فعل ما فعله من تلقاء نفسه أو كان مجبورًا ومرغمًا عليه من قبل أصحاب الحلّ والربط في البلاد. وأنا عند ذلك الأخير أقول: إذا كانت الحكومة تريد من وراء عملها هذا كسر شوكة الأسرة الخديوية والحطّ من كرامتها في عيون الناس، فليس في وسعي حذاء ما تبتغي الحكومة سوى الصبر والسكوت، وهو أحسن ما يكون جوابًا في تلك الحال. وإلا فماذا ينفع القيل والقال وقد أصبحت البلاد كما تعرفون؟ لا أقول إنّها بلاد فوضى أو خالية من العظماء والعقلاء والحكّام والأمراء. ولكن كلّنا لا نجهل أنّ الاختلاف على المبادئ والغايات كثيرًا ما يوجد الاشتباه والالتباس ويوجب تفرّق الكلمة ويذهب بوحدتها بين الناس، خصوصًا إذا هم اختلفت شعوبهم واضطربت مضاربهم وآراؤهم، ومن ثمّ لا تجدي الشكاية من امرئ يزعم أن أكبر المبرّرات لعمله اِعتماده على جانب غيره واِطمئنانه على قوّته ونفوذ أمره. ولذلك أنا أفضل من الآن الرجوع إلى مصر، دون أن ألوي في طريقي على مكان آخر، على أن أتمّ رحلتي في بقيّة البلاد. فإنّي أحسب أنّ هذا أحفظ لكرامتي وخير لي ممّا عساني أصادفه في حكومات الشام. وعندئذٍ قالوا جميعًا خفّض على نفسك، فالأمر أهون ممّا تظنّ، وسافر على بركة الله على ما شئت من البلاد، فإنّك سترى إن شاء الله من الآن ما يسرّك ويرضيك حيث أقمت وحيث ارتحلت، فليس في
طريقك من هنا إلى بعلبك وحمص وما بعدهما إلا قومنا وأبناءنا الّذين منهم المتصرّفون والحكّام. وإنك ستجد من عنايتهم واِحتفائهم العظيم بمقامك الكريم ما أنت جدير به فشكرت لهم هذا المعروف الكبير والإخلاص المتناهي مرّة بعد أخرى. ثمّ قام القطار، وهنا كان آخر رحلتي في مدينة دمشق وعاصمة الشام الكبيرة. وقد كان بودّي لو أن تطول إقامتي فيها لأتجوّل في جميع ضواحيها ونواحيها، وأطوف أيضًا على مدارسها النظامية ومعاهدها الدينية ومعاملها الصناعية ومكاتبها ومطابعها، وأوافي القراء في رحلتي بتفصيل ذلك كلّه، غير أن الوقت كان مع الأسف ضيّقًا لا يسمح لي بأكثر ممّا كان. على أني كنت ألاحظ في أثناء مروري في طرقات البلد من داخلها وخارجها أنّ أغلب السكّان من الطوائف الإسلامية، وأنّ عدد المسيحيين بالنسبة إليهم قليل جدًّا كعدد المسلمين بالنسبة إلى سكّان لبنان أو هو أقل من ذلك أيضًا.
1 / 84