خلاصة القول إن العامة الذين تنقصهم المعرفة هم الذين يتصورون الله كمشرع أو كأمير، ويسمونه عادلا ورحيما، والحقيقة أنه يفعل ويوجه كل شيء بضرورة طبيعته وكمالها.
ولكن الفيلسوف، شأنه شأن المسيح، يستطيع إدراك الوحي بالنور الفطري لذلك سمى سليمان العقل «ينبوع الحياة الحقة» ويكون الشقاء في ضياع العقل؛ وذلك لأن عقلنا وعلمنا يعتمدان على معرفتنا بالله وتصورنا له، وهذا العالم من شأنه الحث على الأخلاق الصحيحة والسياسة السليمة، وهي الأخلاق الطبيعية التي تتفق مع أخلاق الفضيلة، وبذلك يكون النعيم في تنمية العقل الطبيعي؛ وذلك لأن النور الفطري قادر على إدراك القانون الإلهي.
67 (2)
القانون الإلهي لا يقتضي التصديق بالروايات مهما كان مضمونها، لأننا نعرفه من الطبيعة الإنسانية، في حين أن الروايات مقيدة بالظروف التاريخية التي نشأت فيها، فالتصديق بالمعجزات المتضمنة في الرواية لا يمكن أن يعطينا معرفة الله أو حبه؛ لأن حب الله يصدر عن معرفته، ومعرفة الله تنتج من الأفكار العامة التي يكون بعضها معروفا، يمكنها أن تعطينا بعض أوجه النفع في الحياة العملية، وتفيدنا في معرفة سلوك الآخرين.
فإذا كان هناك طريقان: طريق العقل وطريق التجربة،
68
الأول طريق النور الفطري لعدد قليل من الناس والثاني طريق الرواية للعامة، وقد استعمل الكتاب المقدس كلا الطريقين، فالفيلسوف لا يحتاج إلى الرواية؛ لأنه يدرك حقائق الوحي بالنور الفطري، أما العامة فإن التصديق بالروايات ضروري لها؛ لأنها لا تستطيع إدراك الأمور النظرية، ومن ينكر هذه الروايات لأنه لا يؤمن بالله فهو كافر جاحد، ومن يجهلها ويؤمن بالله بالنور الفطري، ويراعي قواعد السلوك، فإنه يحصل على السعادة الأبدية أكثر مما يحصل عليها العامة؛ لأن لديه معرفة واضحة ومتميزة عن الحقائق الإلهية. ولما كانت العامة غير قادرة على البرهنة على معتقداتها بالبحث الدقيق في جميع الروايات وصحتها، فعليها أن تؤمن بها كما هي ما دامت تحثها على الطاعة والإخلاص، وما دامت عاجزة عن أن تحكم على صحة هذه الروايات أو على مضمونها،
69
وتحتاج العامة بالإضافة إلى هذه الروايات إلى رجال الدين وإلى القسس وإلى الكنيسة.
فمع أن الروايات أفضل من التاريخ البشري الدنيوي، ومع أن بعضها أفضل من بعض من حيث استخدامها في نشر المعتقدات، إلا أن التصديق بها لا صلة له بالقانون الإلهي، ولا يؤدي إلى السعادة الأبدية، قد نجهل هذه الروايات كلية، ومع ذلك يظل سلوكنا فاضلا ونحصل على السعادة الأبدية لو كانت روح المسيح فينا. ويظن بعض اليهود أن تطبيق قواعد السلوك القويم لا يؤدي إلى السعادة الأبدية، ما دام إدراكها قد تم بالنور الفطري، ولم يبق من الوحي شيئا، وهو رأي موسى بن ميمون ويوسف بن شيم طوب، ولن تنفعهم أخلاق أرسطو في الخلاص، لأنهم يدركونها بالوحي. وهذا ظن باطل، لا يؤيده العقل أو الكتاب. وهكذا يبدو سبينوزا أكثر عقلانية من ابن ميمون الذي ما زال يريد إفساح المجال للوحي بجوار العقل، في حين أن سبينوزا يكتفي بحياة الفضيلة وبإدراك النور الفطري حتى يحصل الإنسان على السعادة الأبدية.
Неизвестная страница