في الصباح الباكر أصحو كل يوم على صوت صفارة مفزعة تشبه صفارة الإنذار، وعرفت أنها فعلا صفارة إنذار، ولكنها تستخدم في أوقات السلم كجرس عام يعلن للناس بدء اليوم، فكرة لا بأس بها للذين يعملون، ولكنها مزعجة أحيانا لمن لم يعتدها، أو لمن سهر الليل مثلي ويرغب في الراحة لوقت متأخر من النهار.
لكن الناس في دلهي لا يسهرون مثل الناس في القاهرة، معظمهم ينامون قبل العاشرة مساء، وهم يستيقظون مبكرا جدا، إذا سرت في الشارع الساعة السادسة صباحا تجد الزحام والعجلات والموتوسيكلات، وتسمع الراديو يشدو بالأغاني الهندية في الدكاكين والبيوت.
لكنك لا ترى السيارات في الشوارع إلا بعد التاسعة؛ فالعمل في المكاتب الحكومية يبدأ في العاشرة صباحا وينتهي السادسة مساء. وهذا نظام إنجليزي لا زال قائما في الهند. كان الإنجليز يستيقظون مبكرا ويذهبون إلى النادي لممارسة لعبة الجولف قبل أن تشتد حرارة الشمس، ثم يأخذون دشا، وحين يذهبون إلى مكاتبهم تكون الساعة قد أصبحت العاشرة، معظم الهنود الموظفين في الحكومة لا يذهبون إلى النادي صباحا ولا يلعبون الجولف، ولكنهم يستيقظون الساعة السادسة صباحا ويجلسون في بيوتهم يشربون الشاي ويتحدثون حتى تقترب الساعة من العاشرة. قال لي بعضهم: إن هذا النظام الإنجليزي لا يتناسب مع جو الهند الحار، والأفضل أن يبدأ العمل السادسة صباحا قبل أن يبدأ الحر وللاستفادة من ساعات الصباح الضائعة. •••
الهنود يدخلون عليك بيتك في أي وقت، قد تكون مسترخيا في سريرك مثلا وتفاجأ بجارك الهندي وقد دخل حجرة نومك، وهم أيضا يتركون أبواب بيوتهم مفتوحة دائما لتدخل إليهم في أي وقت. إنهم يذكرونني بأهل قريتي كفر طلحة، وكم أحب مثل هذه العادات البدائية التي تحطم الحواجز المصنوعة بين الناس. لكنها تبعث في النفس بعض الضيق خاصة في تلك الأوقات التي يريد فيها الإنسان أن يكون وحده أو في عزلة كاملة عن الآخرين. لكن الهنود عامة لا يعرفون العزلة عن بعضهم البعض، اللهم إلا إذا كان الواحد منهم من عشاق اليوجا، أو من النساك البوذيين أو الهندوس الذين يقضون حياتهم في عزلة كاملة غارقين في تأمل النفس الكلية الخالدة، والوصول إلى تلك الحالة المسماة «النزفانا» حيث يتوحد الإنسان مع نفسه ويدرك السعادة النهائية.
إحدى صفات الهند المميزة هي التناقض؛ فالهند مليئة بالتناقضات شأنها شأن أي مجتمع ينمو من التخلف إلى التقدم، ويلتقط القيم الجديدة على حين تظل القيم القديمة موجودة وسائدة، إن بعض الناس في الهند لا زالوا يقدسون التقاليد الإقطاعية القائمة على التفرقة بين الطبقات وسيادة الرجل على المرأة داخل البيت وخارجه، البعض الآخر لا زال مجتمعا أمويا تسود فيه النساء وترث البنات الأرض ولا يرث الأولاد الذكور، البعض الآخر وبالذات في نيودلهي ومدن الشمال قد تأثر إلى حد كبير بالثقافة الغربية الإنجليزية، فترى البنات قد خلعن الساري وارتدين الميني جيب أو البنطلون الضيق، والصبيان قد أطالوا شعورهم، والرجال قد رشقوا البايب في زاوية الفم ومزجوا اللغة الهندية باللغة الإنجليزية. وفي ظل هذه الثقافات المتباينة تجد قيما أخلاقية متباينة تبدأ من أقصى التزمت وفرض الحجاب على النساء والعذرية على البنات إلى أقصى التحرر وسيادة المرأة وحريتها في اختيار زوجها بل أزواجها، حيث تتزوج المرأة بعدد من الرجال، وتنسب إليها أطفالها.
وأيضا تجد هذه الاختلافات الشاسعة بين الأديان والعقائد في الهند، بعضهم يؤمن بإله واحد مكانه السماء، وبعضهم يؤمن بعدد لا حصر له من الآلهة ويقولون إن الله داخل كل إنسان، وبعدد الملايين من البشر توجد الملايين من الآلهة، بعضهم ينكر وجود الإله لا في السماء ولا في الأرض ويقولون إن الدين هو الحياة وهو الاستمتاع بالحياة.
وتنعكس هذه الفلسفات المتباينة على المعابد الهندية، بعض المعابد تشبه البيوت، يدخلها الرجال والنساء والأطفال ويأكلون ويشربون ويلعبون داخل المعبد. ويقولون إن المعبد وجد للحياة، وإن العبادة هي هذه الحياة.
وبعض المعابد تحرم دخول النساء والأطفال ولا يدخلها إلا الذكور؛ لأن الذكور هم الجنس المفضل الطاهر المقرب إلى الآلهة. أما النساء فهن الجنس الملوث غير الطاهر. والتماثيل والنقوش على جدران المعابد تختلف أيضا اختلافا شديدا، بعض التماثيل تصور الآلهة على أنهم بشر يأكلون ويشربون ويرقصون ويمارسون الجنس بكل أوضاعه وأنواعه، وبعض التماثيل تصور الآلهة على أنهم كائنات غير بشرية بغير جنس وبغير أعضاء، وإنما هي قوى غريبة الشكل تبعث على الدمار أو الفزع أو الموت.
بعض الآلهة لها ملامح إنسانية باسمة محبة للحياة والخير، وبعض الآلهة لها ملامح شيطانية يتصاعد الشرر والنار من عيونها البشعة.
فتحت هذه التناقضات عقلي على حقائق كثيرة عن طبيعة هذا المخلوق الذي اسمه الإنسان، أحسست وأنا في الهند أزور المعابد وأشهد بعيني تطور البشرية منذ العصور البدائية حتى اليوم كأنما عالم جديد ينفتح أمام ذهني، وبدأ ضوء جديد يضيء أركانا كانت مظلمة في رأسي.
Неизвестная страница