13
ويؤكد العهد الجديد هذه الحقيقة تأكيدا تاما، إذ لا نجد فيه - كما قلنا من قبل - إلا تعاليم خلقية، ولا يعد بملكوت السموات إلا من يحافظ على هذه التعاليم، أما الشعائر فقد تركها الحواريون بعد أن بدءوا في التبشير بالإنجيل بين الأمم الخاضعة لقوانين دولة أخرى. وإذا كان الفريسيون قد احتفظوا بقدر كبير من الشعائر الإسرائيلية بعد ضياع الدولة، فإن ذلك ينبغي أن يفسر على أنه مظهر لعدائهم للمسيحيين أكثر من كونه تعبيرا عن رغبتهم في إرضاء الله. فبعد الهدم الأول للمدينة، عندما أخذ الأسرى إلى بابل ولم يكونوا - على ما أعلم - قد تفرقوا شيعا بعد، تركوا الطقوس في الحال، بل ورفضوا شريعة موسى، ونسوا تماما قانون وطنهم، وكأنه شيء لا قيمة له، وبدءوا في الاندماج بالأمم الأخرى، كما يذكر عزرا ونحميا بالتفصيل. وإذن فليس من شك في أن اليهود لم يعودوا ملزمين بعد انهيار الدولة بالمحافظة على شريعة موسى أكثر مما كانوا قبل إقامة مجتمعهم ودولتهم. وطوال الفترة التي عاشوها بين الأمم الأخرى، قبل خروجهم من مصر، لم تكن لديهم قوانين خاصة، ولم يكن عليهم إلا المحافظة على القانون الطبيعي، وكذلك على القواعد المطبقة في الدولة التي يعيشون فيها، بقدر ما كانت غير متعارضة مع القانون الإلهي الطبيعي. أما عن الضحايا (القرابين) التي كان البطارقة يقدمونها إلى الله، فيمكن تفسيرها برغبتهم في أن يثيروا في نفوسهم - التي تعودت منذ الطفولة على هذه الضحايا - مزيدا من الخشوع؛ فقد تعود كل الناس منذ عانوس
14
على تقديم الضحايا ليثيروا على أنفسهم أكبر قدر من الخشوع، ولم يضح البطارقة لله مطلقا تنفيذا لأمر إلهي على أساس معرفة استخلصوها من الأسس الشاملة التي يقوم عليها القانون الإلهي، بل اتباعا لعادة عصرهم فحسب. وإذا كانوا قد أمروا بهذه الضحايا، فإن هذا الأمر لم يكن سوى أمر صادر عن قانون الدولة التي يعيشون فيها، وهو القانون الذي كان عليهم بدورهم الخضوع له، كما بينا في الفصل الثالث في حديثنا عن مليكصادق.
15
أعتقد الآن أني قد بينت على هذا النحو وجهة نظري بسلطة الكتاب. يبقى أن أبين كيف أفادت الشعائر في المحافظة على بقاء دولة العبرانيين، وما السبب في ذلك، وهي مسألة سأعتمد في إيضاحها على مبادئ كلية، موجزا الكلام فيها بقدر المستطاع.
