تقديم
المقدمة
الشخصيات
البرولوج1
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
تقديم
Неизвестная страница
المقدمة
الشخصيات
البرولوج1
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
روميو وجوليت
روميو وجوليت
Неизвестная страница
تأليف
ويليام شيكسبير
ترجمة
محمد عناني
تقديم
على نحو ما أذكر في كتابي «فن الترجمة» - وما فتئت أردد ذلك في كتبي التالية عن الترجمة - يعد المترجم مؤلفا من الناحية اللغوية، ومن ثم من الناحية الفكرية؛ فالترجمة في جوهرها إعادة صوغ لفكر مؤلف معين بألفاظ لغة أخرى، وهو ما يعني أن المترجم يستوعب هذا الفكر حتى يصبح جزءا من جهاز تفكيره، وذلك في صور تتفاوت من مترجم إلى آخر، فإذا أعاد صياغة هذا الفكر بلغة أخرى، وجدنا أنه يتوسل بما سميته جهاز تفكيره، فيصبح مرتبطا بهذا الجهاز. وليس الجهاز لغويا فقط، بل هو فكري ولغوي؛ فما اللغة إلا التجسيد للفكر، وهو تجسيد محكوم بمفهوم المترجم للنص المصدر، ومن الطبيعي أن يتفاوت المفهوم وفقا لخبرة المترجم فكريا ولغويا. وهكذا فحين يبدأ المترجم كتابة نصه المترجم، فإنه يصبح ثمرة لما كتبه المؤلف الأصلي إلى جانب مفهوم المترجم الذي يكتسي لغته الخاصة؛ ومن ثم يتلون إلى حد ما بفكره الخاص، بحيث يصبح النص الجديد مزيجا من النص المصدر والكساء الفكري واللغوي للمترجم، بمعنى أن النص المترجم يفصح عن عمل كاتبين؛ الكاتب الأول (أي صاحب النص المصدر)، والكاتب الثاني (أي المترجم).
وإذا كان المترجم يكتسب أبعاد المؤلف بوضوح في ترجمة النصوص الأدبية، فهو يكتسب بعض تلك الأبعاد حين يترجم النصوص العلمية، مهما اجتهد في ابتعاده عن فكره الخاص ولغته الخاصة. وتتفاوت تلك الأبعاد بتفاوت حظ المترجم من لغة العصر وفكره؛ فلكل عصر لغته الشائعة، ولكل مجال علمي لغته الخاصة؛ ولذلك تتفاوت أيضا أساليب المترجم ما بين عصر وعصر، مثلما تتفاوت بين ترجمة النصوص الأدبية والعلمية.
وليس أدل على ذلك من مقارنة أسلوب الكاتب حين يؤلف نصا أصليا، بأسلوبه حين يترجم نصا لمؤلف أجنبي؛ فالأسلوبان يتلاقيان على الورق مثلما يتلاقيان في الفكر. فلكل مؤلف ، سواء كان مترجما أو أديبا، طرائق أسلوبية يعرفها القارئ حدسا، ويعرفها الدارس بالفحص والتمحيص؛ ولذلك تقترن بعض النصوص الأدبية بأسماء مترجميها مثلما تقترن بأسماء الأدباء الذين كتبوها، ولقد توسعت في عرض هذا القول في كتبي عن الترجمة والمقدمات التي كتبتها لترجماتي الأدبية. وهكذا فقد يجد الكاتب أنه يقول قولا مستمدا من ترجمة معينة، وهو يتصور أنه قول أصيل ابتدعه كاتب النص المصدر. فإذا شاع هذا القول في النصوص المكتوبة أصبح ينتمي إلى اللغة الهدف (أي لغة الترجمة) مثلما ينتمي إلى لغة الكاتب التي يبدعها ويراها قائمة في جهاز تفكيره. وكثيرا ما تتسرب بعض هذه الأقوال إلى اللغة الدارجة فتحل محل تعابير فصحى قديمة، مثل تعبير «على جثتي
over my dead body » الذي دخل إلى العامية المصرية، بحيث حل حلولا كاملا محل التعبير الكلاسيكي «الموت دونه» (الوارد في شعر أبي فراس الحمداني)؛ وذلك لأن السامع يجد فيه معنى مختلفا لا ينقله التعبير الكلاسيكي الأصلي، وقد يعدل هذا التعبير بقوله «ولو مت دونه»، لكنه يجد أن العبارة الأجنبية أفصح وأصلح! وقد ينقل المترجم تعبيرا أجنبيا ويشيعه، وبعد زمن يتغير معناه، مثل «لمن تدق الأجراس»
for whom the bell tolls ؛ فالأصل معناه أن الهلاك قريب من سامعه (
Неизвестная страница
It tolls for thee )، حسبما ورد في شعر الشاعر «جون دن»، ولكننا نجد التعبير الآن في الصحف بمعنى «آن أوان الجد» (المستعار من خطبة الحجاج حين ولي العراق):
آن أوان الجد فاشتدي زيم
قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم
ولا بجزار على ظهر وضم
فانظر كيف أدت ترجمة الصورة الشعرية إلى تعبير عربي يختلف معناه، ويحل محل التعبير القديم (زيم اسم الفرس، وحطم أي شديد البأس، ووضم هي «القرمة» الخشبية التي يقطع الجزار عليها اللحم)، وأعتقد أن من يقارن ترجماتي بما كتبته من شعر أو مسرح أو رواية سوف يكتشف أن العلاقة بين الترجمة والتأليف أوضح من أن تحتاج إلى الإسهاب.
محمد عناني
القاهرة، 2021م
المقدمة
1
Неизвестная страница
هذه هي المسرحية الرابعة في سلسلة شيكسبير العربية التي تصدرها هيئة الكتاب، بعد تاجر البندقية (1988م) ويوليوس قيصر (1991م ) وحلم ليلة صيف (1992م) وقد كنت بدأت هذا النص الشعري في العام الماضي ودعوت الله أن يمد في عمري حتى يكتمل وحتى أحقق حلم ترجمة الروائع التي عاشت في وجداني منذ الصغر كيما أتدارك النقص الذي تعانيه مكتبتنا العربية في هذا الباب بصفة خاصة، على كثرة (الترجمات) و(التلخيصات) التي تتوافر في أسواق البلدان العربية، والتي لم يتوفر عليها المتخصصون ولم يقيض لها من يلتزم الأمانة (قدر ما تسمح به المضاهاة بين اللغتين) ولا أقول من يتسلح بالعلم الكافي بلغة شيكسبير وفنونه الشعرية ويتيسر له ما يلزم من الإحاطة بفنون اللغة العربية، أعرق لغات الأرض قاطبة.
