ينسى رستم أن زوجته ماتت، ويزعق بصوت أعلى، يشعر في غيابها بحرية أكبر للغضب منها، أو ربما بشجاعة أكبر. - فين النضارة؟ سامعاني؟ - ... ... - تسمعيني إزاي وانتي غرقانة في الرواية. - ... ...
الرواية، الرواية، الرواية.
لم يكن رستم يكف عن ترديد هذه الكلمة حتى تضج كارمن وتقذف بقلمها إلى الأرض زاعقة: وماله لما أغرق في الرواية؟! حرام إني أغرق في الرواية؟! هي الرواية دي راجل تاني؟ - لو كانت راجل تاني كان أحسن، على الأقل يأخذ نص عقلك وأنا آخذ النص الثاني، كده بالعدل والقسطاس. - أيوه، زي العدل بين الزوجات.
تسيطر نوبة الغضب على رستم وهو يقرأ الفصل الأخير، يدون الحوار بين الزوجين في الرواية كما كان يدون بينه وبين زوجته، ثم تنقضي لحظة الغضب، يعثر رستم على الشيء الضائع منه كان ينسى أحيانا ويضع النظارة في الثلاجة، ويقول لكارمن العباقرة مصابون بداء النسيان، لأن عقلهم مشغول بالأشياء الأهم، يحكي لها عن ليسنج العظيم، ذات مرة عاد في الليل إلى بيته ودق الباب (كان قد نسي المفتاح) فأطل خادمه من النافذة، منعته الظلمة من رؤية سيده، تصور أنه زائر، فقال معذرة يا أستاذ، سيدي ليس بالمنزل، فاستدار ليسنج مبتعدا، وهو يقول حسنا سأعود مرة أخرى.
وتضحك كارمن على هذه الحكاية في كل مرة تسمعها من زوجها، تقول لنفسها: لا بأس من إظهار الإعجاب بقصص الزوج المعادة مثل كل الزوجات السعيدات، وهي زوجة ليست غير سعيدة، تحظى بحرية أكبر من النساء، لكنها أقل من الحرية الضرورية للكتابة، تحس بشيء في أعماقها محبوس، ليس الروح ولا الجسد ولا العقل، شيء مجهول بداخلها في العمق، تحاول أن تفك قيوده، يشبه المارد المربوط بالحبال، تسعى بالكتابة لتحريره من دون جدوى، كأنما المرأة لا يمكن أن تكون حرة بينما النساء مكبلات، ولا يمكن للكتابة أن تحرر في عالم تغيب منه الحريات.
يتنهد رستم وهو يقرأ، آه صحيح، يبدو كلام كارمن معقولا بعد موتها، ربطوها في المستشفى بأعمدة السرير، سلطوا على رأسها تيار الكهرباء، كان هدفهم هو رأسها وليس الجسد أو الرحم أو الروح، فقط رأسها وما هو داخل الرأس، عقلها كان هو المطلوب ليسحقه التيار الكهربائي، جريمتها كانت في عمق الرأس حيث مركز العقل، وانتصرت عليهم كارمن في اللحظة الأخيرة قبل الموت، انطلق المارد من أعماقها، بقوة مجنونة، كافية لتدمير العالم، كانت حركتها هي الأخيرة قبل انعدام الحركة، قمة اليأس حين تصبح الحركة الأخيرة هي ذروة الأمل، وتصبح الكلمة المكبلة بالقيود منطوقة.
أنهى رستم الفصل الأخير من الرواية، أصبح جالسا في السرير خلف ظهره الوسادة، لا يريد أن ينام ولا يريد أن يصحو، يتمنى الظلام الكامل ليفقد الوعي، ضغط على الزر ليطفئ النور لكن الظلام لم يتحقق، هناك ضوء يتسرب من شقوق الشيش، يضيء الحرف وراء الحرف وينطفئ، ويعود يضيء من جديد، من دون توقف، يقول لنفسه: لن يبقى بعد موته شيء إلا هذا الإعلان، وهناك شيء أفظع من الموت، وهو الأرق، عدم القدرة على النوم، لا يستطيع أن ينام إلا في الظلمة الكاملة، كان ينام كل ليلة من دون جهد، ربما ليس هو رستم الذي كان، ربما لم يكن هو رستم أبدا، كان شبيها برجل اسمه رستم، زوج كارمن في الرواية، عضو المجلس الأعلى صاحب أعلى الجوائز، ليس هو هذا الرستم المتكور حول جسده في السرير، تفوح منه رائحة ماء الكولونيا لافندر، ورائحة أخرى تشبه العرق يلتقطها أنفه لأول مرة.
ينهض رستم ليدخل إلى الحمام، يغسل جسده بالماء والصابون داخل البانيو، يتعكر الماء بلون أصفر له رائحة العرق، يخرج رستم من البانيو، ينظر في المرآه فوق الحوض، يرى شخصا يقف خلفه يزغلل عينيه بضوء في يده، يستدير بسرعة مستعدا للدفاع عن نفسه، لا أحد هناك، مجرد ضوء الإعلان في الشارع يتسلل خلف نافذة الحمام، يستدير رستم وينظر إلى وجهه في المرآة، يعود الشبح إلى الظهور من خلفه، وجه رجل نسخة منه يقف خلفه مباشرة، بعد الاستدارة أدرك الخدعة، مد يده إلى الفرشاة، غمر وجهه وذقنه بمعجون الحلاقة، ملأت أنفه اللافندر، سيعود إلى السرير لينام مع زوجته، ليأخذها بقوة دون إرادتها، لا شيء يعالج الأرق إلا العنف والعرق الغزير إلى حد الغرق.
ويرفع رستم رأسه إلى السقف، أبيض مصقول إلا من نقطة سوداء تتحرك خفية، ربما ذبابة أو بعوضة، لم يكن يستطيع النوم في مكان واحد مع ذبابة أو بعوضة، كان يصعد فوق السلم ويطاردها بالملطشة، تهرب منه في مكان خفي، لا يعثر عليها أبدا في أي مكان، ربما هربت إلى غرفة النوم تحت السرير، ينثني ليبحث عنها تحت السرير، وراء الدولاب، من دون جدوى ... معركة تدور بينه وبين البعوضة، يهمس لنفسه بلا صوت، عقلها أذكى من عقلي، لو سمعه المنافسون له هذه اللحظة؟ أو لو رأوه وهو يزحف تحت السرير باحثا عن بعوضة؟ طرد الفكرة من رأسه بحركة من يده، ولماذا لا يتطور عقل البعوضة كما تطور عقل المرأة، وأصبحت كاتبة؟
ويقفز رستم فوق السرير بحركة طفولية، في أعماقه طفل وإن أصبح جسمه طويلا عريضا، يكاد يدفن وجهه في الوسادة كأنما صدر أمه أو أختها التوأم، يرفع رأسه عن الوسادة فجأة، خطرت له فكرة لم تخطر له من قبل، عاد إلى الحمام، فتح خزانة الأدوية، هناك زجاجة من البلاستيك داخلها الحبوب، كان يأخذ حبة واحدة أو نصف حبة قبل النوم، أفرغ الزجاجة كلها فوق الرف الزجاجي، كان عددها أربعا وثلاثين حبة، قال لنفسه: ربما تكفي، الأمر سهل، مع كوب من الماء أو نصف كوب، أمر سهل جدا، يبتلعها كلها دفعة واحدة.
Неизвестная страница