المقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد:
فإن الإسلام دين صفاء ونقاء وأخوة ومودة، يظهر ذلك جليًا في آيات كثيرة من كتاب الله ﷿، وفي سنة نبيه ﷺ.
وقد اخترت للأخ القارئ نماذج من الرفقة الصالحة قولًا وفعلًا لأهميتها في عصرنا الحاضر اقتداء وتأسيًا.
وهذا هو الجزء الرابع عشر من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان «رفقاء طريق».
أدعو الله ﷿ أن يعيننا على أداء حقوق الأخوة الصادقة وأن يجمعنا وأحبتنا تحت ظل عرشه إخوة متحابين.
عبد الملك بن محمد بن عبد الرحمن القاسم
1 / 3
مدخل
إن الإنسان وهو يسير في هذه الدنيا ويقطع مراحل حياته فيها يحتاج إلى من يؤانسه في الطريق ويسلي وحدته في السفر .. ويكون له عونًا عند نزول الملمات والحوادث، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه ... أصاب من الدين أوفره ومن الأدب أكثره ... جمع الله له بين الدين والخلق.
إنه الأخ المسلم الناصح المشفق .. صاحب الخلق والدين.
ولا يخفى أن ثمرة الخلق الحسن الألفة وانقطاع الوحشة، ومهما طاب الثمر طابت الثمرة، وكيف وقد ورد في الثناء على نفس الألفة سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين وحب الله من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع، قال الله تعالى مظهرًا عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ (١). وقال تعالى: ﴿فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾. أي بالألفة، ثم ذم التفرقة وزجر عنها فقال عز من قائل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ إلى ﴿لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (٢)، وقال ﷺ: «إن أقربكم مني مجلسًا أحاسنكم أخلاقًا الموطئون أكنافًا الذين يألفون
_________
(١) الأنفال: ٦٣.
(٢) آل عمران ١٠٣.
(*) رواه الطبراني وصححه الألباني.
1 / 4
ويؤلفون» (*) (١)
أخي المسلم:
إن التحاب في الله والأخوة في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يستفاد من الطاعات في مجاري العادات ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى، وفيها حقوق بمراعاتها تصفو الأخوة عن شوائب الكدورات ونزعات الشيطان، فبالقيام بحقوقها يتقرب إلى الله زلفى، وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى (٢).
واعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان، عن أبي هريرة ﵁ قال: قال ﷺ: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» (٣). ولابد أن يتميز الصاحب بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة.
ويطلب من الصحبة فوائد دينية ودنيوية:
أما الدنيوية، كالانتفاع بالمال أو الجاه أو مجرد الاستئناس بالمشاهدة.
أما الدينية، فيجتمع فيها أيضًا أغراض مختلفة منها الاستفادة
_________
(١) الإحياء ٢/ ١٧١.
(٢) الإحياء ٢/ ١٧١.
(٣) رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال النووي: إسناده صحيح.
1 / 5
من العلم والعمل، ومنها الاستفادة من الجاه تحصنًا به عن إيذاء من يشوش القلب ويصد عن العبادة، ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال (١).
أخي المسلم: ينبغي فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلًا حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا (٢).
وقد أثنى جل وعلا على الصحبة الطيبة وجعلها سببًا لدخول الجنة ..
قال ﷺ: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي» (٣)، وقال ﷺ: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ...» (٤).
بل ورفع الله ﷿ ذكر الكلب برفقته للصالحين فقال
_________
(١) الإحياء ٢/ ١٨٥.
(٢) الإحياء ٢/ ١٨٦.
(٣) رواه مسلم.
(٤) متفق عليه.
1 / 6
تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾ (١).
إن الخليل هو المرآة التي تعكس صورتك للناس وتريهم من تكون ... فالمرء على دين خليله، فلينظر المرء من يخالل.