قلت بدأت هذا العمل في العام الماضي ثم قعد بي مرض عياء، رأيت معه أضواء الأبدية، ويعلم الله أنني ما عرفت الإشفاق ولا الوجل بل كثيرا ما شعرت باطمئنان دفين، وأنا أرجع البصر إلى ما قدمت يداي من عمل رمت فيه إعلاء شأن العربية، ونقل عيون آداب الإنسان إليها، وأرجعت البصر كرتين فما ازددت إلا إيمانا بالرسالة التي نذرت نفسي لها، وعاهدت الله إن هو من علي بالشفاء أن أعود إلى النص فأستكمله، والحمد لله الذي أسبغ علي هذه النعمة وترفق بي وأمهلني - بل أرجعني إلى الحياة - حتى أشكر ولا أكفر. وها هي الترجمة الكاملة مذيلة بالحواشي اللازمة ومسبوقة بهذه المقدمة الموجزة.
ولسوف أقتصر في هذه المقدمة على شيئين؛ الأول: من مشكلات الترجمة التي لم أتعرض لها في مقدماتي السابقة، ولا في كتابي الصغير فن الترجمة (لونجمان، 1992م) ألا وهو ما يسمى بترجمة «النغمة»
TONE . والثاني: هو تصنيف المسرحية من حيث كونها مأساة بالمعنى القديم أو بالمعنى الشيكسبيري الخاص. وكنت تعرضت لبعض مشكلات الترجمة في النص الغنائي، الذي أعددته للتقديم على المسرح عام 1985م وطبع في القاهرة (دار غريب، 1986م) وهو نص مختصر شأنه شأن كل ما يقدم على المسرح من روائع شيكسبير، وقلت في بداية تلك المقدمة إن النص المذكور يمثل صورة وحسب، وهي بعد صورة ناقصة ولا تمنع ظهور صور أخرى للمسرحية التي شغلت قلوب القراء وجمهور المسرح زهاء أربعة قرون! كما كنت كتبت مقدمة في صدر شبابي عام 1965م عندما أقدمت على ترجمة النص نثرا لأول مرة بحماس الشباب ونزقه، والصورة النثرية بعد صورة أخرى - إن كانت تقترب في عدد سطورها من النص الأصلي فهي تبتعد عنه في روحها وفي معناها «الشعري» الذي لا يكتمل إلا بالنظم. وربما كان ذلك يمثل المدخل الصحيح لما أسميته ب «النغمة» - تفريقا لها عما اعتدنا الإشارة إليه باسم «النبرة» فالنبرة قد توحي بالنبر إما بمعنى الضغط على مقاطع الكلمات أو استخدام الهمزة محل حرف العلة (نبيء بدلا من نبي) في بعض لهجات العرب (إبراهيم أنيس، اللهجات العربية).
أما «النغمة» فتعني باختصار «موقف» الشاعر من المادة الشعرية: هل هو جاد أو هازل؟ وإذا امتدح شخصا - فهل هو يسخر منه أم يعني ما يقول؟ وهل يقصد المبالغة
Overstatement
حين يبالغ أم يتعمد «التضخيم» و«التفخيم» لكي يفرغ الكلمات من معناها؟ وهل يقصد «المخافضة» (
Understatement ) حين يقتصد في القول أم يفعل ذلك دون وعي بهدف بعيد؟ وكيف نستطيع أن نصدر أحكاما على «النغمة» حين يمزج «القائل» بين الأشكال البلاغية الجامدة والأشكال الحديثة؟ أي إن تحديد النغمة - بداية - أمر عسير، فما بالك بترجمتها من لغة إلى لغة أخرى تختلف عنها في تقاليدها الأدبية وفي الجمهور الذي يتلقى العمل الأدبي الذي كتبت به؟
2 «النغمة» من الصفات التي يتصف بها النص الأدبي أيا كانت اللغة التي يكتب بها؛ ومعنى ذلك أنها صفة لا تخلو منها العربية بل ربما كانت أقوى في العربية منها في كثير من اللغات القديمة، ولكننا نكاد نفقد الإحساس بها لبعد الشقة ولغياب صوت العربية الحي عن آذاننا، بينما نعرفها كل يوم في العامية - وهي مستوى معروف من مستويات العربية (السعيد بدوي، مستويات اللغة العربية في مصر) بل ونعتمد عليها في إيصال معانينا للسامعين. ومن ذا الذي لا يقول لمن أساء إليه «شكرا» بدلا من أن يشتمه أو يقول لمن قدم إليه «معلومات» معروفة ولا قيمة لها «أفدتنا ... أفادك الله!»، وقد يصف بعضنا شيئا ممتازا (بالعامية المصرية بل والسودانية) بأنه «ابن كلب!» وقد نلجأ إلى المبالغة عندما نقول إن فلانا عاد إلى منزله وهو «أسعد أهل زمانه» (عبارة أبي الفرج الأصبهاني المفضلة) أو عندما نقول إن فلانا ضم أطراف المجد أو السؤدد وما إلى ذلك، وقد نلجأ - على العكس من ذلك - إلى المخافضة عندما نقول إن فلانة سعيدة بزواجها من المليونير فلان «فهو لا يشكو الفاقة» أو إن طه حسين لا يخطئ كثيرا في اللغة العربية وما إلى ذلك؛ فالمعنى في كل حالة من الحالات السابقة (عامية كانت أم فصحى) يتوقف على تفسيرنا للنغمة، وهو التفسير الذي يحدده الموقف أي تحدده معرفتنا بالمشتركين في الحديث وعلاقاتهم بعضهم بالبعض والمناسبة التي يقولون فيها ما يقولون.
