بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم وَبِه أكتفي
الْحَمد لله رب الْعَالمين حق حَمده وَلَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَحده وصلواته على مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا
رِسَالَة أبي عبد الله مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن يحيى بن مَنْدَه بن الْوَلِيد فِي بَيَان فضل الْأَخْبَار وَشرح مَذَاهِب أهل الْآثَار وَحَقِيقَة السّنَن وَتَصْحِيح الرِّوَايَات
قَالَ ابو عبد الله فباسم الله نبتديء وَبِه نستعين وإياه نسْأَل التَّوْفِيق والرشاد والعون وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم ﴿الْحَمد لله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض وَله الْحَمد فِي الْآخِرَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير﴾ سُورَة سبأ الْآيَة ١ ﴿الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب وَلم يَجْعَل لَهُ عوجا قيمًا لينذر بَأْسا شَدِيدا من لَدنه ويبشر الْمُؤمنِينَ الَّذين يعْملُونَ الصَّالِحَات أَن لَهُم أجرا حسنا ماكثين فِيهِ أبدا﴾ سُورَة الْكَهْف الْآيَات ١ ٣
وَالْحَمْد لله أفضل الْحَمد وَغَايَة الشُّكْر ومنتهاه حمدا ينفعنا بِهِ ويتمم بِهِ علينا نعماه
أَحْمَده كَمَا يَنْبَغِي لكريم وَجهه وعظيم سُلْطَانه وَأَسْتَعِينهُ وأستهديه بهداه الَّذِي أنعم بِهِ على أنبيائه وَأهل طَاعَته
وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله إِقْرَارا بربوبيته وَتَصْدِيقًا بوعده ووعيده وإيمانا بملائكته وَرُسُله
1 / 17
وأسأله أَن يُصَلِّي على مُحَمَّد عَبده وَرَسُوله الْمُصْطَفى لوحيه الْمُنْتَخب لرسالته الْمفضل على خلقه المقرون اسْمه باسمه الْمَرْفُوع ذكره فِي خلقه بَعثه إِلَى جَمِيع خلقه سفيرا ومبلغا ومبينا ﴿وداعيا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وسراجا منيرا﴾] سُورَة الْأَحْزَاب الْآيَة ٤٦ [أكمل صَلَاة وَأَشْرَفهَا وأعلاها وجزاه عَنَّا أفضل مَا جازى نَبيا عَن أمته فبه استنقذنا الله من الضَّلَالَة وهدانا من الْعَمى وأخرجنا من الظُّلُمَات إِلَى النُّور كَمَا قَالَ ﵎ فَكَانَ بِنَا رءوفا رحِيما كَمَا وَصفه الله تَعَالَى
﴿لقد جَاءَكُم رَسُول من أَنفسكُم عَزِيز عَلَيْهِ مَا عنتم حَرِيص عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيم﴾] سُورَة التَّوْبَة الْآيَة ١٢٨ [
جعله علما لدينِهِ بِمَا افْترض من طَاعَته وَحرم من مَعْصِيَته وَأَبَان من فضيلته بِمَا قرر من الْإِيمَان برسالته مَعَ الْأَيْمَان بِهِ فَقَالَ ﷿ ﴿فآمنوا بِاللَّه وَرَسُوله﴾ الْأَعْرَاف الْآيَة ١٥٨ [وَقَالَ ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله﴾] سُورَة الحجرات [
أنزل عَلَيْهِ الْكتاب الَّذِي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من﴾