16
إن المجتمع لا يكون نافعا أو ضروريا للغاية لأنه يحمي الأفراد من الأعداء فحسب، بل أيضا لأنه يسمح بجمع أكبر قدر ممكن من وسائل الراحة؛ ذلك لأنه لو لم يكن الناس يريدون أن يتعاونوا مع بعضهم بعضا فلن تتوافر لديهم المهارة الفنية أو الوقت اللازم لتدبير شئون حياتهم وللمحافظة عليها بقدر الإمكان. فلن يتوافر لأحد الوقت أو القوة اللازمة لو كان عليه أن يفلح ويبذر ويحصد ويطحن ويطهو وينسج ويحيك، وأن يقوم بأعمال أخرى كثيرة نافعة لتدبير شئون حياته، ناهيك بالفنون والعلوم التي هي ضرورية إلى أقصى حد لكمال الطبيعة الإنسانية وللحصول على السعادة. والواقع أننا نرى هؤلاء الذين يعيشون حياة همجية، بلا مدنية، يحيون حياة بائسة تقرب من مستوى حياة الحيوانات، ومع ذلك لا يستطيعون الحصول على هذا القليل الذي لديهم، والذي يتسم بأنه هزيل فج، إلا إذا تعاونوا مع بعضهم البعض على أي نحو. ولو كان الناس بطبيعتهم على استعداد لئلا يرغبوا إلا فيما يمليه العقل السليم، لما احتاج المجتمع قطعا إلى أية قوانين، ولكان تنوير الناس ببعض التعاليم الخلقية كافيا لكي يفعلوا بأنفسهم، وبروح متحررة، ما هو نافع لهم بحق، إلا أن الطبيعة الإنسانية لها استعداد مختلف كل الاختلاف. صحيح أن جميع الناس يحرصون على منفعتهم، ولكنهم لا يفعلون ذلك حسبما يمليه العقل السليم، بل تدفعهم دائما شهوة اللذة وانفعالات النفس (التي لا تأخذ المستقبل في حسابها ولا تعمل حسابا إلا للذاتها) عندما يرغبون في شيء ويحكمون عليه بأنه نافع، ومن ثم لا يستطيع أي مجتمع أن يبقى دون سلطة آمرة ودون قوة، وبالتالي دون قوانين تلطف من شهوة اللذة وتسيطر على الانفعالات التي لا ضابط لها. إلا أن الطبيعة الإنسانية لا تتحمل أن تظل في حالة قهر مطلق، وكما يقول سنيكا، الكاتب المسرحي:
17 «ما استطاع أحد أن يمارس العنف في الحكم مدة طويلة، أما الاعتدال في الحكم فيدوم.» فطالما كان الناس يسلكون بدافع من الخوف وحده، فإنهم يفعلون أشد الأشياء تعارضا مع إرادتهم ولا يتأملون الفعل من حيث فائدته وضرورته، بل إنهم لا يهتمون إلا بإنقاذ أنفسهم وبعدم تعرضهم للألم، ويستحيل عليهم ألا يتلذذوا بما يصيب سيدهم وصاحب السلطة عليهم من شر وخسارة، حتى لو كان في ذلك ضرر بالغ عليهم، كما يستحيل ألا يتمنوا له الشر وألا يرتكبوه عندما يستطيعون. والواقع أن أشد ما يؤلم الناس خضوعهم لأمثالهم وسيطرة هؤلاء عليهم. وأخيرا، فليس هناك أقسى من سلب الناس حريتهم بعد حصولهم عليها، ومن ثم يجب أولا على كل مجتمع - إن أمكنه ذلك - أن يقيم سلطة تنبثق من الجماعة على نحو من شأنه أن يكون الجميع ملزمين بأن يطيعوا أنفسهم لا أمثالهم، أما إذا وضعت مقاليد السلطة في أيدي أفراد قلائل أو في يد فرد واحد، فيجب أن يكون لدى هذا الفرد شيء أسمى من الطبيعة الإنسانية، أو على الأقل يجب أن يحاول بقدر طاقته أن يقنع العامة بذلك. ثانيا، يجب أن توضع القوانين في كل دولة بحيث يكون الباعث على ضبط الناس هو الأمل في تحقيق خير معين، يرغب فيه بوجه خاص، أكثر من خوف يحيط بهم، وبذلك يقوم كل فرد بواجبه بحماس بالغ. وأخيرا لما كانت الطاعة هي تنفيذ الأوامر بالخضوع لسلطة الرئيس الآمر وحدها، فإنا نرى أن هذه الطاعة لا مكان لها في مجتمع تكون السلطة فيه منتمية إلى جميع أفراده ، وتوضع فيه القوانين برضاء الجميع، ففي مثل هذا المجتمع، سواء أزاد عدد القوانين أم نقص، يظل الشعب حرا لأنه يفعل برضائه الخاص،
18
Неизвестная страница