لم يحاول سقراط في دفاعه أن يبرئ نفسه، وقد كان في مقدوره أن يشيد بتاريخه العسكري، ولكنه حاجهم فيما يتعلق بالدين وأحرجهم حتى لم يستطيعوا الكلام، ثم أقنعهم بأنه ليس له مدرسة ولم يتناول أجرا ما، وبعد ذلك أفاض في وصف المعجزة وآثارها وانتهى إلى شرح رسالته، وأخيرا قال: «إن الفلسفة بحث عن الحقيقة، ولكن هذا البحث أثناء الحياة يرى من خلال ثقوب، أما بعد الموت فهو يستكمله بلا ستار وحجاب»، وبعد ذلك أخذ يمتدح الموت كباب من أبواب الخلاص والمعرفة الحقيقية.
وكان المحكمون خمسمائة وحكموا عليه بالإعدام بأغلبية قليلة.
ولدواع مقدسة، تأجل التنفيذ شهرا، فأخذ يقضيه في تعليم أصدقائه وتلاميذه حتى اليوم الأخير؛ وحتى في صباح ذلك اليوم أخذ يحدثهم عن عظمة الموت، فلما حان ميعاد التنفيذ قدم له السجان الكأس وهو يبكي، فقال للسجان: لماذا تبكي؟ إنك تأخذ جسدي فقط.
وأخذ محبوه يبكون، فزجرهم، وتناول الكأس سرورا راضيا ، ثم وسد نفسه، ومات بهدوء تام. •••
إن ساعة مع «أفلاطون» العظيم، أقل من أن تطلعنا على جزء من ألف من تفكير ذلك الذهن الجبار، والواقع أني لا أشبه في هذا الزمن القصير أكثر من سائح أو دليل أو مقدم مسارد أتى أمام أفلاطون، أراني قبل موسوعة فخمة، وعظمة هذه الموسوعة قائمة في أنها أساس كل تفكير حديث، فنحن نجد بها ما ننشده من الحديث عن الفن والأدب، وما نتطلبه من البحث في نظم الحكم، وما نتخيله عن العالم الكامل، وما نريد أن نعرفه من أصول علم النفس، وما نود أن نلم به من مناهج التعليم، وفي الحق إن الإنسان ليحار في كنه ذلك الفكر الجبار الذي استوعب كل ذلك وفصله ذلك التفصيل الخارق المعجز، والمدهش أنه لم يكتب بأسلوب فلسفي غامض أو قلق، بل كتب بأسلوب شعري واضح جميل، حتى إن الإنسان ما يكاد يبدأ القراءة حتى يجد نفسه مسوقا إلى النهاية على الرغم منه، كأنه يقرأ رواية رائعة، ويكفي متعة أن نعود إلى المحاورات من وقت لآخر، وأن نخوض في «الجمهورية» كما نخوض عباب يم زاخر، يكفي هذان على الأقل ولا نتحدث عن الباقي من مؤلفاته.
على أن الذي يريد أن يقرأ «أفلاطون» عليه أن يلم بعصره، وأن يلم بحالة بلاده في ذلك العصر من حيث الحكم والاقتصاد والحرب والسياسة، وعليه كذلك أن يلم بسيرته هو من حيث إقامته وظعنه، ومن حيث أن بدأ تلميذا إلى أن انتهى معلما وفيلسوفا تام النضج.
نبدأ الآن بوصف صغير لليونان، في عهد «أفلاطون»، فقد ولد «أفلاطون» في أثينا سنة 427ق.م، واليونان في الخريطة تشبه يد هيكل عظمي تمتد في البحر الأبيض المتوسط وتشير إلى كيت، كأنما تشير إلى المنبع الذي سرت منه الحضارة إليها وإلى غيرها، إلى شرق اليونان نجد آسيا الصغرى، وهي في تاريخنا الحاضر هادئة وادعة، ولكنها في عصر «أفلاطون» كانت تموج بالفلسفة، وتزخر بمختلف ضروب النشاط الفكري والتجاري؛ وإلى الغرب نجد إيطاليا وصقلية قد كانتا تابعتين لليونان وفيهما مدارس لامعة للفكر والثقافة والعلم، وإذا اتجهنا إلى الشمال فثم مقدونيا وتساليا وأبيروس وقد كانت هذه الأبواب التي دخل منها الهمج الذين عمروا اليونان، ومن مزاجهم العنيف القوي انحدرت إلى التاريخ عقول جبارة مثل نهومير وبركليز وغيرهما.