1 / 18
﴿خَلفه تَنْزِيل من حَكِيم حميد﴾] سُورَة فصلت الْآيَة ٤٢ [قَالَ الله ﷿ ﴿نزل بِهِ الرّوح الْأمين على قَلْبك لتَكون من الْمُنْذرين بِلِسَان عَرَبِيّ مُبين﴾] سُورَة الشُّعَرَاء الْآيَة ١٩٣ [
دَعَا فِيهِ إِلَى الْإِيمَان بِهِ دون غَيره وَأحكم فِيهِ فَرَائِضه وَفصل بالحكمة شرائعه الَّتِي تعبد بهَا خلقه وَأمرهمْ بالفرائض حتما وزجرهم عَن مَحَارمه عزما وأعلمهم مَا لَهُم فِي طَاعَته من الثَّوَاب لِيَرْغَبُوا وَمَا عَلَيْهِم فِي مَعْصِيَته من الْعقَاب ليرهبوا ثمَّ رغب فِي التَّقَرُّب إِلَيْهِ بالنوافل فضلا مِنْهُ وتعطفا
قَالَ الله جلّ أُسَمِّهِ ﴿مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء﴾] سُورَة الْأَنْعَام الْآيَة ٣٨ [
وَقَالَ ﴿ونزلنا عَلَيْك الْكتاب تبيانا لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة وبشرى للْمُسلمين﴾] سُورَة النَّحْل الْآيَة ٨٩ [
فَجعل الْمُبين عَنهُ نبيه وَصفيه وأمينه على وحيه وَخيرته من خلقه فَقَالَ تبَارك أُسَمِّهِ ﴿وأنزلنا إِلَيْك الذّكر لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم ولعلهم يتفكرون﴾] سُورَة النَّحْل الْآيَة ٤٤ [
وَقَالَ ﴿وَمَا أنزلنَا عَلَيْك الْكتاب إِلَّا لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ وَهدى وَرَحْمَة لقوم يُؤمنُونَ﴾] سُورَة النَّحْل الْآيَة ٦٤ [
وَقَالَ ﴿الر كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد﴾] سُورَة إِبْرَاهِيم الْآيَة ١ [
وَقَالَ ﴿وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾] سُورَة الشورى الْآيَة ٥٢ [صِرَاط الله
فَبلغ ﷺ الْمُحكم وَفسّر الْمُجْمل وأوضح المشتبه وحذر عَن
1 / 19
الْمُتَشَابه فَأمر الله بالبلاغ عَنهُ فَقَالَ ﴿يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك وَإِن لم تفعل فَمَا بلغت رسَالَته وَالله يَعْصِمك من النَّاس﴾] سُورَة الْمَائِدَة الْآيَة ٦٧ [فَدَعَاهُ إِلَى عبَادَة ربه جلّ وَعز وتوحيده وتبليغ مَا أرسل بِهِ من محكمه
قَالَ الله جلّ وَعز ﴿لتبين لَهُم الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ﴾] سُورَة النَّحْل الْآيَة ٦٤ [
وَقَالَ جلّ وَعز ﴿لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم﴾] سُورَة النَّحْل الْآيَة ٤٤ [
يَعْنِي من مبهمه وَبَيَان مجمله
وَقَالَ ﴿لتبين﴾ أَي الَّذِي اخْتلفُوا فِيهِ
وافترض الله على الْعباد طَاعَته فقرنها إِلَى طَاعَته فَقَالَ ﴿أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول﴾] سُورَة مُحَمَّد الْآيَة ٣٣ [
وَقَالَ ﴿من يطع الرَّسُول فقد أطَاع الله﴾] سُورَة النِّسَاء الْآيَة ٨٠ [
وَقَالَ ﴿وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى﴾] سُورَة النَّجْم الْآيَتَانِ ٣ ٤ [
وَقَالَ ﴿قل مَا يكون لي أَن أبدله من تِلْقَاء نَفسِي إِن أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ﴾] سُورَة يُونُس الْآيَة ١٥ [