وحسبما أعلم كان صلاح عبد الصبور أول من تطرق إلى دراسة «النغمة» في الشعر العربي عندما حاول استشفاف روح السخرية في قصيدة المنخل اليشكري الذائعة، بل وأورد بعض الدلائل على أنه كان يقوم بحركات تمثيلية أثناء إلقائها تساعد على إدراك النغمة التي يرمي إليها، وربما كان على حق في أن علينا أن نعيد قراءة الكثير من الشعر الذي وصلنا بحيث نضعه في سياقه الأصلي وربما اكتشفنا به نغمات مختلفة عن النغمات التي درجنا عليها (انظر قراءة جديدة لشعرنا القديم) - وأظن ظنا أن هذا جانب مما حاوله أستاذنا الدكتور شكري عياد حين قدم لنا (في اللغة والإبداع) تحليلا لقصيدة المتنبي «ملومكما يجل عن اللام» فوضع البيت التالي في سياق جديد:
Неизвестная страница
عيون رواحلي إن حرت عيني
وكل بغام رازحة بغامي
إذ يفسره على أن المتنبي يسخر من نفسه حين يقول إنه حين يضل طريقه يصبح مثل البعير فلا يرى إلا ما يرى، بل ويصبح صوته مثل صوت ناقته! وقد كنت قد درجت على تفسير البيت طبقا لما جاء في شرح الديوان (للبرقوقي أو اليازجي) من أن الرواحل تهديه إذا حار، وغني عن البيان أنني كنت أحار أنا نفسي في إدراك هذا المرمى! فما وجه الفخر في أن الناقة تبصر حين لا يبصر، أو أن أصوات النوق تحاكي صوته؟ وقد نهج هذا النهج - مع اختلاف في زاوية المدخل - أحمد عبد المعطي حجازي في كتابه قصيدة لا.
وربما كان السبب في قلة الأمثلة على تفاوت النغمات في أدبنا العربي هو احتفالنا التقليدي بالجد ونفورنا من الهزل، والواقع أننا نفترض للتراجيديا قيمة إنسانية أعلى بكثير من الكوميديا، وأحيانا ما نفصح عن ذلك حين نشطب عمل كاتب شطبا يكاد يكون كاملا حين نصفه بأنه هازل، ونحن ننصح أبناءنا بألا يعمدوا إلى الهزل «إلا بمقدار ما تعطي الطعام من الملح» - كما يقول الشاعر - وكأن يتجهموا كأنما لا بد أن يصاحب الجد في العمل تقطيب وجهاته!
أقول إننا درجنا على ذلك دون مبرر في الحقيقة سوى تقاليد «الرواية» أي اعتماد الأدب العربي منذ عصوره الأولى على الرواة، واعتماد الجهود الدينية التي صاحبت انتشار دين الله الحنيف أيضا على الرواية ومن ثم على السند، وهذا يقتضي أن يكون الرواة ممن يعرف عنهم الجد والابتعاد عن الهزل أيا كانت المناسبة، ولقد ذكر مثلا في أحد الكتب القديمة (المستطرف للأبشيهي) أن أحد الرواة «لم يبسم طول حياته ومات دون أن يرى أحد سنه» (يقصد أسنانه) (ص72) كما تكثر الإشارات إلى أن فلانا كان «كثير الضحك» بمعنى أنه «يحب الهزل» ومن ثم فرواياته يمكن أن تكون غير صادقة! ومن الطبيعي في هذا الجو الذي يتطلب الجد (بمعنى التجهم) حتى يتمكن الإنسان من اكتساب مكانته الوقورة في المجتمع فتقبل شهادته أمام القاضي، ويروى عنه ما يروى من أحداث العصر وشعر الماضي وأدبه، أقول إن الطبيعي في هذا الجو الغائم الملبد أن تفرض على الأدب «نغمة» واحدة، وأن يعمد الأديب إلى بث الطمأنينة في قلوب سامعيه (أو قرائه في مرحلة لاحقة) بأن يؤكد لهم أنه صادق في كل ما يقول، وأنه لا يهزل مطلقا، ولا يحب اللهو أو الطرب أو السرور!
ويشهد الله أنني لم أكن أتصور أن ذلك يمكن أن يكون صحيحا، حتى كتب لي أن أعاشر أقواما من بقاع شتى في الوطن العربي الشاسع، وأرى بنفسي كيف يعجز إنسان عن الابتسام طول عمره (أو لعدة أعوام هي الزمن الذي عشناه معا في الغربة) ثم أفهم ما قصده ابن بطوطة حين زار مصر في القرن الرابع عشر الميلادي وقال:
وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو، شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده، فزين أهل كل سوق سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي. وثياب الحرير، وبقوا على ذلك أياما. (ص32، دار التراث، بيروت، 1968م)
وهو يعجب للعمل الدائب («الذي ما يتوقف أبدا») ومع ذلك يلاحظ طيب المعشر («مؤانسة الغريب») ورقة الطبع («اللطف») والميل إلى الضحك والسخرية من كل شيء! لقد دهش الرجل دهشة كبيرة، وكل من يقارن ما قاله ابن بطوطة عن مصر بما قاله عن البلدان الأخرى التي زارها سيدهش لاختلاف الطبع اختلافا بينا، وسيزداد دهشه حين يدرك أن التراث العربي المشترك (تراث اللغة والأدب) لم يؤثر في تفاوت الطباع، وأعتقد أن العكس هو الصحيح فإن الطبع المصري الميال إلى «الطرب والسرور واللهو»، حتى في أحلك فترات تاريخنا، قد أثر على نغمة الأدب الذي نكتبه وجعلنا نحتفل بالكوميديا احتفالنا بالحياة نفسها (فالكوميديا في أحد تعريفاتها (احتفال بالحياة) - ويلي سايفر الكوميديا، انظر كتابنا فن الكوميديا) ولم يولد لدينا التقسيم الكلاسيكي الذي صاحب الآداب اليونانية والرومانية من استخدام الشعر مثلا في التراجيديا والنثر في الكوميديا، أو اقتصار الفصحى على الأولى والعامية على الثانية، فامتزج هذا وذاك في آدابنا الحديثة إذ كتبت التراجيديا بالعامية وبالنثر، وكتبت الكوميديا بالفصحى وبالشعر!