قال أبو سليمان: قوله «المرء على دين خليله» معناه: لا تخالل إلا من رضيت دينه وأمانته، فإنك إذا خاللته قادك إلى دينه ومذهبه ... ولا تغرر بدينك ولا تخاطر بنفسك فتخالل من ليس مرضيًا في دينه ومذهبه (٢).
أنت في الناس تقاس ... بمن اخترت خليلا
فاصحب الأخيار تعلو ... وتنل ذكرًا جميلا
وانظر أخي المسلم إلى موقف الأخلاء من بعض يوم القيامة وهو أهم المواقف وأعظمها شأنًا، قال جل وعلا يصف حالتهم: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ (٣).
* وفي وصف عجيب وتصوير دقيق للصحبة وأثرها قال رسول الله ﷺ: «إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء، كحامل المسك، ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك، وإما أن
_________
(١) سورة الكهف الآية: ٢٢.
(٢) العزلة ٥١٠.
(٣) الزخرف ٦٧.
1 / 7
تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا منتنة» (١).
وقال علي ﵁: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع قول أهل النار ﴿فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ﴾ (٢).
وللأخوة حقوق قد ذكرها عطاء بن ميسرة بقوله: تعاهدوا إخوانكم بعد ثلاث، فإن كانوا مرضى فعودوهم وإن كانوا مشاغيل فأعينوهم، وإن كانوا نسوا فذكروهم (٣).
ولاشك أن لكل إنسان عيبًا وفي كل مخلوق نقصًا ... من أولئك أيضًا من اخترتهم للصحبة واصطفيتهم للرفقة ولكن:
إن تجد عيبًا فسد الخللا ... فجل من لا عيب فيه وعلا (٤)
قال أبو علي الرباطي: صحبت عبد الله الرازي وكان يدخل البادية، فقال: علي أن تكون أنت الأمير أو أنا؟، فقلت: بل أنت، فقال: وعليك الطاعة، فقلت: نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها الزاد وحملها على ظهره ... فإذا قلت له أعطني، قال: ألست قلت: أنت
_________
(١) متفق عليه.
(٢) الإحياء ٢/ ١٧٥.
(٣) حلية الأولياء ٥/ ١٩٨.
(٤) البداية والنهاية ١٤/ ١٦٠.
1 / 8
الأمير، فعليك الطاعة، فأخذنا المطر ليلة فوقف على رأسي إلى الصباح وعليه كساء وأنا جالس يمنع عني المطر ... فكنت أقول مع نفسي: ليتني مت ولم أقل: أنت الأمير (١).
أين أخي الحبيب هؤلاء من رفقة اليوم .. وصحبة هذا الزمن؟ !
ولهذا قال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم: مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر: مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثالث: مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط .. ولكن العبد قد يبتلى به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع ..
وقد قيل: مثل جملة الناس كمثل الشجر والنبات .. فمنها ما له ظل وليس له ثمر وهو مثل الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال ومنها ما له ثمر وليس له ظل وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا، ومنها ما له ثمر وظل جميعًا، ومنها ما ليس له واحد منهما كأم غيلان تمزق النبات ولا طعم فيها ولا شراب، ومثله من الحيوانات الفأرة والعقرب.
الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم لا ... يستوون كما لا يستوي الشجر
هذا له ثمر حلو مذاقته ... وذاك ليس له طعم ولا ثمر (٢)
_________
(١) الإحياء ٢/ ١٩٩.
(٢) الإحياء ٢/ ١٨٧.
1 / 9
ولكن أخي الكريم عليك بحسن الاختيار ... والحرص والتحري .. وانظر مع من تجتمع؟ وعلى ماذا تجتمع؟ وكيف تختار الأصدقاء؟ ! أهم الذين قال الله فيهم: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فأعانوا على الطاعة الاستقامة والسير إلى الله أم هم أهل الضياع والضلال والخسران؟ !