وأمرنا جلّ وَعز بِقبُول مَا جَاءَ بِهِ نَبينَا ﷺ فَقَالَ
//
﴿يَا أَيهَا النَّاس قد جَاءَكُم الرَّسُول بِالْحَقِّ من ربكُم فآمنوا خيرا لكم﴾] سُورَة النِّسَاء الْآيَة ١٧٠ [
1 / 20
وَقَالَ ﴿وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنهُ فَانْتَهوا﴾] سُورَة الْحَشْر الْآيَة ٧ [
فَأوجب على الْعباد اتِّبَاع وحيه وَسنَن رَسُوله ﷺ فقرنها إِلَى كِتَابه فَقَالَ جلّ وَعز
//
﴿وَابعث فيهم رَسُولا مِنْهُم يَتْلُو عَلَيْهِم آياتك وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة ويزكيهم إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْحَكِيم﴾] الْبَقَرَة ١٢٩ [
وَقَالَ جلّ وَعز ﴿لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم يَتْلُو عَلَيْهِم آيَاته ويزكيهم وَيُعلمهُم الْكتاب وَالْحكمَة وَإِن كَانُوا من قبل لفي ضلال مُبين﴾] آل عمرَان ١٦٤ [
وَقَالَ جلّ وتقدس ﴿كَمَا أرسلنَا فِيكُم رَسُولا مِنْكُم يَتْلُو عَلَيْكُم آيَاتنَا ويزكيكم ويعلمكم الْكتاب وَالْحكمَة ويعلمكم مَا لم تَكُونُوا تعلمُونَ﴾] الْبَقَرَة ١٥١ [وَقَالَ ﴿واذْكُرُوا نعْمَة الله عَلَيْكُم وَمَا أنزل عَلَيْكُم من الْكتاب وَالْحكمَة يعظكم بِهِ﴾] الْبَقَرَة ٢٣١ [
وَقَالَ ﴿وَأنزل الله عَلَيْك الْكتاب وَالْحكمَة وعلمك مَا لم تكن تعلم وَكَانَ فضل الله عَلَيْك عَظِيما﴾] النِّسَاء ١١٣ [
وَقَالَ تَعَالَى ﴿واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن من آيَات الله وَالْحكمَة﴾] الْأَحْزَاب ٣٤ [
فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وَسلم للمحكم مبلغا وللتأويل مُبينًا وللمجمل مُفَسرًا فَلم يبْق من دين الله شَيْء يخرج عَن جملَة كِتَابه وَلَا سنة نبيه ﷺ
//
وَأمرهمْ بعد ذَلِك بِالرُّجُوعِ فِيمَا اخْتلفُوا فِيهِ إِلَى كتاب الله وَسنة نبيه ﷺ فَقَالَ
1 / 21
﴿وَمَا اختلفتم فِيهِ من شَيْء فَحكمه إِلَى الله﴾] الشورى ١٠ [
//
وَقَالَ ﴿وَمَا كَانَ لمُؤْمِن وَلَا مُؤمنَة إِذا قضى الله وَرَسُوله أمرا أَن يكون لَهُم الْخيرَة من أَمرهم﴾] الْأَحْزَاب ٣٦ [
وَقَالَ ﴿إِذا دعوا إِلَى الله وَرَسُوله ليحكم بَينهم أَن يَقُولُوا سمعنَا وأطعنا وَأُولَئِكَ هم المفلحون﴾] النُّور ٥١ [
وَقَالَ ﴿فَلَا وَرَبك لَا يُؤمنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شجر بَينهم ثمَّ لَا يَجدوا فِي أنفسهم حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا﴾ النِّسَاء ٦٥
وَقَالَ ﴿فليحذر الَّذين يخالفون عَن أمره أَن تصيبهم فتْنَة أَو يصيبهم عَذَاب أَلِيم﴾] النُّور ٦٣ [
وَعلم الله ﷿ أَنه سَيكون فِي هَذِه الْأمة بعد نَبِيّهم ﷺ اخْتِلَاف وتنازع فَأَمرهمْ بِالرُّجُوعِ عِنْد ذَلِك إِلَى أهل الذّكر وأولي الْأَمر وهم الْعلمَاء الَّذين ذكرهم الله ﷿ فَقَالَ ﴿لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم﴾] النِّسَاء ٨٣ [