ولسوف يسهل على قارئ الترجمات الحديثة أن يكتشف النغمات المتفاوتة حين يلتزم المترجم الأمانة في ترجمته؛ فلا يجفل من استخدام كلمة عامية أو تعبير عامي يساعده على نقل النغمة، وحين يدرك أن للغة مستويات متعددة هي التي تساعد الكاتب على «الصعود» أو «الهبوط» في نغماته - دون أن يكون لذلك علاقة مباشرة بالسلم الاجتماعي للغة! فإذا أدركنا ذلك وضعنا أيدينا على العيب الأساسي الذي شاب ترجمات شيكسبير حتى منتصف هذا القرن ، وخصوصا مشروع الجامعة العربية. فالمترجمون بلا استثناء يستخدمون الفصحى المعربة المنثورة، ويلتزمون بقوالب العربية القديمة «الجزلة» مهما كانت طبيعة النص الذي يتعرضون له، ومهما كان مستوى لغة المتحدث أو «نغمته». ولا يقولن أحد إن ذلك لون من ألوان الترجمة، الهدف منه تقديم معنى الألفاظ فحسب، فترجمة الأدب (ولا أقول الشعر) لا تتطلب معاني ألفاظ مفردة فقط، بل إن معاني الألفاظ المفردة نفسها تتأثر بالنغمة وتتفاوت من موقف إلى موقف في المسرحية.
ومن الطبيعي أن أقول ذلك كي أبسط منهجي في الترجمة وأدافع عنه؛ فترجمة مقطوعة شعرية صلبها الوزن وعمادها الإيقاع تتطلب الاقتراب من هذا الوزن وذلك الإيقاع، وما أكثر ما نردد أقوالا عربية كان يمكن أن تختزل إلى النصف أو الربع لولا الوزن! ومن هذا الباب جاء ظلم مترجمي العربية من المستشرقين الذين تنحصر معرفتهم بالعربية في الألفاظ المفردة، فنحن حين نستشهد بقول شاعر «كناطح صخرة» إشارة إلى جهد من يحاول المحال، فنحن نشير في الحقيقة إلى بيت كامل يقف على قدميه وهو:
Неизвестная страница
كناطح صخرة يوما ليوهنها
فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
والفارق كبير بين من يقول «كناطح صخرة» فقط، ومن يردد البيت كله! وهذا من أثر «النغمة» التي تكون في الحالة الأولى حادة قاطعة، وفي الثانية مرتخية فاترة، بسبب الإطناب فالكلمات ابتداء من «يوما» وحتى آخر البيت لا عمل لها إلا الإبقاء على التماسك العروضي له. وقس على ذلك الكثير من الشعر. فنحن نقول «من جد وجد» ونفخر بإيجازه ولكن شعرنا حافل بما يجري مجرى الأمثال دون أن يكون بهذا الاقتضاب:
ما في المقام لذي عقل (وذي) أدب
من راحة (فدع الأوطان) واغترب (إني رأيت) وقوف الماء يفسده (إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب)
والشمس لو وقفت (في الأفق ساكنة)
لملها الناس (من عجم ومن عرب)
فكل ما بين أقواس زائد وهو من لوازم الإيقاع العروضي أي العضادات التي تسند البيت كي يستقيم وزنه، وإذا قال قائل إن هذا شعر حكم وأمثال وحسب، وقائله «الإمام الشافعي» ليس من الشعراء «المحترفين» سقت إليه نماذج من أعظم شعرائنا دون جهد كبير بل ومما يعرفه طلبة المدارس - من المعلقات مثلا:
ولو كنت وغلا في الرجال لضرني
عداوة ذي الأصحاب والمتوحد (طرفة)
Неизвестная страница
فلما عرفت الدار قلت لربعها
ألا انعم صباحا أيها الربع واسلم (زهير)
بغاة ظالمين وما ظلمنا
ولكنا سنبدأ ظالمينا (عمرو)
إلى المتنبي نفسه:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما الأحبة فالبيداء دونهمو
فليت دونك بيدا دونها بيد
وحتى شوقي - شاعر العصر الحديث - في رثاء مصطفى كامل:
Неизвестная страница
المشرقان عليك ينتحبان
قاصيهما في مأتم والداني
أو مما يحفظه عشاق أم كلثوم (عن أم كلثوم!):
سلوا كئوس الطلا هل لامست فاها
واستخبروا الراح هل مست ثناياها
باتت على الروض تسقينا بصافية
لا للسلاف ولا للورد رياها
ما ضر لو جعلت كاسي مراشفها
ولو سقتني بصاف من حمياها
وما ينطبق على الشعر ينطبق على النثر، وخصوصا ما كان يسمى بالنثر الفني، تجاوزا لاتصافه بخصائص النظم، مثل السجع (الذي يحاكي القافية) وتساوي المقاطع (مما أوصى به أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين) وما إلى ذلك من المحاسن الشكلية المستقاة من شعر العرب. وأرجو ألا يتصور أحد أنني أنتقد مدرسة فنية بعينها أو أعيب شكلا من أشكال التعبير تختص به العربية دون غيرها، فهذه سمات لا تتميز بها لغة عن لغة، ولكنني أسوق هذه الأمثلة للتدليل على الوظيفة التي يقوم بها الإيقاع في تحديد «النغمة»، فإذا كان صحيحا أن الذهن يستوعب معاني الألفاظ بسرعة تفوق سرعة إلقائها أربع مرات (دافيد كولب وآخرون: نحو نظرية تطبيقية للتعليم عن طريق الخبرة، لندن، 1976م) فإن إبطاء الإيقاع عن طريق تكرار بعض الألفاظ أو العبارات في قوالب نغمية محددة يضاعف من الزمن الذي يستغرقه الذهن في استيعاب المعاني ويجعل للأذن المهمة الكبرى في عملية التلقي حتى ولو كان القارئ يقرأ شعرا مهموسا (وهو الاصطلاح الذي أتى به الدكتور محمد مندور ليفرق به بين شعر الخطابة القديم والشعر «الوجداني» الحديث)؛ ولذلك فإن «نغمة » الشاعر لا بد أن تختلف مما يلقي على المترجم للشعر عبئا جديدا وإن كان قاصرا
Неизвестная страница
1
على التصدي «للنغمة» - ماذا عساه فاعلا بمن يبدو أنه يهزل وهو جاد - أو من يبدو أنه جاد وهو يهزل؟ إن روميو مثلا في هذه المسرحية يهزل هزلا صريحا في بداية المسرحية وفي باطنه الجد - ونغمته اختلف في تحديدها النقاد - وذلك حتى يقابل جوليت فيتحول إلى نغمة جادة كل الجد لا أثر فيها لهزل على الإطلاق - وإن كان شيكسبير لا يتوقف عن التلاعب بالألفاظ (كالتوريات مثلا) إلى آخر سطر في المسرحية!
