وقالت كارمن للفتاة حين زارتها في المستشفى النفسي: ما جدوى أن يربطوني بالحبال في أعمدة السرير؟ ما جدوى أن يحبسوا روايتي في الدولاب المغلق بالضبة والمفتاح؟
كانت كارمن راقدة في الغرفة رقم 1438، بعد أن سلط الأطباء على عقلها التيار الكهربائي، لم تفقد الذاكرة رغم قوة الكهرباء، تعرفت على وجهها في ملامح الفتاة، تشبه ابنتها الغائبة من الذاكرة، ولدتها في مكان وزمان لا تدري عنهما شيئا، راقدة وحدها في الغرفة المغلقة الأبواب بالقضبان الحديدية، تشبه الزنزانة في السجن، على رأس السرير تتدلى ورقة مكتوب عليها اسم المرض، زارتها الفتاة في وقت متأخر من الليل، بدت المستشفى جسدا أبيض راقدا في الفراغ، المرضى نائمون غائبون عن الوعي، مخدرون بالسم المحقون في الدم، أو التيار المسلط على الدماغ، يبدو المكان مهجورا والزمن منتهيا، المبنى كله غارق في غيبوبة النوم أو الموت، مرضى ومريضات، أطباء وممرضات، إلا هي كارمن كانت واعية صاحية تنتظر الفتاة، لم يعد أحد يزورها إلا الفتاة، ملامحها تشبه طفلة رأتها في الحلم، أو في المرآة، وهي طفلة صغيرة، كانت راقدة مربوطة بالحبال، إلى جوارها فوق المنضدة علبة الأدوية والحبوب المنومة والأقراص المضادة للاكتئاب، وإبريق الماء وصحون طعام، وكل ما يحتاجه الإنسان إلا الورقة والقلم، وفوق جبينها المكتوب قبل أن تولد، قرار الاتهام والإدانة ...
لم يعد في إمكانها أن تنام رغم المنومات، تسرق من الليل ساعة أو نصف ساعة، ثم تفتح عينيها المفتوحتين منذ الولادة، وتبقى شاردة في الأفق حتى تظهر نجمة الصباح، يصبح النهار طويلا كالعبء تحمله وتمشي به، رغم أنها راقدة في السرير، تركب سيارتها الفيات الصغيرة وتجول بها في شوارع المدينة، إلى جوارها تجلس الفتاة، يختلسان من وراء الزمن ساعة أو نصف ساعة، يغار زوجها من الفتاة كأنما هي العشيق السري، أو الورقة والقلم والصفحة البيضاء، يتقرب إليها بأمل إبعادها عن الكتابة، من دون جدوى. ظلت الرواية تطاردها حتى الموت، وكانت الغرفة في المستشفى مظلمة، صف طويل من الغرف المغلقة، أبوابها من الخشب المطلي باللون الأبيض، كل شيء في المستشفى أبيض حتى الكفن، وأعمدة السرير والأروقة، والأنين المسموع وراء الجدران، وكعوب أحذية الأطباء فوق البلاط، وجاء رستم في زيارة بوجه كالملاك ثم تلاشى تحت الضوء مثل سحابة الصيف. وقالت كارمن للفتاة وهي مربوطة بالحبال: افتحي الدولاب واقرئي الرواية، إن الكتابة تمرين منذ الولادة حتى الموت، وتدريب على النطق من دون خوف، وهذا مستحيل لأننا نعيش ونموت في خوف، النار الحارقة والكهرباء الصاعقة والأقراص المانعة للاكتئاب.
وتواصل كارمن الكلام، لا خلاص ولا أمل إلا بالكتابة، ترى الفتاة في عينيها الدموع، لم تهزمها إلا دموعها، تبقى إلى جوارها متجمدة داخل السكون، إن مدت يدها لتلامسها تنتفض وتصحو من الغيبوبة، تبتسم في وجهها فتدرك أنها ابنتها الضائعة منها، تريد أن تطلق سراحها من أكذوبة الحب، كأنما في يدها أن تطلق سراحها، وفي يدها مفتاح سجنها!
لعبة الحب كانت ترهق رستم، مثل لعبة الكتابة والانتخابات. كان يقول: الثلاثة تنقصها الأمانة وصدق النوايا، أقبح ما في الثلاثة أن وجوه اللاعبين تنم عن الجد والرصانة، يتشدقون بكلمات فخمة مفخخة بالعدل والحرية، يتناثر لعابهم في الجو من شدة ما يضغطون على الألفاظ، يستعيرون من كتب الله ما يشاءون ويتركون ما يشاءون، كلهم ضحايا وآثمون، رجال خونة، إلا زوجته الوحيدة دون العالمين يحبها، بعد أن يغرقها في الحب يسرع إلى نساء أخريات، كأنما الخيانة ليست إلا تأكيدا للحب، يريد أن يشرب كئوس العالم ليعود إلى كأسه المفضل، وهي تكتب عنه روايتها، تناديه باسم رجل آخر، تخلقه بشكل آخر يروقها، لم تجذبها ملامحه الحقيقية، ولا رواياته المجلدة بأغلفة براقة، ولا صورته المنشورة على الناس، تحاول التخلص منه في صورة الرجل الآخر، تهزها دموعه حين يعود إليها تائبا، يركع بين يديها كأنما يصلي، يطلب الرحمة والمغفرة، كالطفل الباكي بين ذراعي أمه، أو العبد المؤمن بين يدي الإله المعبود، وفي الصباح تفتح عينيها لتجده بين ذراعيها، تنفرج شفتاه عن ابتسامة حين يراها، ابتسامة خاصة به وحده، لا تشبه ابتسامة أي رجل آخر، تدرك عن يقين أنها تحبه، لن تحب أحدا غيره، تريد منه أن يرتدي ملابسه ويخرج دون عودة.
وقال رستم للفتاة ذات يوم: أنت وكارمن نقيضتان، لا شيء يجمعكما إلا جنون الكتابة، لا يتسع فراش الواحدة منكما لرجل أو نصف رجل؛ فالمساحة كلها مشغولة بأوراق الرواية، والأقلام المقصوفة والدموع الجافة، تحتضن كل واحدة منكما روايتها وهي نائمة كأنما رجل تعشقه، تريد أن تلتهمه حتى النخاع، لتلد منه طفلها ثم تلقيه بعيدا مثل مصاصة قصب.
لم تكن مريم الشاعرة مثل زوجته، يشعر الرجال في حضورها أنها لا تشبه النساء، لا تنطبق عليها مقاييس الأشياء، لا يمكن لرجل أن يملكها وإن كانت بين ذراعيه، لم تكن زوجة ولا عشيقة ولا حبيبة ولا عاهرة ولا فاضلة، كانت هي مريم الشاعرة، وما هو غير ذلك، كانت المستحيل والسراب الذي يجري وراءه الرجال والنساء من دون جدوى، كانت قادرة على الاستغناء عن كل ما يقود إلى الفناء مثل الخنساء، أو الشاعرة الزباء، تردد أبياتها بعد أن اختارت الزباء الشعر بدلا من أملاك الأرض وخزائن الخلق:
أمن بعد أن أمسي وأصبح حرة
وليس علي للرجال يدان
أصير لزوج مثل مملوكة له
Неизвестная страница