وَقَالَ جلّ وَعز ﴿فاسألوا أهل الذّكر إِن كُنْتُم لَا تعلمُونَ﴾] الْأَنْبِيَاء ٥٩ [
وَقَالَ ﴿أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم﴾] النِّسَاء ٥٩ [يُرِيد عُلَمَاء الْمُسلمين وفقهاءهم
1 / 22
وَقَالَ ﴿قل هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب﴾] الزمر ٩ [
فَأَما مَا نَص بِهِ الْكتاب فَهُوَ الْمُحكم الَّذِي لَا تنَازع فِيهِ وَلَا خلاف وَأما الْمُجْمل فِي الْكتاب ذكره فَمثل قَوْله
﴿وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾] الْبَقَرَة ٤٣ [
وَقَوله ﴿كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ﴾] الْبَقَرَة ١٨٣ [
وَقَوله ﴿فَمن شهد مِنْكُم الشَّهْر فليصمه﴾] ١٨٥ [
وَقَوله ﴿وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله﴾] الْبَقَرَة ١٩٦ [
فقد بَين ﷺ أَنَّهَا دعائم الدّين وَعَلَيْهَا بني الْإِسْلَام فَقَالَ ﵊ بني الْإِسْلَام على خمس شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله
// وإقام الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة وَصَوْم رَمَضَان وَحج الْبَيْت
ثمَّ بَين صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ عدد الصَّلَوَات وَوُجُوب أَحْوَال الزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج وَكَذَلِكَ سَائِر المفترضات المجملة لأَصْحَابه المختارين لرَسُوله ﷺ فَقَالَ صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي
//
1 / 23
فنقلوا ذَلِك عَنهُ قولا وَعَملا من حِين قِيَامه وَالدُّخُول فِيهَا وَالْإِحْرَام بهَا وَالنِّيَّة فِي أَدَائِهَا وقيامها وركوعها وسجودها إِلَى مُنْتَهى الْخُرُوج مِنْهَا
وَكَذَلِكَ فسر جملَة الزَّكَاة وَمَا الَّذِي يجب فِيهَا وَمِقْدَار مَا يجب فِيهَا وَوقت وُجُوبهَا وَمن يَسْتَحِقهَا
وَكَذَلِكَ أَحْوَال الصَّوْم وأعمال الْحَج وَالْعمْرَة وَالطّواف وأوقاتها وَكَذَلِكَ سَائِر المفترضات المجملات والمبهمات فَقَالَ ﷺ إِنَّمَا أَنا لكم مثل الْوَالِد أعلمكُم مَا جهلتم ﷺ
فَلَمَّا أكمل الله ﷿ دينه وأعز أمره وَفتح لنَبيه ﷺ مَا وعده وأعلمه وَفَاته أنزل عَلَيْهِ ﴿الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الْإِسْلَام دينا﴾] الْمَائِدَة ٣ [علم ﷺ أَنه مَقْبُوض فَسَأَلَ ﷺ أَصْحَابه عِنْد ذَلِك فَقَالَ هَل بلغت فَقَالُوا نعم فَقَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ فَيبلغ الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب
//
1 / 24
وَقَالَ ﵊ تركتكم على الْبَيْضَاء لَيْلهَا كنهارها لَا يزِيغ عَنْهَا بعدِي إِلَّا هَالك وسيرى من يعِيش مِنْكُم بعدِي اخْتِلَافا كثيرا فَعَلَيْكُم بِمَا عَرَفْتُمْ من سنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين وَعَلَيْكُم بِالطَّاعَةِ وَإِن عبدا حَبَشِيًّا عضوا عَلَيْهِ بالنواجذ
