أما جمالات فلم ترسل شيئا، إلا الباب الذي تكتبه في الجريدة كل أسبوع، أعطت له عنوان: ضياع شرف الأمة الإسلامية. يا رب العالمين أنقذ شرف الأمة من الضياع، تزايد الفساد في بلادنا وامتلأت الملاجئ والشوارع باللقطاء والأطفال غير الشرعيين، يا رب العالمين أنقذ شرف الرجل من عبث النساء السافرات، خلقت المرأة من ضلع أعوج كما قال الرسول عليه السلام، إن حاولنا إصلاحه انكسر، فارحمنا يا رب العالمين، ولا تكشف الفضائح والمخازي وانتهاك العرض في سجن أبي غريب، واحتلال الأرض في فلسطين، وخديعة رئيس الحكومة لمجلس الشعب، وعجز الموازنة وتضخم الديون، وعدم تطبيق الشريعة القوانين، وانصر يا رب رجال المقاومة في العراق ونساءها، فالمرأة المسلمة المقاتلة تنقذ شرف الأمة، سبحانك يا رب تضع سرك في أضعف خلقك، وتجعل شرف الأمة في يد الأنثى، تنقذه إن ماتت شهيدة الوطن، وتهدره إن سقطت وغواها الشيطان. •••
وهما ترشفان الشاي فوق السطح تحت أشعة الشمس، قالت أناجيل: لا تعودي أبدا يا نورية، إن عدت ربما تتعرض طفلتك للخطف أو للقتل، وهي مولودة بريئة لم تفعل شيئا، وأنت أيضا ستنالين العقاب، أرجوك لا تعودي، أنت هنا في وطنك، فالوطن هو حيث يكون الحب وحيث تكون الحرية.
يولاندا حوطت الطفلة بذراعيها، حفيدتي الوحيدة ليس لي في الدنيا غيرها، لا تعودي وإن عدت فهي ستبقى هنا في وطنها وسط أهلها، هذا حقها ولن تسلبها هذا الحق أية قوة وإن كانت نووية.
في الليل يرفرف الشيء تحت ضلوعها، يعود إليها وجه سميح ورستم وكارمن ومريم، حتى جمالات تعود بحجابها الملفوف حول رأسها، وحاجبيها الرفيعين المرسومين بسن القلم، وضحكتها المجلجلة، وصوتها يقول: ألف مبروك على الشغل الجديد يا حبيبتي.
كان سميح قد عثر لها على وظيفة، أمينة المكتبة في النادي الرياضي، اشترت الفتاة حذاء كاوتش متينا، أصبحت تمشي في الصباح الباكر أربعين دقيقة من بيتها إلى عملها، تخرج من الزقاق الغارق في المجاري إلى شارع المبتديان، تغرق في الزحام، والتراب المتصاعد تحت عجلات السيارات والأتوبيسات والموتوسكلات والدراجات وعربات الكارو، تجتاز شارع قصر العيني كمن تغوص في دوامة البحر، تظهر على البر في الناحية الأخرى، تنفض عنها الغبار والهلع، تدخل إلى حي جاردن سيتي كأنما تدخل إلى مدينة أخرى في عالم آخر، حيث يعيش الناس في هدوء، وراء الأسوار العالية تظللها الأشجار وزهور البوجانفيليا الحمراء دم الغزال، المباني الحديثة أو القصور القديمة ذات الأعمدة الرخامية أو الحجرية على الطراز الأوروبي، السفارة البريطانية بأسوارها العالية تشبه القلعة في العصور الوسطى، السفارة الأمريكية أسوارها أكثر ارتفاعا، تعلوها الأسلاك المكهربة والعيون الإلكترونية وأجهزة المراقبة والرادار، تخرج من مدينة الحديقة (جاردن سيتي) إلى كورنيش النيل، تملأ صدرها بالهواء، تمشي فوق الرصيف، فندق الميريديان الضخم يحجب السماء، سائحات أمريكيات بالقبعات الملونة والصدور العارية، رجالهم يرتدون الشورت والتيشرت، ونساء خليجيات تحت الخيمة السوداء، تبرق عيونهن السود من الثقوب، رجالهم يرتدون البدل أو الجلابيب مع اللحى والذقون، أصابع أقدامهم تطل من الصنادل المفتوحة، وحبات السبحة الصفراء تتراقص بين الأصابع، بحسب المذهب أو الحزب، يمين أو يسار أو وسط، يتأرجح رستم بين اليسار واليمين، ينتقل سميح ما بين المعارضة والحكومة، تقف كارمن على الحياد، وتقول الفن للفن وليس للسياسة، أما مريم الشاعرة فهي تنشد قصيدتها بعنوان: عصر الهزيمة والنفاق، يعقدون الصفقات في لندن ونيويورك وتل أبيب، يدبجون المقالات الطويلة عن التنمية والاكتفاء الذاتي، يتنافسون على تقبيل يد الرئيس والسيدة الأولى ... وأنا اسمي مريم باسم العذراء الطاهرة، ابنة حواء الآثمة، أعاقر الخمر وأعاشر الشيطان، لأكتب الشعر.