كانت اليونان في عهد «أفلاطون» مكونة من مدن مستقلة تسمى الواحدة منها المدينة الدولة، وساعد على استقلال كل منها ما يحيط بها من المرتفعات ويفصل بينها من الخلجان ويحيط بها من التضاريس، فمذ كانت المواصلات بين المدينة والأخرى من الصعوبة بمكان، استقلت كل منها بنفسها. ومن أشهر هذه المدن اسبارطة، التي كانت تنافس أثينا كما كانت ألمانيا تنافس إنجلترا في العصر الحاضر، ولقد كانت اسبارطة قوية في البر كما كانت أثينا قوية في البحر، فكانتا تتحدان ضد العدو المهاجم، حتى إذا انصرف العدو، عادتا للتنافس الحار، ولقد كشف «برتراند رسل» في كتابه عن الفلسفة الغربية سر المصدر الذي منه استقى «أفلاطون» معلوماته عن المجتمع والحكم، فقد سرد «برتراند رسل» في كتابه المذكور تفاصيل النظم والقوانين في اسبارطة، فإذا هي هي تعليم «أفلاطون» مع تغيير قليل، غير أن أهل اسبارطة كانوا يهدفون إلى بناء أجسام قوية جميلة رشيقة، حتى إنه كان يتحتم على البطل إذا مات في الحرب أن يموت «برشاقة» أي يموت كما ينام، بلا أنين ولا دمامة ولا اضطراب، أي يمهد قبره كما يمهد فراشه! ولكن «أفلاطون» عاب على المربين أن ينصرفوا هذا الانصراف الكلي لتنشئة الأجسام، وأشار بأن يتجهوا إلى نواح أخرى سنفصلها فيما بعد.
على أنه في التنافس المذكور، كانت أثينا هي الغانمة، فإن ميناءها بيريه وأسطولها الذي كان في الحرب محاربا وفي السلم تاجرا، جلبا إلى أثينا التجار من مختلف الملل والنحل، وكان جوب البحار سببا في أن يدرس اليونانيون الفلك، كما كانت المبادلات التجارية سببا في أن يدرسوا الأرقام الرياضية، وكان الرخاء سببا في توفير الوقت الذي هو العنصر الأول في البحث والاختراع والتفكير الحر، فأخذ الإنسان يفكر في طرق طبيعية يفسر بها الحوادث الكونية، وانصرف عن تفسيرها بواسطة الخرافة والسحر، فمن ثم بدأت الفلسفة، على أن الفلسفة بدأت طبيعية؛ أي بدأت تتفهم «طبيعة الأشياء» وقد انتهى ذلك العهد بالفيلسوف «ديمقريطس» الذي كان يعتقد أن الكون «ذرات وفراغ»، وكان من مؤيديه «أبيقور» ثم «لوكريتس» في قصيدته الخالدة. غير أن مجيء السوفسطائيين بدل اتجاه ذلك التيار؛ فإن هؤلاء نقلوا التفكير من محيط الأشياء إلى محيط الإنسان، ومهما يوجه إليهم من النقد من حيث اعتمادهم على البيان المدوي واللفظ المزخرف المجلجل، فقد ظهر من بينهم رجال ذوو عمق وفهم وأصالة مثل «بروتاجوراس» و«هيبياس»، على أن السفسطائيين هم الذين ابتدعوا طريقة الحوار والجدل والتساؤل، وقد كانوا شجعانا، يقفون مدافعين عن آرائهم مهما كان وراء هذا الدفاع من المسئولية والخطر. وكانت آراؤهم السياسية تنقسم إلى فريقين، فمنهم من كان - مثل «روسو» فيما بعد - يدعو إلى الرجوع إلى الطبيعة على زعم أن الناس يتساوون دائما أمام الطبيعة، والفريق الثاني - مثل «نيتشه» فيما بعد - يدعو إلى القوة، ويقول: إن القوانين إنما أرادها الضعيف لتحد من مطامع القوي، مع أن القوة هي كل شيء.
فلما ظهر «سقراط» سار على طريقة السوفسطائيين، غير أنه أول من دعا نفسه بالفيلسوف، أي عاشق الحكمة، بخلاف كلمة سوفسطائي التي معناها «غارق في الحكمة»، وكان يقول عن نفسه: «إني على يقين من شيء واحد هو أني لا أعرف شيئا ...» ويشبه في العصر الحديث فيلسوفا كبيرا - «برناردشو» على الأرجح - في قوله: «في الأربعين اكتشفت اكتشافا هاما: اكتشفت علمي بجهلي.»
Неизвестная страница