فاجتهدوا ونصحوا وبلغوا عَن تَوَاتر وآحاد فِي حَيَاة رَسُول الله ﷺ وَبعد وَفَاته كَمَا أَمرهم الله ﷿ وَفرض على الْعباد] ق ٢ ب [طَاعَة رَسُوله وَأمرهمْ بِأخذ مَا آتَاهُم بِهِ
// والانتهاء عَمَّا نَهَاهُم عَنهُ
فَكَانَ فَرْضه على من عاين رَسُول الله ﷺ وَمن بعده إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَاحِدًا فِي أَن على كل طَاعَته فِي الإبلاغ عَنهُ وَلم يكن أحد غَابَ عَن رُؤْيَة رَسُول الله ﷺ فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته يعلم أَمر رَسُول الله ﷺ إِلَّا بالْخبر عَنهُ بِنَقْل الصَّحَابَة المختارة للإبلاغ عَن نبيه ﷺ إِلَى من بعدهمْ من التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان قرنا فقرنا مَا دَامَت الدُّنْيَا ودامت الْأمة جعلنَا الله مِنْهُم برحمته
فَلَمَّا قبض الله جلّ وَعلا نبيه ﷺ من بَين أَصْحَابه المنتخبة رضى الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ جمعهم على خَيرهمْ وأفضلهم فِي أنفسهم فَقَامَ بِأَمْر الله جلّ وَعز وَأخذ منهاج رَسُول الله ﷺ وَقَالَ وَلَو مَنَعُونِي عقَالًا كَانُوا يؤدونه إِلَى رَسُول الله ﷺ لقاتلتهم عَلَيْهَا
1 / 25
فَإِن الزَّكَاة واجبه كَالصَّلَاةِ فقاتل بِمن أقبل من أهل الْإِسْلَام من أدبر مِنْهُم وارتد حَتَّى راجعوا دينهم وأطاعوا أَمر الله وأدوا مَا افْترض الله عَلَيْهِم وأمضى حكم الله ﷿ وَرَسُوله ﷺ فِيمَن أَبى ذَلِك فرضى الله عَنهُ وَعَن جَمِيع الصَّحَابَة
جمع الْقُرْآن
فَكَانَ بعد ذَلِك أول مَا أَهَمَّهُمْ جمع الْقُرْآن مَخَافَة ذهَاب حَملته وَاخْتِلَاف من بعدهمْ فِيهِ وَشرح الله صدر الْجَمَاعَة لذَلِك لأَنهم هم الَّذين شهدُوا التَّنْزِيل وَعرفُوا التَّأْوِيل وَعَلمُوا التَّرْتِيب وَقَالَ عَليّ بن أبي طَالب رحم الله أَبَا بكر هُوَ أول من جمع الْقُرْآن بَين اللَّوْحَيْنِ فرحمة الله عَلَيْهِم وصلواته ورضوانه أَجْمَعِينَ
1 / 26
ثمَّ أَخذ التابعون بِإِحْسَان عَنْهُم فَقَامُوا بتلاوته وَعمِلُوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وَقَالُوا كل من عِنْد الله فَلم يَخْتَلِفُوا فِي آيَة مِنْهُ بل يكفرون من كفر بِآيَة مِنْهُ ويرون من قَرَأَ خلاف مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ خَارِجا من الْأمة وَالْإِجْمَاع جعلنَا الله مِمَّن تَبِعَهُمْ بِإِحْسَان فهم الَّذين بلغُوا عَن الصَّحَابَة مَا جَاءُوا بِهِ عَن الله وَرَسُوله ﵇ من الْكتاب وَالسّنة ونقلوا فَرَائِضه وحدوده وأوامره ونواهيه وناسخه ومنسوخه وهم الَّذين وَصفهم الله ﷿ فِي كِتَابه فَقَالَ تبَارك أُسَمِّهِ ﴿كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه﴾] آل عمرَان ١١٠ [