فإن الاجتماع بالإخوان قسمان:
أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على التعاون على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات: إحداها: تزين بعضهم لبعض.
الثانية: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة. الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود، وبالجملة، فالاجتماع والخلطة لقاح إما للنفس الأمارة وإما للقلب والنفس المطمئنة، والنتيجة مستفادة من اللقاح، فمن طاب لقاحه طابت ثمرته، وهكذا الأرواح الطيبة لقاحها من الملك والخبيثة من الشيطان، وقد جعل الله سبحانه بحكمته الطيبات للطيبين والطيبين للطيبات وعكس ذلك (١).
_________
(١) الفوائد ٦٨.
1 / 10
قال أبو حاتم: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف، والكريم يجل الكرام، ولا يهين اللئام، ولا يؤذي العاقل، ولا يمازح الأحمق، ولا يعاشر الفاجر، مؤثرًا إخوانه على نفسه باذلًا ما ملك، إذا اطلع على رغبة من أخ لم يدع مكافأتها، وإذا عرف منه مودة لم ينظر في قلق العداوة، وإذا أعطاه من نفسه الإخاء لم يقطعه بشيء من الأشياء (١).
وإذا صاحبت فاصحب صاحبًا ... ذا حياء وعفاف وكرم
قائلًا للشيء لا إن قلت لا ... وإذا قلت نعم قال نعم (٢)
وليست موافقة الصاحب مقصورة على الحياة فحسب بل إن نفع هذا الخليل يمتد إلى ما بعد ذلك وهو استمرار لهذه المحبة الصادقة والأخوة الظاهرة فقد كان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح؟ أهلك يقتسمون ميراثك ويتنعمون مما خلفت، وهو منفرد بحزنك مهتم مما قدمت وما صرت إليه يدعو لك في ظلمات الليل وأنت تحت أطباق الثرى (٣).
ورأينا هذا الفعل في كثير من الأخلاء الصالحين ... يتصدقون
_________
(١) روضة العقلاء ١٧٣.
(٢) شذرات الذهب ١/ ٩٧.
(٣) الإحياء ٢/ ٢٠٢.
1 / 11
عن صاحبهم ويدعون له .. وما ذكر في مجلس إلا ترحموا عليه ودعوا له بالمغفرة ولسان أحدهم يقول:
ولقد نظرت فلم أجد يهدى لكم ... غير الدعاء المستجاب الصالح (١)
ومثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى .. فهما يتعاونان في إصلاح بعضهما وكذلك يتشاركان في السراء والضراء .. وكل منهما للآخر معين ومساعد ... يعينه في سير الدنيا إلى الآخرة.
أخي المسلم: إذا لم تجد رفيقًا صالحًا وأخًا في الله فإن الوحدة وقراءة القرآن خير لك، والكتب النافعة أثمر والتزود من الطاعات أجدى وأنفع .. وقس الأمر وانظر أين الخير؟ !
فقد قال مالك بن دينار: كل جليس لا تستفيد منه خيرًا فاجتنبه (٢).
وقال بكر بن محمد العابد: قال لي داود الطائي: يا بكر، استوحش من الناس كما تستوحش من السبع (٣).
وقال عبد العزيز بن الخطاب: رؤي إلى جنب مالك بن دينار كلب عظيم ضخم أسود رابض، فقيل له: يا أبا يحيى، ألا ترى هذا
_________
(١) شذرات الذهب ٧/ ٨٥.
(٢) حلية الأولياء ٢/ ٣٧٢.
(٣) روضة العقلاء ٨٢.
1 / 12
الكلب إلى جنبك؟ قال: هذا خير من جليس السوء (١).
وعندما سئل إبراهيم بن أدهم: لم لا تصحب الناس؟
قال: إن صحبت من هو فوقي: تكبر علي.
وإذا صحبت من هو دوني: لم يعرف حقي.
وإذا صحبت من هو مثلي: حسدني.
