ثاني عشر: النظر والعمل
ومن أهم التيارات في الفلسفة الحديثة تحويل المسيحية من مستوى النظر إلى مستوى العمل، فقد تحول الدين عند كانط من المعرفة إلى الأخلاق، وعند هيجل من العقائد إلى التاريخ، وعند سبينوزا من النظر إلى العمل، كما أصبح أساسه النظري يسيرا للغاية، لا شأن له بالتعقيدات العقائدية التي لا نهاية لها،
89
فتعاليم الكتاب عند سبينوزا يسيرة للغاية تدعو إلى الطاعة، وتعاليمه الإلهية لها هدف عملي في الحياة اليومية؛ لذلك لم يكن للأنبياء ذكاء خارق للعادة، بل كان لهم خيال خصب؛ ولهذا السبب أيضا لم يذع الوحي أسرارا فلسفية، بل أعطى أفكارا سهلة للغاية، طبقا للآراء السابقة لكل مؤلف، كما أعطى تعاليم يسهل إدراكها على كل فرد أيا كان، ولم يستعمل منهج الاستنباط، بل أعطى بعض الحقائق للاعتقاد، وأيدها بالتجربة وهي المعجزة، واستعمل أسلوب التأثير في القلوب، وتحريك النفوس، وإن كانت هناك صعوبة في فهم الكتاب، فإنها ترجع إلى اللغة، لا إلى الموضوع ذاته، خاصة أن الأنبياء قد دعوا كل الناس، ولم يدعوا اللاهوتيين فحسب. وقد دعت هذه الظروف إلى جعل الكتاب مجموعة من الحقائق اليسيرة التي يسهل على كل فرد إدراكها، لا مجموعة من النظريات الفلسفية، أو التأملات الميتافيزيقية الخالصة، لا يحتوي الكتاب على أي سر فلسفي، وكل ما يدعيه البعض من أسرار إن هي إلا تفسيرات حولت الدين إلى أكاديمية للجدل والمناقشة، وتقنين لنظريات الوثنيين التي يرجع أغلبها إلى أفلاطون وأرسطو، فالكتاب لديهم هو الجامع لكل علم ممكن، والحقيقة أن الكتاب لا يحتوي على أية عقيدة فلسفية خالصة، بل على بعض الأفكار السهلة؛ وذلك لأن غرض الكتاب ليس إعطاءنا معرفة علمية بل دعوتنا إلى الطاعة ورفض العصيان، وطاعة الله في حب الجار، ولا يتطلب الكتاب أية معرفة أخرى إلا ما يحث فيها على الطاعة؛ لذلك يجب فصل كل ما عداها عن الدين، وإخراجه منه، لأنه لا يتعدى كونه آراء ظنية، لا يمكن إدراكها بالنور الفطري، وكل ادعاء بحاجتنا إلى نور يفوق الطبيعة حتى يمكننا إدراكها هو ادعاء كاذب، لأنه لا يوجد نور يفوق الطبيعة، لا يوجد نور سوى النور الفطري.