وَقَالَ جلّ وَعز ﴿وَالَّذين جاؤوا من بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان وَلَا تجْعَل فِي قُلُوبنَا غلا للَّذين آمنُوا رَبنَا إِنَّك رؤوف رَحِيم﴾] الْحَشْر ١٠ [
وَقَالَ ﴿وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان ﵃﴾] التَّوْبَة ١٠ [فهم الَّذين وَصفهم النَّبِي ﷺ وَقَالَ خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ
1 / 27
فهم التابعون لَهُم بِإِحْسَان فرحمة الله عَلَيْهِم ورضوانه فَلَقَد حفظوا
// وبلغوا ونصحوا كَمَا أمروا جعلهم الله أَئِمَّة يهدي بأَمْره بصبرهم على اكْتِسَاب مَا ندبهم إِلَيْهِ واجتهادهم فِي تَعْلِيم حكمته طلب الْقرْبَة إِلَيْهِ وأرشدهم إِلَى السبل الدَّالَّة على الْعلم بِمَا أَمر بِهِ والانتهاء عَنهُ عَمَّا عِنْده زجر ثمَّ فضل بَعضهم على بعض فِيمَا علمهمْ من الْعلم ليَكُون التَّفَاوُت فِي الرتب] [وَالِاخْتِلَاف باعثا لَهُم على الْخَوْض فِي التَّعْلِيم وسببا إِلَى التَّوسعَة فِي طلب الْعلم وَرَحْمَة بِهَذَا الْخلق فَقَالَ جلّ وَعز ﴿ورفعنا بَعضهم فَوق بعض دَرَجَات﴾] الزخرف ٣٢ [
وَقَالَ جلّ وَعز ﴿وَفَوق كل ذِي علم عليم﴾] يُوسُف ٧٦ [
طوائف الْأمة لخدمة عُلُوم الْقُرْآن
١ - فقصدت طَائِفَة تَعْلِيم الْقُرْآن وَحفظه وَمَعْرِفَة اخْتِلَاف الْقرَاءَات فِيهِ ومعانيه ومشكله ومتشابهه وغريبه ومصادره
1 / 28
٢ - وقصدت طَائِفَة تَعْلِيم فَرَائِضه وَأَحْكَامه وحظره وإباحته وأوامره وزواجره وناسخه ومنسوخه وَمَا يستدلون بِهِ من ذَلِك على السّنَن والْآثَار
٣ - وَطَائِفَة قصدت حفظ جمله وإدامة تِلَاوَته درسا وَقِرَاءَة من غير أَن يعرفوا مِنْهُ معنى فِي الْإِعْرَاب وَلَا وَجها فِي قِرَاءَة وَلَا عدد آى وَلَا معنى وَلَا مُشكلا وكل يثيبه فِيمَا علم وَعمل مجَازًا وَالله جواد كريم
طَبَقَات الْمُحدثين
وَكَذَلِكَ أفهام حَملَة الْعلم من السّنَن والْآثَار مُتَفَرِّقَة وإراداتهم مُتَفَاوِتَة وهممهم إِلَى التباين مصروفة وطبقاتهم فِيمَا حملوه غير مُتَسَاوِيَة
١ - فطائفة مِنْهُم قصدت حفظ الْأَسَانِيد من الرِّوَايَات عَن رَسُول الله ﷺ وَأَصْحَابه الَّذين ندب الله جلّ وَعز إِلَى الأقتداء بهم فاشتغلت بتصحيح نقل الناقلين عَنْهُم وَمَعْرِفَة الْمسند من الْمُتَّصِل والمرسل من الْمُنْقَطع وَالثَّابِت من الْمَعْلُول وَالْعدْل من الْمَجْرُوح والمصيب من المخطيء وَالزَّائِد من النَّاقِص فَهَؤُلَاءِ حفاظ الْعلم وَالدّين النافون عَنهُ تَحْرِيف غال وتدليس مُدَلّس وانتحال مُبْطل وَتَأْويل جَاحد ومكيدة ملحد فهم الَّذين وَصفهم الرَّسُول ﷺ ودعا لَهُم وَأمرهمْ بالإبلاغ عَنهُ فَهَذِهِ الطَّائِفَة هم الَّذين استحقوا أَن يقبل مَا جوزوه وَأَن يرد مَا جرحوه