لا تصحب أخا ... الجهل فإياك وإياه
فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين يغشاه
يقاس المرء بالمرء ... إذا هو ما شاه
وللشيء على الشيء ... مقاييس وأشباه
وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه
أخي .. اعلم أن كل من يحب في الله لابد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنسانًا لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلابد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله (٢).
_________
(١) روضة العقلاء ٨٢.
(٢) الإحياء ٢/ ١٨١.
1 / 13
والصحبة تنقسم إلى ما يقع عليه الاتفاق، كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب، أو في المدرسة أو في السوق، أو على باب السلطان أو في الأسفار، وإلى ما ينشأ اختيارًا وقصدًا، وأجلها وأعظمها الأخوة في الدين، فإن من رافق الأخيار أصبح منهم ومن سار مع الطيبين هبت نسمات الخير على وجهه .. فهم خير معين بعد الله في الدنيا وهم خير رفيق في السير إلى الدار الآخرة.
انظر إلى حالهم في الدنيا وإلى نماذج من صورهم الطيبة وأفعالهم الزكية .. فقد دخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد في مرضه فجعل يبكي فقال: ما شأنك؟ قال: علي دين! ! قال: كم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار، قال: فهو علي (١).
إذا أعجبتك خلال امريء ... فكنه يكن منكما يعجبك
فليس على الجود والمكرما ... ت إذا جئتها حاجب يحجبك (٢)
نعم من يحجب الإنسان عن التخلق بالخلق الحسن؟ ومن يمنع المرء عن معالي الأمور؟ ..
قال الشعبي: إن كرام الناس أسرعهم مودة، وأبطؤهم عداوة
_________
(١) حلية الأولياء ٣/ ١٤١.
(٢) مدارج السالكين ٣/ ٤٥.
1 / 14
مثل الكوب من الفضة يبطئ الانكسار، ويسرع الانجبار وإن لئام الناس أبطؤهم مودة وأسرعهم عداوة مثل الكوب من الفخار: يسرع الانكسار ويبطئ الانجبار.
وقال أبو حاتم: الكريم من أعطاه شكره، ومن منعه عذره، ومن قطعه وصله، ومن وصله فضله، ومن سأله أعطاه ومن لم يسأله ابتدأه، وإذا استضعف أحدًا رحمه وإذا استضعفه أحد رأى الموت أكرم له منه، واللئيم بضد ما وصفنا من الخصال كلها (١).
قال بعضهم لرجل وهو يعظه: جماع الخير كله في ثلاثة أشياء: إن لم تمض نهارك بما هو لك فلا تمضه بما هو عليك، وإن لم تصحب الأخيار فلا تصحب الأشرار، وإن لم تنفق مالك فيما لله رضاء فلا تنفقه فيما لله فيه سخط (٢).
أخي المسلم: إن ما نراه من التكلف وعدم التبسط بين الأحباب ومع الأصحاب مرده إلى عدم معرفتنا حقوق الأخوة في الله .. ومدى قوة هذا الوثاق.
قال عبد الله بن الوليد: قال لنا أبو جعفر محمد علي: يدخل أحدكم يده في كم صاحبه فيأخذ ما يريد؟ قلنا: لا، قال: فلستم بإخوان كما تزعمون (٣).
_________
(١) روضة العقلاء ١٧٤.
(٢) الزهد للبيهقي ٣١٠.
(٣) حلية الأولياء ٣/ ١٨٧.
1 / 15
ويقول الإمام الشافعي:
إذا المرء لا يلقاك إلا تكلفًا ... فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة ... وفي القلب صبرللحبيب ولو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه ... ولا كل من صافيته لك قد صفا
إذا لم يكن صفو الوداد طبيعة ... فلا خير في ود يجيء تكلفا
ولا خير في خل يخون خليله ... ويلقاه من بعد المودة بالجفا
وينكر عيشًا قد تقادم عهده ... ويظهر سرًا كان بالأمس في خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها ... صديق صدوق صادق الوعد منصفا
1 / 16
وصفات الصاحب الكريم صفات محبوبة وخصال حميدة .. والشاعر يميزه عن اللئيم فيقول:
وترى الكريم إذا تقدم وصله ... يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
وترى اللئيم إذا تقضى وصله ... يخفي الجميل ويظهر البهتانا (١)
بل يا أخي ..