إن المعرفة العقلية، وهي المعرفة الصحيحة، لم تعط كل المؤمنين، في حين أن الطاعة قد دعي الجميع إليها، لم يطلب الأنبياء من المؤمنين إلا معرفة العدل والإحسان، وهو ما يثبته الكتاب نفسه؛ إذ لم يعرف العبرانيون ماهية الله، بل عرفوا آثاره، وهو ما يدل عليه لفظ «يهوه» الذي يشير إلى صلة الله بمخلوقاته، ولم يعرف صفاته معرفة عقلية خالصة إلا الخاص، فالناس سواء في الطاعة، ولكنهم يختلفون في الحكمة؛ لذلك لم يطلب الأنبياء من الناس إلا العدل والإحسان، أي الصفات التي يمكن أن تكون قواعد للسلوك في حياتهم العملية، وهذا واضح بنص الكتاب، فالله عادل ورحيم على الإطلاق، وهو نموذج الحياة الصحيحة. لم يعط الكتاب تعريفا للكتاب أو تعريفا لله إلا ما يبغي حياة الفضيلة. ننتهي إذن إلى النتيجة الآتية: إن المعرفة العقلية تعطينا طبيعة الله في ذاته، ولكن لا يمكن أخذ هذه الطبيعة كقاعدة للسلوك في الحياة؛ لذلك لم تكن هذه المعرفة العقلية شرطا من شروط الإيمان، بل يستطيع الناس أن يخطئوا في هذه المعرفة دون أن ينقص ذلك من إيمانهم شيئا، ولا حرج أن يتكيف تصورنا لله حسب أحكام الأنبياء السابقة ومعتقداتهم، ولا حرج أيضا في اللجوء إلى التشبيه، فهو وسيلة إدراك الجمهور بالخيال؛ إذ لا يستطيع التنزيه إلا الخاصة، عن طريق المعرفة العقلية، فقد نسب الكتاب إلى الله اليد والعين والأذن، ووصفه كقاض يقطن في السماء، ويستوي على عرش ملكي والمسيح على يمينه، كل ذلك طبقا لعقلية العامة، فالكتاب لا يهدف إلى إعطاء العلم بل يدعو للطاعة، ولا يجوز الالتجاء إلى التفسير المجازي كما يفعل اللاهوتيون، بل يجب أن يؤمن الجمهور إيمانا حرفيا بالصور الذهنية، وإلا لفسر كل ما يتعارض مع الكتاب تفسيرا مجازيا، وكأن الوحي لم يرسل للجمهور العريض، بل للخاصة وحدهم. خلاصة القول، إن الإيمان مرهون بالعمل لا بالنظر،
90
وإنه يكون صادقا بقدر ما يحث صاحبه على الطاعة ويمنعه من العصيان، وأنه يكون كاذبا بقدر ما يدفع صاحبه إلى العصيان، وإن العمل الصادق مهما كان قائما على نظريات غير صحيحة في طبيعة الله، أفضل من العمل الكاذب مهما كان قائما على نظريات صحيحة فيه.
كل إنسان إذن حر في أن يؤمن بما يشاء، وأن يكيف إيمانه حسب معتقداته وآرائه كما يريد، وعليه ألا يمنع الآخرين من أن يكونوا كذلك، فهناك فرق بين الإيمان والعقل، أو بين الدين والفلسفة، الإيمان يؤدي إلى الطاعة، والعقل إلى الحقيقة النظرية. لم يحاول موسى إقناع العبرانيين بالطرق العقلية، بل ربطهم بعهد وبقسم، فارتبطوا بدين الشكر والعرفان بالجميل، دعاهم موسى لطاعة الشريعة حتى ينالوا هذا الجزاء، وإلا وقعوا تحت طائلة العقاب، ولما كانت هذه الوسائل التي لا تساعد في الحصول على المعرفة لا تحث أيضا على الطاعة بطريقة سليمة، دعا الإنجيل إلى الإيمان، واعتبر الطاعة جوهره فإذا تلخصت الشريعة كلها في حب الجار يصبح الإنسان مطيعا وسعيدا إذا أحب جاره كحبه لنفسه، ويصبح عاصيا شقيا إذا ما خالف ذلك، فلم يكتب الكتاب للعلماء بل لجميع الناس، ولم يأمرنا الكتاب إلا بمعرفة أقل ما يلزم للطاعة، وهو حب الجار. هذه الوصية هي القاعدة الوحيدة للإيمان الشامل التي يجب أن تحدد عقائد الإيمان الأخرى، وحتى لا نقع في المغالاة، ونعتقد بأي شيء مهما كان، ما دام مؤديا للطاعة، هناك حد أدنى لتعريف الإيمان بأنه الحصول على بعض الأفكار عن الله التي تؤدي إلى الطاعة، وأن غيابها يؤدي إلى العصيان، ويكون المطيع حقا من يعتنق هذه الأفكار، وينتج عن هذا التعريف نتيجتان: (أ)
يؤدي الإيمان إلى الخلاص؛ لأنه يحث على الطاعة، لا لأنه إيمان في ذاته، فالإيمان بدون عمل مائت. (ب)
يكون المطيع هو صاحب الإيمان الصادق، وهو الإيمان الذي يعطيه الخلاص.
Неизвестная страница