قبل كوبري قصر النيل، ترقد العوامات فوق الماء، تتثاءب في استرخاء، وقوارب صغيرة مزركشة بالألوان والأعلام جاهزة لنزهات السياح، يحرسها صبية من الصعيد، عظامهم بارزة تحت البشرة السوداء المقشفة، عيونهم صفراء واسعة مملوءة بالحزن. عن اليمين فندق شبرد الأبيض، مكان الفندق المحروق منذ نصف قرن أو أكثر، يوم حريق القاهرة في نهاية العصر الملكي، يبدو قزما إلى جوار فندق الإنتركونتنال الضخم مكان سميراميس القديم، تنحرف إلى اليسار فوق الكوبري المهيب، يحرسه الأسدان المتوحشان، ترتفع فوقه الأعلام وصورة الرئيس، بالحجم الطبيعي، معلقة فوق قوس النصر، يلفحها الهواء الشمال والجنوب، ومن الشرق والغرب، لكن الله سبحانه وتعالى كما تقول جمالات يثبتها بالمسامير، وبالانتخابات الحرة والاستفتاءات، حيث يقول الشعب الوفي الأمين، نعم، نسبة 98,80٪، تطورت الأحوال في عصر الديمقراطية، وانخفضت النسبة عن 99,90٪.
مبنى الأوبرا الأبيض يظهر عند نهاية الكوبري، ينتصب على أبوابه الحراس من الطبقة الدنيا، ملابسهم لامعة، عيونهم شاحبة، لا يدخل الأوبرا إلا النخبة، المثقفون والمثقفات، المفكرون والمفكرات، يدخلون الانتخابات تحت اسم فئات، من التيارات والأحزاب المتعددة، يرتدي الرجال ربطات العنق الملونة، يسمونها الكرافتة، ترتدي النساء فساتين السهرة مع حجاب الرأس، المتطور على شكل التيربون، وقد يكون الشعر عاريا دون غطاء والعنق مكشوفا حتى الشق العميق بين النهدين، وكلمة «الله» تتدلى فوق الصدر من سلسلة ذهبية، وخمسة خميسة لصد عين الحسود.
تسير في الشارع المظلل بالأشجار حتى الباب الخلفي، تدخل منه مع العمال في النادي، أصبحت لها بطاقة عليها صورتها واسمها الثلاثي وحالتها الاجتماعية، متزوجة، أو مطلقة أو عذراء، والحالة الانتخابية، عمال أو فئات، وغيرها من الخانات، الديانة ومهنة الأب والزوج، وعدد الأطفال، وبصمة الإبهام والخلو من السوابق، كانت تترك هذه الخانات خالية، حتى خانة الجنس، أنثى أو ذكر لم تكتب فيها شيئا. حملق الحارس في بطاقتها طويلا متشككا وسألها: إنتي جديدة هنا؟ - أيوه. - بتشتغلي إيه؟ - في المكتبة. - مع سيادة اللوا صبحي باشا.
أربع كلمات مرعبة مرهبة، أكثرها رعبا ورهبة هي «باشا»، من الألقاب القديمة في عصر الإمبراطورية العثمانية، كان يحملها الوزراء ورؤساء الوزراء والمماليك وقيادات الجيش، وكلمة «اللوا» بالعامية تعني «اللواء» بالفصحى، من ألقاب الجيش الرفيعة في عصر الجمهورية تحت الحكم العسكري، لا تقل رهبة عن «الأميرالاي» في العصر الملكي.
تشق طريقها عبر مشتل الزهور، عن يسارها نادي الفروسية، طفل مدلل (في فمه بزازة) يركب حصانا صغيرا أبيض، يجره السايس، رجل عجوز نحيف الجسم محروق بالشمس أسود مجفف مقشف، يبربش بجفون متآكلة سقطت رموشها.
Неизвестная страница