجاب أطفال غير شرعيين محرومين من ممتلكاتهم. انتهى روسو إلى أنه «من بين جميع الطوائف المسيحية، البروتستانتيون هم الأكثر حكمة ورقة ومهادنة ومخالطة للآخرين.» وهي الكنيسة المسيحية الوحيدة التي تسمح بسيادة حكم القانون وسلطة القوى المدنية (الأعمال الكاملة، المجلد الثالث).
وإذ شدد روسو على عدم ملاءمة الكاثوليكية الرومانية باعتبارها دينا للدولة، فإن دعوته للتسامح في «العقد الاجتماعي » تشبه بعض الشيء «رسالة عن التسامح» للوك التي خطها عام 1689، ولو أن عرض فصله للعلاقات الداعمة سياسيا التي يخلقها مشرعو الجمهوريات القديمة يدين بقدر أكبر بعض الشيء إلى كتاب «القوانين» لأفلاطون، والأهم من ذلك «نقاشات» مكيافيللي الذي وجد بالمثل الدين المدني لروما أكثر جاذبية بكثير من طائفة المسيحية الرومانية لمدينة الرب. لم يبهر أي مفكر حديث روسو كما أبهره مكيافيللي، لا لعشقه للحرية وحسب، بل وأيضا لفهمه الثاقب لمكانة الدين في الشئون العامة. ولكن، على الأقل بقدر ما كان التشابه بينهما شديدا، كذلك كان الاختلاف الأساسي بين فلسفتهما المتعلقة بالدين؛ فبينما استحسن مكيافيللي العقيدة الدينية؛ لأنها تعزز وطنية المواطنين، كان روسو أيضا منشغلا بشغف بطبيعة المعتقد الديني. وعلى النقيض من مكيافيللي، فقد رأى روسو في حياة المسيح والمثال الذي ضربه إلهاما، وكذلك الإنجيل وتعاليم بعض الحواريين على الأقل. ولقد حار وراودته التساؤلات حيال مكانته في عالم الرب، تلك المكانة التي أرقت القديس أوغسطين الذي سيتردد صدى كتابه «اعترافات»، في كتاب روسو الخاص بسيرته الذاتية ولكن بلغة جديدة. إذا كان روسو في استيعابه للآثار السياسية للدين واقعا بوضوح تحت تأثير مكيافيللي، ففي معتقداته الدينية نفسها، وفي تصوره للرتب الكهنوتية والكنائس، كان روسو بالقدر نفسه ابنا لحركة الإصلاح الديني البروتستانتية. في المجتمع الفكري (جمهورية الآداب) العلماني نسبيا بالفعل لأوروبا الغربية، كان روسو متفردا تقريبا في حدة معتقداته الدينية. وبينما لم يؤمن بالسقوط الأصلي للبشر من الجنة، فقد صور «خطاب عن اللامساواة» و«مقالة عن أصل اللغات»، وكذا عدد من الأعمال الأصغر حجما صناعة الخطيئة طوال التاريخ البشري بأسلوب يقدم بوضوح عرضا حديثا لنزولنا من الجنة وإقامتنا لمدينة بابل في سفر التكوين، بينما سارت ملاحظاته حول المشرعين وإنشاء الدول الحديثة بدورها في «العقد الاجتماعي» و«حكومة بولندا» وغيرهما من أعمال على نهج سفر الخروج. وشأنه شأن عالم اللاهوت المسيحي بلاجيس، كان روسو مقتنعا بالخيرية الجوهرية للطبيعة البشرية بالشكل الذي خلقها الرب عليه. وشأنه شأن أبلارد، الذي صاغ روسو أكثر الروايات الفرنسية نجاحا في القرن الثامن عشر حول حبه المحرم لإلواز، اقتنع روسو بقوة العقل في فهم مغزى الرب. وشأنه شأن باسكال، فقد أضاء نور داخلي عميق الطريق لإيمان روسو الراسخ في غمرات عالم مضطرب.