ولأقرب ما أعني الآن بقصيدة كتبها بالعربية المصرية صلاح جاهين، وصعد بفنونها الشعرية إلى مصاف التوحد والتفرد بل وتخطى - دون مبالغة - كل من سبقوه:
باحب المقابر وأموت في الترب
هناك زي حي الغناي في الهدوء الجميل
هناك زي شط البحور في النسيم العليل
هناك العجب
هناك تمشي تسمع لرجلك دبيب عالي يرضي الغرور
هناك كله راقد مافيش غيرك انت اللي واقف فخور
وأما الزهور
Неизвестная страница
هناك بالمقاطف على الأرض يا مسورقة يا بتحتضر
تجيب أدوات العطور
وتصنعها عطر اسمه مثلا عبير العبر
تبيعه وتكسب دهب
وتدهس على العضم وتقول كلام فلسفة
وتملأ كتب
ده غير الثواب اللي تقدر كمان تكسبه
من الفاتحة ع الميتين
فمنها عبادة ومنها استفادة ومنها أدب
لهذا السبب
Неизвестная страница
باحب المقابر ... لكين
بعقلي الرزين
باحب البيوت واللي فيهم زيادة!
من البداية نجد النغمة الهازلة - في «الصدمة» التي تقدمها لنا الكلمات الأولى، وتؤكدها المفارقة الواضحة في «أموت في الترب» - فهي من النكات الذائعة لدى المصريين في باب القافية ((أ) الحانوتي حياخد له بالميت عشرين جنيه! (ب) طب ومن غير ميت؟) وهكذا نجد أن هذه اللمسة تحدد لنا «السلم الموسيقي» الذي يساعدنا في إدراك النغمة! فكيف سنقرأ «زي حي الغناي»؟ بمفارقتها المؤلمة! (حد واخد منها حاجة؟) وكيف ستقرأ «زي شط البحور»؟ (على شط البحور والنسمة حوالينا الحياة مبتسمة!) (على شط بحر الهوى!) ولا شك أن ذلك كله لا بد أن يؤدي إلى العجب الذي يعنى به صلاح جاهين الدهشة الشعرية
التي يتسم بها كل شعر عظيم - فهي دهشة اكتشاف ، مثلما نجد أن كل قصيدة عمل استكشافي! (
HEURISTIC ) فنحن فجأة نواجه حركة وسكونا: السير بخطوات عالية.
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
أبو العلاء المعري
ومفارقة الدبيب «العالي» المتناقض فيما يشبه «الطباق» الكلاسيكي مع «راقد» والذي ينتهي ب «واقف»! أي إن تتابع الحركة والسكون هنا مشهد كامل لا مجرد تسجيل لحدث في الماضي ... إننا مع زائر القبور، بل نحن الذين نزور القبور الآن فتضيع نظراتنا في الدهشة!
Неизвестная страница
وعلى الفور ينتقل صلاح جاهين إلى الأرض ليشير إلى رموز الجمال والفتنة والرقة وقد أصبحت مغشيا عليها أو هي بسبيلها إلى الفناء، كأنما نحن نطالع تراثا كاملا من الشعراء الإنجليز في القرن السابع عشر الذين احتفلوا بالحياة عن طريق تأمل الموت، وذلك من خلال ما يسمى بثيمة عش يومك
CARPE DIEM
أي اقتطف لحظة الزمان السانحة فهي مثل الزهور تورق وتخضئل ثم تذوي ويبتلعها خضم الفناء! «المقاطف» هي أدوات إهالة التراب و«التراب» الذي يربطنا بالتربة سيصبح زهورا لكي يؤدي بنا إلى صورة أساسية في الشعر الإنجليزي الحديث أيضا وهي «الخوف الكامن في حفنة من التراب» (
FEAR IN A HANDFUL OF DUST ) - وهي الصورة التي يشير بها ت. س. إليوت إلى أسطورة سيبيل اليونانية التي تمنت أن تعيش طويلا فوعدتها الآلهة بعدد من السنوات يساوي عدد حبات الرمل أو التراب التي تستطيع أن تقبض عليها بيدها! فعاشت دهورا وأخذت تنكمش حتى أصبحت في حجم الطائر الصغير فوضعها الناس في قفص وكان التلاميذ يمرون عليها في طريقهم إلى المدرسة وإذا سألوها ماذا تريدين يا سيبيل؟ قالت لهم أريد أن أموت!