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويحفظ السر إن صافى وإن صرما
ليس الكريم الذي إن زل صاحبه ... بث الذي كان من أسراره علما (٢)
قال بعض الناصحين: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب ينشر حسنتك ويطوي سيئتك، فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
وقال أبو حاتم: الواجب على العاقل أن يستعيذ بالله من صحبة من إذا ذكر الله لم يعنه، وإن نسي لم يذكره، وإن غفل حرضه على ترك الذكر، ومن كان أصدقاؤه أشرارًا كان هو شرهم، وكما أن الخير لا يحب إلا البررة، كذلك الردي لا يصحب
_________
(١) الإحياء ٢/ ١٩٥.
(٢) تاريخ بغداد ٥/ ١٥٨.
1 / 17
إلا الفجرة فإن المرء إذا اضطره الأمر فليصحب أهل المروءات (١).
إن أخاك الحق من كان معك ... ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب زمان صدعك ... شتت فيه شمله ليجمعك (٢)
أخي الكريم: إذا أجدبت الأرض وضاقت المسالك .. وادلهمت الخطوب وتاهت الدروب .. هناك يظهر لك الأخ الصادق والوفي ... تستأنس برأيه ... وتتقوى بهمته يهون عليك المصيبة ويحمل عنك ما أثقل كاهلك ..
أما إذا اخضرت الأرض وابتسمت لك الدنيا .. فالكل أصحاب وأحباب! !
وكل الناس إخوان الرخاء إنما ... أخوك الذي آخاك عند الشدائد (٣)
ومن مصائب الدنيا وشدائدها مصيبة الموت .. فما هو أثر الرفقة والصحبة .. عند الموت وبعده ...؟ ! هل إذا وسدت الثرى ينقطع ذكرك وينساك الأصحاب والأحباب؟ ! بل هو يترك أبناؤك لليتم والفقر والعوز .. بل والضياع؟ !
_________
(١) روضة العقلاء ١٠٢.
(٢) الإحياء ٢/ ١٧٨.
(٣) العزلة ٥٤.
1 / 18
كان بعض السلف يتفقد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة فيقضي حوائجهم (١) (٢).
ولهذا يوصي عمر بن الخطاب ﵁ فيقول: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم، فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يقليك منه، واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من يخشى الله، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره، ولا تطلعه على سرك (٣).
قال مالك بن دينار: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص (٤) مع الفجار (٥).
وقال أبو حاتم: العاقل لا يدنس عرضه، ولا يعود نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار، ولا يغضي عن صيانة عرضه، ورياضة نفسه بصحبة الأخيار، على أن الناس عند الخبرة يتبين منهم أشياء ضد الظاهر منها.
أخي الحبيب .. أين نحن من هؤلاء؟ !
كان أبو حنيفة ربما يمر بالرجل فيجلس إليه لغير قصد ولا
_________
(١) أعرف من قام بمثل هذا ثمانية عشر سنة.
(٢) منهاج القاصدين ١٠٨.
(٣) منهاج القاصدين ١٠٨.
(٤) نوع من الحلوى.
(٥) روضة العقلاء ١٠٠.
1 / 19
مجالسة، فإذا قام سأل عنه فإن كان به فاقة وصله، وإن مرض عاده حتى يجره إلى مواصلته (١).
وللرفيق حقوق وللصديق واجبات وقد ذكر سعيد بن العاص ذلك بقوله: لجليسي علي ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت، وإذا جلس أوسعت له (٢).