فيما خلا شغفه بالموسيقى، لم يؤثر موضوع في نفس روسو بعمق كما أثر حبه للرب. فقد شكل فكرة ثابتة في كتاباته، بداية من الصلوات التي خطها في شبابه حوالي عام 1739 عندما كان واقعا تحت الأثر الكاثوليكي للسيدة دي وارين، وحتى دفاعه عن عقيدته البروتستانتية ضد منتقديه في عمله «رسائل من الجبل» عام 1764، وانتهاء بالدين الطبيعي الوارد في عمله «أحلام يقظة جوال منفرد» الذي كتبه عام 1777 قرابة نهاية حياته، والذي صور فيه إحساسه المكتفي بذاته بالكامل بوجوده وكأنه الإحساس الخاص بالرب (الأعمال الكاملة، المجلد الأول؛ أحلام يقظة جوال منفرد). كما لم يحظ أي موضوع آخر بتعليقات أكثر وفرة في مراسلاته الضخمة، وخاصة في رسالته الثالثة المؤرخة بتاريخ 26 يناير 1762 إلى مدير النشر، ماليزيرب (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 1650)، وفي أخرى بتاريخ 15 يناير 1769 إلى لوران إيمون دو فرانكييه (المراسلات الكاملة، الرسالة رقم 6529)، احتفى روسو بإخلاصه لعقيدته الباعث على البهجة؛ في الأولى: بالانتشاء لوجود كيان مقدس يجعله امتلاكه لعجائب الطبيعة اللانهائية في حالة سعادة غامرة؛ وفي الثانية: عبر تأملات في المشاعر الداخلية التي ينجذب من خلالها الأفراد بتلقائية لكل من الرب والحقيقة، وفي الشر الذي نتحمل نحن وحدنا مسئوليته إذ نسيء استغلال إمكاناتنا. لكن مفهوم روسو عن الرب لم يتم التعبير عنه بالكامل وبأكبر قدر من البلاغة كما في قسم طويل من «إميل»، بعنوان «عقيدة كاهن سافوي». وقبل ذلك في عام 1761، في نهاية روايته «إلواز الجديدة»، أعلنت بطلة رواية روسو على فراش الموت بعد أن أنقذت حياة ابنها من الغرق عن عقيدة امرأة عاشت معتنقة «المذهب البروتستانتي الذي يستقي أحكامه فقط من الكتاب المقدس ومن العقل» (الأعمال الكاملة، المجلد الثاني؛ جولي أو إلواز الجديدة). لكن هوية جولي كانت خيالية وحسب، وأجاز لها مبتكرها أن تعبر عما تؤمن به. وفي «إميل»، تحول هذا الإعلان عن العقيدة الدينية ليكون على لسان كاهن مبعد (والذي رسمه روسو على غرار قسين كان يعرفهما في شبابه)، وذلك على منحدرات خارج إحدى المدن التي تشرف على جبال الألب والذي ينقله لشاب نازح، وذكر روسو أن قصة هذا الشاب هي قصته هو شخصيا، ضاربا مثلا للتلميذ الذي هو الشخصية الرئيسية داخل العمل، ولقراء العمل كلهم باعتباره «موعظة الجبل» (إشارة لموعظة الجبل الخاصة بالمسيح المذكورة في إنجيل متى التي تعد عظة جامعة) الخاصة بالمؤلف.
شكل 5-1: ورقة من «مخطوطة فافر» لقسم «عقيدة كاهن سافوي» من كتاب «إميل».
ينقسم «عقيدة كاهن سافوي» إلى جزأين يتخللهما الظهور المتكرر لروسو بشخصه كراو ومعلم لإميل، عارضا ردة فعل إميل الصبيانية للتبصر السامي للكاهن عندما رأى عالما آخر، وهو الذي يشبه ذلك الذي لمحه روسو في الواقع خلال رحلته لزيارة ديدرو في سجن فانسين. وفي الجزء الأول، وصف روسو ازدواجية الطبيعة البشرية، وقصور الإحساس، وضرورة وجود رب مسير لحركة كل الأشياء وحكيم، والمسئولية التي يتحملها البشر وحدهم عن الشر الذي يقومون به، وقدرتهم على نيل السعادة والتحلي بالفضيلة. وفي الجزء الثاني، هاجم روسو الإيمان بالمعجزات والعقائد الجامدة، والادعاءات المتعصبة للكنائس الطائفية بالسلطة العالمية عبر الكتاب المقدس والأسرار التي تتعارض مع العقل. ويقدم لنا الجزء الأول، المصمم لدحض تشكك ومادية بعض أبرز المفكرين المعاصرين لروسو، رؤية روسو للدين بما يتفق مع الفطرة، ويطرح الجزء الثاني، إذ يهاجم التعصب والخرافات أكثر من أي شيء آخر الخاصة بالكاثوليكية الرومانية، نقد روسو للدين بتصوره كوحي.