وأرجو ألا يتصور القارئ أنني من أتباع المدرسة التفكيكية
DECON-STRUCTION
الذين يرون في النص أكثر مما به من معان أو ينادون بتغير معناه من قارئ إلى قارئ، بل أنا من دعاة الالتزام بالنص وحسب، وهو هنا - ودون مجاراة - نص ذو نغمة خاصة تتطلب قراءة خاصة! ف «المقطف»، في العامية المصرية لا يملأ إلا ترابا، وحين يملأ خبزا (مثلا) يصبح فردا (فرد عيش/فرد سرس ... إلخ) بترقيق الراء لا تفخيمها ، فإذا تصورنا هذا المقطف الذي يرتبط بالأرض مثل هذا الارتباط، وقد امتلأ بزهور مغمى عليها أو في سكرات الموت - بمعنى الغياب عن الوعي أو الوقوف على مشارف العالم الآخر (شأنها شأن جميع الأحياء الذين لا تقاس أعمارهم إلا باللحظات العابرة) وتصورنا ما سيفعله صاحبنا (المخاطب أو المتحدث) من تحويل هذه المثل العليا للجمال والرقة إلى عطر «طيار» هو حلقة الوصل بين الوجود والعدم (فهو رائحة أي روح والعلاقة بين الروح والريح والروح والرواح أكثر من اشتقاقية!) وإذا تصورنا بعد هذا كله أن «عبير العبر»، لن يفلح في إيصال «العبرة» بل سيتجمد في صورة هي أقسى صور الانشغال بالأرض وكنوزها؛ صورة «الذهب». (وليس من قبيل الصدفة أن يختار الشاعر هذه الصورة ليربط الثراء «حي الغناي» بالمرض «العليل» والموت «الترب» من خلال الذهب الذي يتحول - كما يعرف كل دارس لتاريخنا المصري - إلى تابوت: «بل إن دود القبر يحيا في توابيت الذهب!» (تاجر البندقية، لشيكسبير).) أقول إذا تصورنا ذلك كله فسوف نعرف أن رنة الجد خادعة وأنها تخفي مفارقة تجعل الشاعر أشد سخرية مما قد يتبادر إلى ذهن القارئ المتعجل، فهو يسخر في آن واحد من الأحياء والأموات، وهو يضفي معاني جديدة على البيت التالي (وتدهس على العضم وتقول كلام فلسفة/ وتملأ كتب!) إذ يفرغ الفلسفة من معناها أمام الموت، ويجعل الكتب مجرد أوراق خاوية، خصوصا عند تحويل هذا الدرس القاسي إلى فوائد مادية زائفة خادعة تعكس تماما (أي تأتي بعكس أو نقيض) ما يقوله في ختام قصيدته «فمنها عبادة ومنها استفادة ومنها أدب!» فالعبادة ليست مجرد الحصول على «الثواب» (الأجر)، والفائدة المادية - كما سبق القول - خادعة، والأدب مجرد كلام يطير في الهواء مثل الرائحة (الروح) وإن كان في الحقيقة أي في معناه الحقيقي ذا وجود أبدي مثل الروح نفسها!
ولو لم تكن هذه النغمات المتفاوتة ما استطاع الشاعر أن يصل بنا إلى ذروة المرارة في محاولته التمسك بالحياة عند إعلانه الحب للأحياء في بيوتهم أكثر من حبه للمقابر! ولم ينس صلاح جاهين أن يذكرنا هنا أنه يحاول ذلك بعقله لا بقلبه، فهو نوع من الحب الذي يمليه منطق الأحياء، إذ نشتم هذا المعنى من تركيبة «بعقلي الرزين» التي قد تعني «متوسلا بعقلي لا بقلبي» وقد تعني «لأن لي عقلا منطقيا غير عاطفي»، وهو يؤكد هذه المفارقة حين يقدم «البيوت» (التي هي أحجار ميتة بل ومآلها الهدم) على الأحياء الذين لا نسمع عنهم بل ولا نجد لهم ذكرا في أي مكان في تلك القصيدة العجيبة!
إن التنويع الشديد في «النغمة» يمكن الشاعر من أن ينتقل بنا من حالة نفسية إلى نقيضها، ولا يخفى على دارس الشعر والترجمة مغزى الانتقال من ضمير المتكلم (باحب) إلى ضمير المخاطب (تمشي تسمع - مافيش غيرك أنت) ثم العودة إلى ضمير المتكلم في الأبيات الأربعة الأخيرة، فإلى جانب توالي التقابل بين المتكلم والمخاطب نجد أن التقابل يتوهج أيضا بين الحياة والموت، حين تختلف «نغمات» أفكار الحياة لتكتسي مذاق «الفناء»، وتختلف نغمات أفكار «الفناء» لتصبح الحياة الحقيقية؛ أي الحياة فيما بعد الموت!
3
Неизвестная страница
ولا يخفى على اللبيب أن «النغمة» تمثل التحدي الأكبر للمترجم؛ لأنها قد تعتمد على مصطلح اللغة الأصلية الذي تتعذر ترجمته إلى أي لغة أخرى، وما دمنا ضربنا المثل من صلاح جاهين فلا بد من التنويه بالترجمة العبقرية التي أخرجتها نهاد سالم للرباعيات (دار إلياس العصرية للنشر، 1988م) والتي حققت فيه أكبر قدر ممكن من النجاح في نقل «النغمة» التي تمثل سر نجاح هذا اللون من الشعر الذي يستخدم لغة الناس، مثلما كان شيكسبير يفعل، ومثلما فعل كل شاعر أراد الوصول إلى الناس، وسوف أدلل على هذا النجاح أولا قبل التدليل على الصعوبات. اقرأ معي هذه الرباعية الجميلة:
أحب أعيش ولو أعيش في الغابات
أصحى كما ولدتني أمي وابات
طائر ... حوان ... حشرة ... بشر بس اعيش
محلا الحياة حتى في هيئة نبات.
وأول سؤال هو: هل الشاعر جاد في إعرابه عن حبه للحياة؟ فإذا كانت الإجابة بنعم فسوف تكون «النغمة» موجهة لتأكيد هذا المفهوم الذي يتردد في جنبات المصطلح الدارج - ويتعدل داخليا من خلال الهبوط بمستوى الإنسان إلى مستوى الكائنات الدنيا، أي الكائنات غير العاقلة حتى يصل إلى ما يلغي إنسانية الإنسان! وإذا اتكأنا على هذه اللمحة الأخيرة وجدنا معنى آخر كامنا في باطن هذا المفهوم وهو ليس ببساطة حب الحياة بل تأكيد إنسانية الإنسان أي إن الشاعر لا يقول فقط إنه يحب الحياة ولكنه لا يحب أن يعيش إلا إذا كان إنسانا!
أما الترجمة فهي:
I love to live, be it in a jungle deep
Naked to wake, and naked go to sleep
To live as beast, bird, man or even ant
Неизвестная страница
Life is so lovely even as a plant
p. 27
وقبل أن أناقش الصعوبات سأشير إشارة عابرة إلى أنني كنت أفضل
even
على
be it
في السطر الأول إذ إن مصطلح الإنجليزية يتطلب جملة مقارنة (
be it ... or ) ولا تستخدم هذه الصيغة وحدها إلا في
so be it!