وقد ذكر الله ﷿ بعضًا من تلك الصفات الحميدة بين المؤمنين فقال تعالى: ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ إشارة إلى الشفقة والإكرام، ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده (٣).
وقال رسول الله ﷺ: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه» (٤).
إذا أنت صاحبت فكن فتى ... كأنك مملوك لكل رفيق
وكن مثل طعم الماء عذبًا وباردًا ... على الكبد الحري لكل صديق (٥)
هذه صحبة الأخيار ورفقة الصالحين تناديك –أخي المسلم-
_________
(١) تاريخ بغداد ١٣/ ٣٦٠.
(٢) الإحياء ٢/ ١٩١.
(٣) الإحياء ٢/ ١٩١.
(٤) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
(٥) التواضع والخمول ٣٧.
1 / 20
فهي عون لك في الشدائد ومنبه لك عند العثرات ... إعانة على الخير وتواصي بالصبر .. فالزم أهل الخير وجاور أهل التقى.
في الجانب الآخر .. ماذا نرى؟ ! إنهم الأشرار ورفقاء السوء ... تزيين للفاحشة وإضاعة للطاعات ... وإتيان للمحرمات ... لا تغني معرفتهم في الدنيا شيئًا ولا تثمر في الآخرة إلا شقاء وندمًا ... وصفهم الله جل وعلا يوم القيامة بأنهم أعداء .. انتهت تلك الرفقة وتلاشت تلك الصحبة ... وتحول كل ذلك إلى عداوة وبغضاء ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ ...
كان أبو الدرداء ﵁ يقعد إلى القبور، فقيل له في ذلك ... فقال: أجلس إلى قوم يذكروني معادي، وإن غبت لم يغتابوني (١).
وكانوا يتحرون للصحبة كبار السن من جمل الشيب مفارق رءوسهم وعلا الوقار حديثهم عصرتهم الأيام وخبرتهم الليالي .. أهل الدين والعقل والحكمة.
قال أبو عمرو بن العلاء: رآني سعيد بن جبير وأنا جالس مع الشباب، قال ما يجلسك مع الشباب؟ عليك بالشيوخ (٢).
ومن جلس اليوم إلى الشيوخ لم يرض بمجالس الشباب فهناك تخرج من أفواه الكبار الحكمة والقصة وتذكر السنين الماضية .. وما
_________
(١) منهاج القاصدين ٤٣٢.
(٢) روضة العقلاء ١٠١.
1 / 21
بينهما إلا ذكر الله واستغفار وتسبيح وتحميد .. فمن يداني تلك المجالس يربح ومن يلازمهم يفرح وإن أخذ منهم وأضاف لهم من علمه وقراءته فقد زكى ونما .. وله في تلك الرفقة دعوة ومعرفة وخلاصة تجربة .. وإلا فعليه بقول أبي الدرداء: لصاحب صالح خير من الوحدة، والوحدة خير من صاحب السوء، ومملي الخير خير من الساكت، والساكت خير من مملي الشر.
وقال أبو حاتم: العاقل لا يصاحب الأشرار؛ لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار، تعقب الضغائن، لا يستقم وده، ولا يفي بعهده.
وإن من سعادة المرء خصالًا أربعا: أن تكون زوجته موافقته، وولده أبرارًا، وإخوانه صالحين، وأن يكون رزقه في بلده.
وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرًا تكون مجالسة الكلب خيرًا من عشرته، ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم كما أن من يدخل مداخل السوء يتهم.
قال الزهري: وهل ينتفع من السيئ الخلق بشيء (١)؟
وقال وهب بن منبه: الأحمق كالثوب الخلق، إن رفأته من جانت انخرق من جانب آخر، مثل الفخار المكسور لا يرقع ولا يشعب ولا يعاد طينا.
فهذا مثل الأحمق: إن صحبته عناك، وإن اعتزلته شتمك، وإن
_________
(١) روضة العقلاء ٦٥.
1 / 22