وَإِلَى قَوْلهم يرجع عِنْد ادِّعَاء من حرف وتدليس مُدَلّس ومكيدة ملحد وَكَذَلِكَ إِلَى قَوْلهم يرجع أهل الْقُرْآن فِي معرفَة أَسَانِيد الْقرَاءَات وَالتَّفْسِير لمعرفتهم بِمن حضر التَّنْزِيل من الصَّحَابَة وَمن لحقهم من التَّابِعين وَقَرَأَ عَلَيْهِم وَأخذ عَنْهُم ولعلمهم بِصِحَّة الْإِسْنَاد الثَّابِت من السقيم والراوي الْعدْل من الْمَجْرُوح والمتصل من الْمُرْسل
1 / 29
٢ - وَطَائِفَة اشتغلت بِحِفْظ اخْتِلَاف أقاويل الْفُقَهَاء فِي الْحَرَام والحلال واقتصروا على مَا ذكرت أَئِمَّة الْأَمْصَار من الْمُتُون عَن رَسُول الله ﷺ وَعَن الصَّحَابَة فِي كتبهمْ وَقصرُوا عَمَّا سبقت إِلَيْهِ أهل الْمعرفَة بالروايات وثابت الْإِسْنَاد وأحوال أهل النَّقْل من الْجرْح وَالتَّعْدِيل فهم غير مستغنين عَن أهل الْمعرفَة بالآثار عِنْد ذكر خبر عَن الرَّسُول ﷺ أَو الصَّحَابَة أَو التَّابِعين لَهُم بِإِحْسَان فِيهِ حكم ليعرفوا صِحَة ذَلِك من سقمه وَصَوَابه من خطئه
٣ - وَطَائِفَة ثَالِثَة أكثرت الْجمع وَالْكِتَابَة غير متفقهين فِي متن وَلَا عارفين بعلة إِسْنَاد فَإِنَّهُم فِي الْجمع والاستكثار والتدوين فهم داخلون إِن شَاءَ الله فِي قَول رَسُول الله ﷺ رحم الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي حَتَّى يبلغهَا من هُوَ أفقه مِنْهُ
//
1 / 30
وكل وَالْحَمْد لله على خير كثير فسبحان من جعل الِاخْتِلَاف من الْعلمَاء تسهيلا على خلقه وَرَحْمَة لِعِبَادِهِ وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين
1 / 31
طَبَقَات الناقلين للآثار بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
ثمَّ اخْتلفت أَحْوَال الناقلين للآثار بعد الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ الْأَوَّلين على ثَلَاث طَبَقَات كل طبقَة على ثَلَاث منَازِل فِي الإتقان والرتب
١ - فطبقه مِنْهَا مَقْبُولَة] ق ٣ ب [بِاتِّفَاق وهم على رتب ومنازل فَلَيْسَ الْحَافِظ المتقن الْمُؤَدِّي كَمَا سمع كالمؤدي على الْمَعْنى الواهم فِي بعض مَا يُؤَدِّي وَيحدث وَلَا الْمُؤَدِّي الثِّقَة من كِتَابه مِمَّن لَا معرفَة لَهُ بِمَا يُؤَدِّي كالحافظ المتقن
٢ - وطبقة مِنْهَا قبلهَا قوم وَتركهَا آخَرُونَ لاخْتِلَاف أَحْوَالهم فِي النَّقْل وَالرِّوَايَة
٣ - وطبقة أُخْرَى متروكة وهم على مَرَاتِب فِي الضعْف فَلَيْسَ الواهم المخطيء الَّذِي دخل الْوَهم وَالْخَطَأ عَلَيْهِ من سوء حفظه أَو عِلّة لحقته فَترك حَدِيثه لِكَثْرَة اضطرابه فِيهَا كالمتهم وَلَا الْمُتَّهم مِنْهُم كالمصرح بِالْكَذِبِ والوضع وَسَنذكر أَحْوَالهم وطبقاتهم فِي شرح لكتابنا هَذَا ونبين أَمرهم بَيَانا وَاضحا إِن شَاءَ الله
الطَّبَقَة الأولى من الْمُحدثين
فالطبقة الأولى من الثَّلَاث هم أَئِمَّة الدّين وحفاظه الَّذين تقدم ذكرهم وصفتهم وإليهم انْتهى علم الْأَسَانِيد وبهم تلْزم الْحجَّة على من خالفهم وَيقبل انفرادهم إِذْ كَانُوا المقدمين فِي عصرهم لمعرفتهم بِمَا جَاءَ عَن الرَّسُول ﷺ ثمَّ عَن الصَّحَابَة بعده وَعَن التَّابِعين وَمن بعدهمْ بِإِحْسَان رضى الله عَنْهُم