بمعنى «فليكن!» («يلله بقى!» - «وماله!» - «ماشي!» - «حنعمل إيه؟» ... إلخ) وكنت أفضل عدم الإغراب في صياغة السطر الثاني الذي يعطف
Неизвестная страница
to wake
على
to live
فيجعل بقية العبارة قلقا من الناحية النحوية دونما داع ولو كان ذلك من متطلبات القافية، إلى جانب العطف في الفعل التالي (السطر الثالث)، وكذلك الاهتزاز المنطقي في السطر الأخير الذي نتج من الخضوع للصياغة العربية. أقول إنني لن أتوقف عند هذه الملامح الشكلية التي ترجع إلى مزاج كل مترجم وتكوينه اللغوي، ولكنني سوف أتوقف طويلا عند الكلمة «المفتاح» بالعربية وهي تعبير «بس أعيش» إذ إنها هي التي تحدد لنا ما إذا كنا سنقبل «حب الحياة» باعتباره معنى مطلقا أو أنها ستغير «النغمة» فتجعله معنى مقيدا
qualified ؟ ماذا تعني «بس أعيش» في لغتنا العربية المصرية؟ إنها تعني «آه يا ليتني أستطيع الحياة!» (أو بالإنجليزية المعتادة
if only I could live ) وهي من الناحية المواقفية (
) لا تقال إلا في موقف إنسان عزت عليه الحياة إما للمرض الشديد أو لأنه لم يستطع الحياة الحقة بعد! (خمسين جنيه خمسين جنيه بس أسافر!) = (يخفضوا المرتب بس أفضل في الوظيفة) = (يعملوا اللي عايزينه في بس أعيش!) أي إن هذه الصيغة تعني أن قائلها يريد الحياة بأي ثمن! وهذه هي المبالغة التي تجعل «في هيئة نبات» في السطر الأخير توحي بأنها ذروة مقصودة للمفارقة الكامنة في إحساس الشاعر! فهل هو هو حقا يريد الحياة بأي ثمن - حتى ولو كان نباتا؟ (والفعل الإنجليزي المشهور
to vegetate
معناه أن يصبح الإنسان فاقدا لإرادته وغاياته مثل النبات!) فإذا اتفقنا أن هذه هي «النغمة» الصحيحة فسوف نكتشف أن تصورنا لجدية الشاعر في البداية كان وهما، وأن الرباعية في الحقيقة إعلاء لإنسانية الإنسان وتميزه على الكائنات جميعا مهما كانت صفات الحياة التي تشاركه إياها!
وسر نجاح نهاد سالم هو إدراكها لهذه «النغمة» التي تكاد لخفائها أن تصبح «نغمة تحتية» (
Неизвестная страница
undertone ) وإصرارها على إبقائها خبيئة! أي إن المترجم هنا لم يلجأ إلى التأويل بل ولا إلى التفسير. بل حاول الالتزام بالنغمة الظاهرة حتى يظل الخبيء خبيئا! وهي تلجأ إلى مصطلح الإنجليزية الأصيل لكي توحي بهذه النغمة الباطنة حين تبدأ البيت الثالث بالعبارة الصارخة !To live as beast
فهذه هي المقابل إن لم تكن البديل للعبارة «المفتاح» (بس أعيش) لأنها توحي من طرف خفي برفض هذه الحياة الحيوانية - وكلمة
beast
كلمة ذات دلالة واضحة تشير إلى النغمة التحتية، فنحن نستخدمها في ذم كل سلوك بشري يجرد الإنسان من إنسانيته، والصفة منها
beastly
تستخدم في اللغة الدارجة بمعنى الانحطاط والدناءة وقد كان يمكن أن تستخدم كلمة
animal - وهي كلمة محايدة في ظاهرها حسنة الدلالة في باطنها لأنها مشتقة من
anima
بمعنى النفس أو الروح، وكثيرا ما يوصف الإنسان بأنه
thinking animal
Неизвестная страница
وما إلى ذلك، بل ونطلقها على حاجاته «البشرية»، والصفة منها
animal spirits
معناها الخفة الفطرية ولا أظن أن المترجمة اختارتها من أجل القافية المبدئية
alliteration (مع
bird ) فدلالتها هي الدافع الأول والعامل الحاسم في اختيارها إياها.
ومعنى ذلك هو أن المترجم يواجه نصا حيا لا مناص من إيجاد إطاره الحي الذي يحفظ له أنغامه الظاهرة (والباطنة إن أمكن)، وما يصدق على الشعر الغنائي (أي الذي يتوسل بالصوت المفرد) يصدق بدرجة أكبر على الشعر المسرحي الذي تتعدد فيه الأصوات. وقبل أن أنتقل إليه سأورد رباعية أخرى لصلاح جاهين وترجمتها الإنجليزية لنهاد سالم:
اقلع غماك يا تور وارفض تلف
اكسر تروس الساقية واشتم وتف
قال بس خطوة كمان ... وخطوة كمان ...
يا اوصل نهاية السكة يا البير يجف!
Неизвестная страница
Throw off your blindfold, Bull! Refuse to go!
Break the cogs of the waterwheel, spit in our eye!
