إن يكن اليوم لا يذكر حق ذكراه، فما هو بالخمول ولا هو بالقصور عن الخلود، ولكنه يعيش في عزلة من دنيا التاريخ كما عاش أيامه في عزلة من دنيا الحياة.
الشيخ رشيد رضا
يقول «محمود رشاد بك» في رحلته الروسية: «سألني التتار عن الشيخ محمد عبده، والشيخ علي يوسف والشيخ رشيد رضا ومصطفى باشا كامل وفريد بك وجدي، وشكروا لهم صدق غيرتهم على الدين.»
وقد لقيت أنا في بلدتي أناسا من أبناء «إفريقية الغربية»، الذين يعبرون بأسوان في طريقهم إلى الحج ذاهبين أو عائدين، فوجدت بينهم من يقرأ مجلة «المنار» ويعول عليها في فهم شعائر الإسلام وأحكامه.
وقد تكفي نظرة في باب الأسئلة والفتاوى التي كانت تنشر بتلك المجلة لتقدير مدى انتشارها في الأقطار الإسلامية؛ لأنها كانت تتلقى الأسئلة والفتاوى من جميع الأقطار.
وقد كنت أطلع على بعض أعدادها حرصا مني على متابعة آثار الشيخ «محمد عبده» في كل مظنة، فكنت أحمد له الدعوة إلى التحرر من ربقة القديم ، ولكني أسأل نفسي دائما بعد قراءتها: «من أين يلم بالنفس هذا الشعور بشيء غير مستساغ في كثير مما يكتبه الشيخ «رشيد»؟!»
ولم يكن هذا شأني وحدي فيما كنت أقرأ من كتاباته، ولكنه كان شعورا يشاركني فيه عدد غير قليل من القراء، وما زلت أسائل نفسي حتى تبين لي بعد تجربة الحياة والأدب، وبعد لقاء الشيخ «رشيد»، أنه ضرب من الحاجة إلى الصقل، ولا سيما الصقل من ناحية الكياسة والفكاهة، فما أحسب أن الشيخ - رحمه الله - كان يلتفت إلى شيء من طرائف الحياة التي تتجلى في نقائص الدنيا وأعاجيبها، ولا غنى عنها لتمام التعاطف والتفاهم بين الناس. لقيته مرات لا تحصى، ولكني لم أتحدث إليه غير ثلاث مرات أو أربع في مناسبات قليلة.
أولها في دار المنار بدرب الجماميز؛ كانت دارا صغيرة، لها سلم ضيق تصعد عليه إلى حجرة لا تزيد في مساحتها على أربعة أمتار مربعة، وفيها ديوان مفروش، وعلى أرضها حصيرة فوقها فروة، يجلس عليها الأستاذ وقد ثنى قدمه، وفي يده ورقة يكتب عليها للمنار.
وكنت أعبر بتلك الدار كثيرا في طريقي إلى دار الكتب، فلم يخطر لي أن أزورها أو أعرج عليها، حتى أعلن الشيخ «رشيد» عن كتابه في ترجمة الأستاذ الإمام، وصدر منه جزآن، هما الجزء الثاني والثالث، وأرجئ صدور الجزء الأول إلى حين.
كان الجزء الثاني يشتمل على طائفة من مقالات الأستاذ الإمام ورسائله التي نشرت بتوقيعه أو بغير توقيعه.
Неизвестная страница