//
1 / 32
مدَار علم الْأَسَانِيد من عصر الزُّهْرِيّ وطبقته إِلَى عصر ابْن الْمَدِينِيّ
قَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ نظرت فَإِذا علم الْأَسَانِيد يَدُور على سِتَّة نفر
١ - فبالمدينة مُحَمَّد بن مُسلم بن عبيد الله بن شهَاب الزُّهْرِيّ ويكنى أَبَا بكر توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة رَحْمَة الله عَلَيْهِ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ
1 / 33
٢ - وَلأَهل مَكَّة عَمْرو بن دِينَار مولى بني جمح ويكنى أَبَا مُحَمَّد توفّي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة
٣ - وَيحيى بن أبي كثير مولى طى ويكنى أَبَا نصر توفّي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة
٤ - وَلأَهل الْبَصْرَة قَتَادَة بن دعامة السدُوسِي ويكنى أَبَا الْخطاب توفّي سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَة
٥ - وَلأَهل الْكُوفَة أَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله السبيعِي توفّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة
٦ - وَسليمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش مولى بني كَاهِل من بني أَسد يكنى أَبَا مُحَمَّد توفّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة رَحْمَة الله عَلَيْهِم اجميعين
1 / 34
ثمَّ صَار علم هَؤُلَاءِ السِّتَّة إِلَى أثنى عشر رجلا وهم أَصْحَاب الْأَصْنَاف مِمَّن صنف الْعلم مِنْهُم من أهل الْمَدِينَة
١ - مَالك بن أنس بن أبي عَامر الأصبحي وعداده فِي تيم يكنى أَبَا عبد الله توفّي سنة سبع وَسبعين وَمِائَة
٢ - وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن يسَار مولى بني مخرمَة يكنى أَبَا بكر توفّي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة وهما من أَصْحَاب الزُّهْرِيّ
1 / 35
٣ - وَمن أهل مَكَّة عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريح مولى لقريش يكنى أَبَا الْوَلِيد لَقِي ابْن شهَاب وَعَمْرو بن دِينَار وَقد رأى الْأَعْمَش وَلم يرو عَنهُ مَاتَ سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة
٤ - وسُفْيَان بن عيينه بن مَيْمُون مولى مُحَمَّد بن مُزَاحم أَخُو الضَّحَّاك ابْن مُزَاحم يكنى أَبَا مُحَمَّد مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة لَقِي ابْن شهَاب وَعَمْرو بن دِينَار وَأَبا إِسْحَاق وَالْأَعْمَش
٥ - وَمن أهل الْبَصْرَة سعيد بن أبي عرُوبَة مولى بني عدي بن يشْكر وَهُوَ سعيد بن مهْرَان يكنى أَبَا النَّضر مَاتَ سنة ثَمَان أَو تسع وَخمسين وَمِائَة
٦ - وَحَمَّاد بن سَلمَة] قَالَ [أَحْسبهُ مولى لبني سليم يكنى أَبَا سَلمَة مَاتَ سنة سبعين وَمِائَة
1 / 36