The bull said with a sigh: “One more step, or so,
Either I reach the end, or the well will dry”...
p. 43
إن سر عبقرية هذه الترجمة لا يكمن فحسب في الالتزام بالمعنى الشعري (الذي لا بد له من وزن وقافية) ولكن أيضا في إدراك «النغمة» وإخراجها ولو بإضافة عبارة ذات دلالة - وهي هنا
With a sigh
فهي العبارة التي تعوضنا عن فقد الدلالة العامية لكلمة تور «طور» بالعربية المصرية، لأن كلمة
bull
الإنجليزية ذات دلالات لا تغطي ما تقوله «طور» وإن كانت تشترك معها في بعض العناصر. ولهذا فإن هذه الإضافة تجسد لنا «النغمة» الأساسية في الصورة - فهي آهة استسلام للمصير
Неизвестная страница
resignation
قبل أن تكون آهة شكوى من الزمان! وقد نختلف مع المترجمة في تصويرنا هذه «النغمة» أو في تصورنا «للنغمة» الحقيقية أو المقصودة - ولكن - من ذا الذي يستطيع أن يزعم أن لكل قصيدة أو لكل بيت «نغمة» واحدة فقط - أو نغمة «حقيقية» أو «مقصودة»؟
4
وليكن هذا مدخلنا إلى شيكسبير! فمن ذا الذي يستطيع أن يقطع بأن هذه «النغمة» جادة أو هازلة؟ حقيقية أو زائفة؟ عرضية أي عارضة أو مقصودة؟ وهل رنة السخرية في كلام الشخصية - إذا تأكدنا منها - موجهة إلى الشخصيات الأخرى أم إلى القارئ مباشرة؟
جوليت والمربية.
ومعنى السؤال الأخير هو: هل يمكن لنا (أي هل من المقبول فنيا) اقتطاع أبيات أو فقرات من المسرحية باعتبارها شعرا غنائيا يتحدث فيه الشاعر مباشرة إلى القارئ؟ ولا يظنن أحد أن هذه «زندقة نقدية» أي خروج عن قواعد النقد الفني «المقدسة»، فكل شاعر مسرحي له لحظاته التي يتحدث فيها من خلال شخصياته إلى الجمهور. أو إلى القارئ، وقد يسمع المشاهد صوته واضحا ويدركه القارئ دون عناء، خصوصا عندما ينتقل من سياق الحدث إلى التعليق على حال الإنسان بصفة عامة أو على أشياء بعينها في مجتمعه يعرفها هو وجمهوره خير المعرفة. وهذه جميعا من العوامل التي تؤثر في تحديد «النغمة» ومن ثم في «الترجمة» والأسلوب المختار لها.
وقد صادفت هذه الصعوبة لأول مرة عندما عدت إلى نص روميو وجوليت عام 1992م (أي بعد ما يزيد على سبعة وعشرين عاما) لأترجمه ترجمة شعرية كاملة (بعد الإعداد الغنائي للمسرح عام 1985م) فإذا بي أفاجأ بأن النص الذي كان يكتسي صور الجد من أوله إلى آخره حافل بالهزل وبالسخرية والنغمات المتفاوتة! ولقد رأيت أن التزام النظم وحده لن يحل المشكلة، بل ولا محاكاة القوافي والحيل البلاغية! وتمثل الحل في اللجوء إلى تنويع الأسلوب مثلما يفعل شيكسبير من استخدام النثر حينا والنظم حينا آخر، والعامية في بعض الأحيان، وصولا إلى «النغمات» التي يرمي إليها؛ فالبطل هنا - روميو - ليس في الحقيقة مثلا أعلى للحب (أو للحبيب) الرومانسي ولكنه غلام متهور يحب الحب أي فكرة أو نزعة الاتصال بشخص آخر والتوله به (كما يقول كولريدج) أكثر من حبه - الشخص الذي يمكن - بسبب صفاته وشمائله الموضوعية أن يثير في نفسه هذا الحب! وجوليت فتاة في الرابعة عشرة - سن الزواج في الأيام الخوالي - تركب رأسها وتندفع بطيش المراهقة إلى مغامرة غير محسوبة العواقب فتنتهي نهاية مفجعة! والجو الذي تقع فيه الأحداث هو جو البحر المتوسط بحرارته ونزقه والتهاب عواطفه! وشيكسبير يصر منذ البداية على أن يعزف لنا «أنغاما» مرحة في حوار فكه بالنثر يعتمد على التوريات والنكات اللفظية، وخصوصا ما يمس منها العلاقة بين الرجل والمرأة، بحيث نتهيأ باسمين بل وضاحكين لظهور ذلك المحب الواله وعندها نعرف أن حبيبته اسمها روزالين وأنها قد أقسمت ألا تتزوج وأن تظل عذراء إلى الأبد! وهذا «الموقف المستحيل» يجعل كل ما يقال بشأن الحب ورب الغرام كيوبيد - خصوصا بالقياس إلى غلام أمرد روميو وأصدقائه المراهقين - كلاما ذا نغمات نصف جادة على أحسن تقدير، والفصل الأول يمثل لنا هذه النغمات التي تتراوح بين المعقول واللامعقول، - إذا استعرنا عبارة زكي نجيب محمود - فالفكاهات البذيئة تتطور بلا أي معنى إلى صراع لا معنى له هو الآخر بين الأسرتين اللتين توارثتا كراهية عبثية لا معقولة مما يجعلنا نقبل في هذا الإطار التناقض الأول بين النغمات، كما يصوره غرام فتى يبدو عليه الضياع ولكنه مهذار، فهو يهزل من البداية وحين يلمح سمات الجد على وجه بنفوليو يسأله وليسمح لي القارئ بنقل جوهر هذا التراشق إلى العامية المصرية لتجسيد النغمة الصحيحة «الله! انت مابتضحكش ليه؟» فيرد بنفوليو قائلا: «والله يا ابن عمي أنا عايز أعيط!»، «ليه يا حبيبي ليه بس؟» «على ظلمك وعذاب قلبك!» فيجيئنا رد روميو الحاسم: - بس ده ظلم إله الحب! (ما انت عارفه!) أرجوك ... أنا عندي كفايتي ومش عايزك تحملني زيادة!
هو الحب إيه يعني؟ دخان من الآهات والزفرات! ...
وهكذا! فالواضح أن هذه «نغمات» محب يلعب دور المحب الوامق أي إنه يعي ما يفعله كل الوعي، وأرجو من القارئ أن يعود إلى النص في الترجمة الحالية أو في الأصل الإنجليزي ليرى كيف يطور روميو هذا الهزل ابتداء من السطر 190 (ف1، م1) فالتلاعب بالألفاظ المحسوب والمحكم حتى السطر 200 لا يمكن أن يقدم لنا صورة عاشق جاد أو يؤكد الصورة التي رسمها له والداه وأكدها بنفوليو قبل ظهوره - إلا في حدود ما يسمى بتقاليد الحب العذري
courtly love
Неизвестная страница