في الكتاب الرابع من «مقالة عن الفهم البشري» (الفصلان الثالث والسادس)، زعم لوك أنه من المتصور على الأقل أن الرب، إن شاء، يستطيع «أن يعطي» للمادة ملكة التفكير، وبذلك يضخ الحياة في الجزيئات عديمة الإحساس بقدرة التفكير. وفي الفصل المخصص لاحقا ل «معرفتنا بوجود الرب» (الكتاب الرابع، الفصل العاشر)، الذي يتنبأ في واقع الأمر ببعض حجج روسو، أصر لوك على أنه يستحيل أن تحفز المادة وحدها أبدا للتفكير، وأغلب تعليقاته حول الموضوع وضعت من أجل الرد على مزاعم الماديين، ولا سيما أنصار سبينوزا المعاصرين له الذين أكدوا ما أنكره. لكن اقتراحه أنه من خلال إرادة الرب يجوز حمل المادة على التفكير أثار الكثير من الاعتراضات من جانب علماء اللاهوت والفلاسفة في أوائل القرن الثامن عشر، أغلبهم ربط ما بين هذا الزعم واعتقاد لوك الإضافي في القسم نفسه من عمله أن حقائق الأخلاق والدين لا تعتمد على لامادية الروح. وعلق فولتير على حجة لوك في عمله «رسائل فلسفية» عام 1734، واستلهم الماديون الفرنسيون في منتصف القرن الثامن عشر، بمن فيهم موبيرتوي ولاميتري، أفكارهم منه؛ حيث أكد البعض (مثل ديدرو) على القابلية للاستجابة أو النشاط الداخلي للمادة الطبيعية، وحصر البعض الآخر (مثل دولباك) الواقع بأكمله في العالم المادي وحده، وبذلك اعتبروا المادة الروحية، ويراد بها الروح، وحتى الرب، وهمية. في «مبحث في الأحاسيس» عام 1754، حاول كوندياك بناء نظرية عن تشكل الذكاء البشري من التجربة الحسية البحتة؛ بينما في مقالة بعنوان «الدليل»، ربما خطها فرنسوا كيناي، ونشرت في المجلد السادس من «الموسوعة» عام 1756، طرحت حجة مماثلة لبيان أن الحكم صادر عن الحس؛ وفي عام 1758، في «عن الروح»، الذي كان صادما للكنسية وأثار الغضب العام أكثر مما فعل «إميل» لاحقا، جعل هلفتيوس التماهي ما بين الحكم والحس حجر أساس عمله كله. يمثل اقتراح لوك بأن المادة يمكن حملها على التفكير وافتراض هلفتيوس أن مصدر الحكم هو الحس، معا الركيزة الأساسية للنقد ونقطة الانطلاق المحورية لدليل روسو على وجود الرب في قسم «عقيدة كاهن سافوي» من كتاب «إميل».
وفي ذلك القسم (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية) وكذا في رسالة لاحقه له إلى السيد فرانكييه (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع)، استنكر روسو افتراض المادة المفكرة باعتباره «سخافة حقيقية، بغض النظر عما يقوله لوك عنه.» وزعم الكاهن أنه ليس بالإمكان حث المادة على التفكير؛ وذلك لأنه ما من حركة تتعرض لها المادة يمكن أن تساعدها على التدبر والتفكير. وعلى العكس من هلفتيوس تحديدا، أكد روسو أن الأحكام التي يصدرها الناس لا تنبثق من حسهم؛ وذلك لأنه بينما يمكن أن تطبع الأشياء نفسها على حواسنا السلبية، فلا يمكن أن تتشكل لدينا انطباعات تلقائية للعلاقة بين الأشياء. وما لم نصغ أحكامنا باعتبارنا فاعلين مسئولين بوعي منا عن تفسير خبرتنا، فلن يستقيم أبدا أن نقع في أخطاء أو نتعرض للتضليل ما دامت حواسنا ستعكس دوما الحقيقة؛ ولذا، تخفق فلسفة هلفتيوس في أن تمنحنا «شرف التفكير» (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية). والماديون جانبهم الصواب؛ لأنهم لا ينصتون إلى الصوت الداخلي الذي أقنع روسو بأن إحساسه بوجوده الشخصي لا يمكن أن ينشأ بفعل مادة غير منظمة، لا تملك بطبيعتها ملكة إنتاج الفكر التي يجب أن تنشأ من باعث يتحرك في حد ذاته، أو فعل طوعي أو تعبير تلقائي عن الإرادة. هذه، كما زعمت الأنا الأخرى لروسو، هي الركن الأول لعقيدته (الأعمال الكاملة، المجلد الرابع؛ إميل، أو عن التربية).
Неизвестная страница