وبعد ...
كثيرا ما نسمع الناس يتساءلون: هل أدبنا أصبح عالميا؟ ومتى وكيف يصبح أدبنا عالميا؟ والسؤال بلا شك يدل على طموحنا كتابا وقراء، ولكنني أحب أن أؤكد أن اختيار إسبانيا أو أي بلد آخر من بلاد العالم مكانا تدور فيه أحداث قصة ليس هو الطريق أبدا لكي يصبح أدبنا إنسانيا عالميا؛ لأن هذه الإنسانية والعالمية ليس لهما إلا طريق واحد هو الكتابة بصدق ورأي وإحساس عن أنفسنا التي نعرفها، أو عن غيرنا ممن لا تقل معرفتنا بهم عن معرفتنا بأنفسنا، بل هو الطريق الوحيد لكي تصل الكتابة - أي كتابة - إلى مرتبة الفن - أي فن - لا يهم محليا كان أو عالميا، والمشكلة في رأيي أننا كثيرا ما نقحم مفهوماتنا العقلية أو الرياضية، أو في معظم الأحيان السياسية، إقحاما على ما نريد وباستطاعتنا قوله، فتكون النتيجة أن نفقد خيط الانفعال الصادق ونرقص على السلم. إنما هي في الحقيقة محاولة لكي نرى أنفسنا هنا في مصر والعالم العربي عن طريق غير مباشر في ظاهره، ولكنه في أحيان يعطينا رؤى أكثر صدقا ووضوحا وعمقا.
هذا عن علية (كما يقول الفلاسفة) كتابة هذه القصة، أما إذا تركنا الأسباب القابلة للنقاش والأخذ والرد جانبا، فكل ما أذكره الآن وبعد مضي أكثر من عامين على كتابتها لأول مرة أني كنت سعيدا جدا، لا أكاد أنتهي من مشاغلي اليومية حتى أسرع إلى المكتب حيث تنتظرني معركة أخوضها بكل ذرة من كياني، متحمسا منتشيا، أحس أني لأول مرة ومن خلال القصة أخوض صراعا حقيقيا عميقا وأنفعل بكل لحظة من لحظاته؛ الصيف في القاهرة، والحر في النهار، والنسمات رقيقة كشمس الغسق في الليل، والصراع دائر في خيالي؛ يتوهج أحيانا حتى ليبلغ قيظ يوليو، ويشف أحيانا حتى ليهب كسرب صغير من نسمات طفلة ترد رؤيتها الروح وتنعش القلب الخامل، وصور إسبانيا والإسبان - أرق وأعنف وأغلب وأشجع وأحكم وأجن شعب من شعوب العالم - وكأننا نحن العرب كنا هم، أو هم كأنهم كانونا، ذلك الشعب بلغته؛ بأغانيه، برقصه، بفقره، بصبره، بجماله، بحنينه إلى الماضي المجيد، بالحنين الأكثر إلى مستقبل؛ هذا الشعب بكل صوره وانفعالاته المتغيرة الدائمة التغير، تلون أشكال الصراع وتزكيه. لقد كانت أيام كتابتها جميلة حقا.
وأخيرا ...
فلا بد لنا أيها الأصدقاء الذين كنت - وأرجو أن أكون لا أزال - عند حسن ظنهم، لا بد لنا من لقاء آخر على أرض الجزائر، وأنا أشد الناس ابتهالا كي يأتي اللقاء أقرب ما يكون وأروع ما يكون.
أما هنا ونحن في شبه الجزيرة الأيبيرية، فإني أستسمحكم يا قراء العربية أن أقدم هذا العمل المتواضع - حقيقة لا قولا - وردة حمراء كبيرة، ليس التلوث بالدم سبب احمرارها، إلى الشعب الإسباني القوي المتفائل الرقيق.
القاهرة، يناير 1964م
يوسف إدريس
الفصل الأول
أعرف أن هناك صداقة مثلا وزمالة وعلاقات إعجاب. أعرف أن هناك عداوة أو محبة أو لا مبالاة، ولكني لا زلت لا أعرف كيف أضع اسما للعلاقة الإنسانية التي ربطتني به. من ناحيتي كنت واحدا من ثلاثين ألف آدمي لا تجمع بينهم إلا «الأرينا» الهائلة الحجم، ولا يلتقون إلا عند رغبة ملحة واحدة، رغبة من رغبات البشر التي تظل تلح وتصر حتى تفرض نفسها وتتحقق بطريقة أو بأخرى. فرد من آلاف، مجرد طرف سلبي، عملي طول الوقت أن أجلس وأشاهد، والجهد الإيجابي الوحيد الذي كنت أقوم به لا يتعدى بضع محاولات، معظمها فشل؛ لكبت انفعالي كي لا أنساق وراء المواء الجماعي إذا صدر عن الآلاف، أو إخفاء وجهي اشمئزازا أحيانا، أو خوفا، أو لضعف الأعصاب.
Неизвестная страница