وتطبق كارمن شفتيها في إعياء، تتعلق بهما عينا الفتاة، قلبها يدق تحت ضلوعها، تلهث وهي جالسة إلى جوارها، المستشفى غارقة في الظلمة والصمت، الكون كله نائم إلا هي جالسة في مقعدها، وكارمن راقدة في سريرها، يأتيها صوتها كأنما من أفق بعيد، كأنما تمسك روحها بيدها، وتحلق بها فوق المدينة، تنفرج شفتاها عن صوت هامس كمن تتكلم في النوم، تخشى إن رفعت صوتها أن تصحو: إلا إيه يا كارمن؟
ويأتيها الرد بصوت لا يشبه صوت كارمن قبل أن تدخل المستشفى، قبل أن يسلطوا على رأسها تيار الكهرباء: إلا الكتابة يا ابنتي.
ترن كلمة ابنتي في أذنيها، أول مرة تسمعها بصوت كارمن، صوتها أصبح ضعيفا خائرا، مثل صوت امرأة مكسورة الجناح، زوجة مهجورة أو أم مكلومة، ليست هي كارمن التي عرفتها.
كانت الفتاة حائرة، يدور السؤال في رأسها، هل تختلف أحزان المرأة عن أحزان الكتابة؟ ويسألها رستم وهل تختلف أحزان الرجل عن أحزان الكاتب؟
تلجأ الفتاة إلى سميح، يقول لها: الكتابة ترفع الرجل عما يسمى الرجولة، وترفع المرأة عما يسمى الأنوثة، الكتابة ترفع الإنسان إلى مستوى أعلى من الفروق القائمة بيننا.
وتقول مريم الشاعرة: يضحي النساء بالكتابة من أجل الرجل، وبالحرية من أجل الحب! منتهى الغباء.
كلمات مريم ترفع الفتاة إلى أفق جديد، كأنما تمسك روحها بيدها وتحلق بها فوق السحاب، تسبقها في التحليق فوق قمم الأهرامات، ثم تتركها خلفها تتخبط بين السماء والأرض، معلقة في الفضاء مثل السؤال المعلق في رأسها، هل أحب رستم خالته ولم يحب امرأة غيرها؟ كان يقول عنها أجمل امرأة، لم يعرف امرأة أرق منها، لم يكن ما فعلته إثما، بل الحب النادر، أكبر من حب الأم، تعيده إليها لتلده مرة أخرى أكثر تجددا.
تنهشها الغيرة من خالته الميتة، غريمتها ليست امرأة لها جسد، بل خيال أو صورة يحلم بها رستم في الليل! فهل يمكن لها أن تنافس خيالا أو صورة تعيش في ذاكرته مثل الروح؟ وتقول جمالات: أنت مجنونة ومكانك المستشفى مع كارمن. ويقول سميح: الكتابة مثل الحب تنبع من قمة الجنون. لكن مريم الشاعرة تقول: الكتابة مثل الحرية تنبع من قمة العقل. •••
كان يوما من شهر أغسطس، أسفلت الشارع يلين تحت حذائها من شدة الحرارة، التراب يتصاعد إلى أنفها مع رائحة المجاري وزيت يغلي على النار، الزحام شديد، وجوه شاحبة مبللة بالعرق مثقلة بالحزن، نظرات غاضبة مكتومة تختفي تحت غطاء أملس ساكن مثل سطح البركان، رءوس النساء ملفوفة بحجاب أبيض أو أسود، أو متعدد الألوان، عيونهم مطرقة إلى الأرض، خطواتهم ثقيلة بطيئة، السيارات تتسابق وأصوات الأبواق تزعق مع أصوات الميكروفونات وصراخ الأطفال، وعويل النسوة وراء نعش ميت، الشمس عمودية ترسل لهبا، الرطوبة بلغت ذروتها وضاعفت الحرارة.
توقفت الفتاة لتمسح العرق عن وجهها بمنديل من الورق، لمحت في هذه اللحظة رأس رستم داخل السيارة المرسيدس، شعره الأسود الغزير تتخلله الشعرات البيض، بشرته الملوحة بالشمس، يداه فوق عجلة القيادة تتحركان بثقة وثبات، إلى جواره امرأة شعرها أبيض، ينظر إليها ويداه فوق عجلة القيادة، في عينيه ابتسامة لم ترها أبدا، سألته عنها حين التقت به في الليل، أنكر أول الأمر، ثم اعترف أنها صديقة له منذ سنين طويلة، تجمعه بها علاقة خاصة، وقال خاصة جدا.
Неизвестная страница