والمرء ما لم تفد نفعا إقامته
غيم حمى الشمس لم يمطر ولم يسر
وترجم مصطفى كامل هذا البيت إلى اللغة الفرنسية في طلاقة وثقة، وناقش التلميذ في شرح معناه، فتلعثم التلميذ ولم يجب بطائل، فأسعفته معتذرا له بأن الغيم الذي لا يمطر في أسوان ولا يسير نعمة محبوبة، وأن الغيم الممطر وغير الممطر عندنا قليل!
ولاح لي أن «الباشا» لم يسترح لهذا التعقيب، ولم يتقبل منه الإشارة إلى خطئه في اختياره، وإن لم يكن في الأمر غير فكاهة تتلاقى فيها التخطئة والتصويب.
صورة مصطفى كامل التي بقيت في خلدي مدى الحياة، هي الصورة التي انطبعت فيه من أثر هذه الرؤية الأولى.
حركاته كلها كانت تنم على إحساسه بدقة تكوينه، يبدو ذلك من شموخه وزهوه، كما يبدو من طول طربوشه وارتفاع كعبه، ومن سترة «البنجور» التي كانت لا تلائم سنه وهو دون الثلاثين.
وهذا البيت من قصيدة أبي العلاء، أليس فيه تعريض بالأجسام التي تسد عين الشمس فتحجب الضياء ولا تجود بقطرة من الماء؟
وربما شغلته دقة تكوينه بسمت الوقار، فلم تسمح لها بمجاراة روح الفكاهة، ولا سيما الفكاهة على حسابه، والفكاهة التي فيها تخطئة لاختياره.
وقد كان من شأن المواقف الأخرى التي اقتربت فيها من شخص مصطفى كامل، أن تؤكد هذه الصورة ولا تمحو عندي ظلا من ظلالها.
كنت أحرر صحيفة «الدستور» مع صاحبها الأستاذ محمد فريد وجدي، وكان الأستاذ وجدي أحد الأعضاء الذين دعوا إلى تأسيس الحزب الوطني قبل وفاة مصطفى كامل ببضعة أشهر، فلما انتهى رئيس الحزب من عرض برنامجه، اقترح إرسال تبليغ بالبرق إلى وزارة الخارجية البريطانية لإعلانها بتأليف الحزب الوطني ومطالبتها بالجلاء، فأقره الأعضاء جميعا على اقتراحه، ما عدا الأستاذ «وجدي» الذي كان من رأيه أن يعمم إرسال التبليغ إلى جميع الدول؛ دفعا لشبهة «المركز الخاص» الذي تدعيه بريطانيا العظمى باحتلالها هذه البلاد، فأبى مصطفى تعديل اقتراحه وأصر على طلب قبوله بصيغته التي عرضه بها على الأعضاء، وكاد أن يقاطع صاحب «الدستور» فلم يتبادلا الزيارة بعد ذلك، إلى أن توفي مصطفى فخرج صاحب «الدستور» من قطيعته ورثاه بمقال حزين جعل عنوانه: «مال أكبر رأس في مصر. إنا لله وإنا إليه راجعون». فلم تزل كلمة «أكبر رأس» تعلق بذاكرتي منذ ذلك اليوم إلى أن ذكرتها في كلمتي عن «الملك أحمد فؤاد» بمجلس النواب: أكبر رأس يحطم الدستور. •••
Неизвестная страница