وارتجت «الأرينا» بتصفيق عال راعد وكأنما يتنفس الناس الصعداء تصفيقا، وما لبث الحماس أن انتقل إلى المصارع، ونجاته من ميتتين متتاليتين أذهبت عنه غشاوة الخوف من الموت، فمضى بكل إقدام يعرض نفسه إلى مسافة شعيرات من القرون المخيفة، وينجو كل مرة في تفاديها والخروج من المأزق، وهكذا بعد السكوت الطويل مضت الساحة تجلجل ب «أوليه» إثر «أوليه» نشوة واستحسانا.
وبدأت أدرك شيئا وأكاد أضحك من نفسي.
فبالرغم من كل ما ذكرته عن الخطر والخطورة والحياة والموت، بالرغم من إدراكي أن مصارعة الثيران ليست لعبة أو رياضة، بالرغم من كل ما قلته وفكرت فيه؛ ففي أعمق أعماقي كنت لا أزال غير مؤمن بجدية خطورتها. كنت أعتقد أن كل ما يدور أمامي ليس سوى استعراض للخطورة، أما الخطورة نفسها فهي شيء لم أكن قد أحسسته بعد أو لمسته أو رأيته رأي العين.
ما الذي يمنع أن تكون هناك احتياطات دقيقة وراء كل ذلك المظهر الخطر، بحيث يمكن في آخر وقت إنقاذ المصارع ودفع الأذى الحقيقي عنه؟ وحتى حين كنت أرد على نفسي بما رأيته في المتحف وبقائمة الشهداء الموضوعة في مكان بارز، كنت أقول: لا بد أن الأمر كان كذلك أيام زمان، أيام البطولة الحقة، أيام الفتوحات الإسبانية والأرمادا، أو حتى أيام المجد أيام لوركا والحرب الأهلية، أما الآن فلقد اخترقت البلاد طولا وعرضا دون أن ألمح بادرة بطولة غير عادية، فما الذي يجعلها تنحصر هنا فقط؟ لا بد أن التطور الذي حدث لرعاة البقر في أمريكا حيث تكفلت الأيام والحياة الحديثة بنقل بطولاتهم ومسدساتهم ومغامراتهم من الحياة والواقع إلى الشاشة والقصص، لا بد أن شيئا مماثلا قد حدث لمصارعة الثيران هي الأخرى، وأصبح الخطر الحقيقي خطرا مفترضا، والشهداء والأبطال مكانهم في المتحف وليس في الحلبة، وما يدور أمامنا الآن إن هو إلا «تمثيل» متقن للعبة بحيث تحياه وكأنه حقيقة تقنع نفسك وتقنعك الدعاية والقصص والأخبار أنها موجودة، في حين أنك لو دققت وأعملت عقلك لن تجد لها أثرا.
الحادثان اللذان وقعا من لحظات كانا قد تكفلا بقلب كيان أفكاري تماما؛ فلقد أكدا لي ولكل من راوده الشك إن كان الشك قد راود أحدا، أن المسألة لا هزل فيها ولا خدعة، وأنها مصارعة جادة حقيقية، الخطر فيها ليس موجودا فقط، أو له لحظات يتبدى فيها، ولكنه قائم في كل لحظة منها، ولدى كل حركة أو التفاتة، وتكفي حصاة صغيرة تنزلق فوقها القدم لتنتهي حياة المصارع في ومضة، وقبل أن يفيق هو أو يفيق أحد لما حدث.
ويا لغرابة الإنسان! فمجرد انتقال إيماني بجدية ما يدور من طبقة في اقتناعي إلى طبقة أعمق، قلب الصورة في نظري كلية، وتغير معنى كل شيء، وأصبحت لأشياء موجودة معان لم تكن موجودة ولا تصورت وجودها.
مسألة أربكتني وجعلت حمى قلق وانتباه تجتاحني؛ إذ الآن قد أصبح كل شيء أمامي خطرا ومصدر خطر.
