وسألتها: وأنت؟ ألست أمريكية يا ماريون؟
قالت: نعم، ولكني حررت نفسي من الخزعبلات وأولها كراهية البشرة السوداء.
وقلت: وثانيها؟
قالت: تبييض الوجه بالمساحيق.
بسيطة وطبيعية تتدفق بالحيوية، تنتبه للمحاضرات العلمية بمثل ما تتحمس للمظاهرات السياسية، بشرتها صافية بلا مساحيق وشعرها حر تتركه للهواء والمطر ونجري معا في الشارع كالأطفال.
لم أشعر معها بالغربة، وكأنما ولدنا في بلد واحد وعشنا طفولة واحدة، الزميلات الأمريكيات الأخريات تفصلني عنهن مسافة كبيرة، وأشعر بينهن بالغربة. لا يعرفن شيئا عن العالم خارج أمريكا. لا فلسطين ولا فيتنام ولا أي بلد آخر في آسيا أو أفريقيا، وجوههن مدهونة بالمساحيق، فوق الجفون وعلى الرموش والخدود، ولون فضي غريب يلمع فوق الشفاه، وفوق الأظافر المدببة الطويلة كالدمى البيض الملونة، كالجواري في عهد هارون الرشيد رغم لكنتهن الأمريكية وبشرتهن البيضاء وقامتهن الطويلة النحيلة، أسيرات المفهوم العبودي لمعنى الأنوثة والجمال، يكشفن عن الشق بين النهدين، ويرقصن داخل سراويل ضيقة وعيونهن على الرجل، ينشدن الزواج رغم كل شيء، وإذا تزوجن تبخرت طموحاتهن الأخرى، وانقطعن عن الدراسة أو العمل، وتفرغن لشئون البيت والأطفال إلى أن يكبر الأطفال، فتعود إليهن طموحاتهن القديمة ويصبحن تلميذات من جديد وهن في الخمسين أو الستين من العمر، وفي ساعة الغداء يجلسن معا ويثرثرن في أمور الأزواج والأولاد. •••
هذه الليلة أذكرها رغم مرور السنين. كانت السبت 9 ديسمبر 1965. وقد دعتني ماريون في الصباح إلى متحف جوجنهايم، ودعوتها في المساء لرؤية مسرحية: مشهد من الجسر، لآرثر ميلر.
سرنا على الأقدام حتى تقاطع شارع 88 مع الأفينيو الخامس حيث متحف جوجنهايم، وهو متحف حديث، افتتح عام 1959، صممه المهندس فرانك رايت على النمط الهندسي العضوي، ربما هو نمط جديد في المعمار. لا بد أنه دراسة للمكان في علاقته بالإنسان، وكيف يمكن استخدام المساحة لتبدو للإنسان أكثر اتساعا وأكثر راحة للعين.
الأدوار تمتد أمام عيني في خطوط دائرية، كل شيء دائري: الجدران والسلالم والطوابق والدائرة تبدو للعين أكثر امتدادا كأنما بلا بداية أو نهاية، وهي توحي أيضا بالحركة كالشيء الحي، والمكان يتحول إلى ما يشبه الجسم العضوي، يشع نوعا غامضا من الدفء والراحة.
وصعدنا من طابق إلى طابق، ثلاثة آلاف لوحة تصور الفن التشكيلي الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، وأسماء متعددة في عالم الفن الحديث: من بول سيزان إلى بابلو بيكاسو ومارك شاجال وموندريال، ثم جاكسون بولوك وكينزو أوكادا، وأخيرا جان دوبوفيه وسيرج بولياكوف وغيرهم.
Неизвестная страница