حتى راكب الفرس الذي يطعن الثور وهو محتم خلف دروعه يكفي أن ينطح الثور الفرس بطريقة يسقط معها الفارس إلى الداخل بدلا من الخارج لكي يقتله الثور في الحال. يكفي التواء قدم المصارع أو تكفي عثرة، يكفي ألا تواتيه سرعة البديهة في الوقت المناسب كما حدث لذلك المصارع الذي يصدر التلويحة الأولى للثور حين لم يفطن إلى شدة سرعته، فكانت النتيجة أن الثور وصل إليه قبل أن يتمكن من الوصول إلى العارضة الخشبية التي يحتمي بها المصارعون. لم يكن هناك حل للموقف إلا أن يختفي المصارع من أمام الثور بطاقية إخفاء، أو تنشق الأرض وتبتلعه، ولو فكر لجزء من ألف من الثانية في الطريقة التي يختفي بها للقي مصرعه قبل أن يكمل التفكير، ولولا أنه بلا تفكير، وبقوة ورشاقة منقطعة النظير قفز قفزة أوصلته إلى حافة السور، و«ببلانس» آخر كان قد أصبح خارج الحلقة، لولا هذا لمزقته القرون تمزيقا؛ فقد وصلت إلى السور ونطحته تقريبا في نفس اللحظة التي كان جسده يغادر خشب السور. حتى عملية غرس الأعلام، سنتيمتر واحد من الانحراف كفيل بضياع الفارس، وهذه الحركات التي يأتيها المصارع في مرحلة الميوليتا ليثبت بها قدرته وفنه، مثل الركوع على ركبة واحدة وهجوم الثور عليه وهو على هذا الوضع، والأخطر منها النزول بركبتيه، أو ما هو أخطر وأخطر الثبات في مكانه ودورانه حول نفسه فقط ليتفادى من هجوم الثور كلما غير الثور من اتجاهه. أية أعصاب مدربة علمتها الإرادة الحديدية والتمرين على الخوف ألا تفزع أو تأتي بحركة طائشة غير محسوبة، والثور يهجم عليك وقد تكفلت أنت بتحديد مكانك له، وآليت على نفسك ألا تبارحه، وفقط تتفادى من جسده المهاجم بالدوران ربع دائرة لكي يمر الثور من المسافة الكائنة في الفرق بين مواجهتك للثور بعرضك وبصدرك، ومواجهتك له بجانبك، فرق لا يزيد على الخمسة عشر سنتيمترا، بحيث لا بد أن تمسك قرون الثور وأكتافه، وتلوث الدماء الناتجة عن جرح الطعنة والأعلام المغروسة في ظهره، والدماء السائلة على كتفه ثيابك، وتفعل هذا بافتراض أن الثور سيندفع في خط مستقيم وسيبقي رأسه في أثناء المرور في خط مستقيم. ماذا لو كان الرأس معوجا قليلا اعوجاجا يحرك القرن عن موضعه ثلاثة سنتيمترات مثلا؟ ليس هناك سوى احتمال واحد لا احتمال غيره حينذاك؛ أن ينفذ القرن في جسدك بدل أن ينفذ في الفراغ.
تغيرت الصورة أمامي تماما، وتغيرت نظرتي إلى المصارعين والثيران، أما العقاب الرابض فوق «الأرينا» ينتظر اللحظة المناسبة ليعلن عن وجوده وينقض، لم أعد أحس به كافتراض من خلق الخيال. أصبحت وكأني أراه لم يعد بيني وبين رؤيته منقضا سوى المفاجأة التي تخفيها اللحظة التالية، سوى حصاة تتحرك، أو بقعة أرض تلين، أو قرن يشتبك في قطعة دانتلا تزين ثوبا.
أما الميتادورات الذين كانوا يتحركون وآخذ حركاتهم قضايا مسلما بها، لم أعد آخذها كذلك. أصبحت كل حركة من أيهم لها معنى وفيها صعوبة ومشقة، وليس سهلا على أي إنسان أن يقوم بها حتى لو بدت عادية لا مجهود فيها ولا بطولة أو فن؛ فهي حركات ليست في الهواء الطلق، إنها حركات في قلب الخطر، في فم الأسد، وتحت رقابة عشرات الآلاف من العيون التي لا ترحم، وتحت رحمة كتلة الحياة البدائية المدمرة التي لا تغتفر لحظة ضعف، والتردد أمامها معناه الموت.
Неизвестная страница