الالتفات والعناية، أكون قد وافيت القرّاء بما لعلّهم يجهلونه في تلك البلاد وأرشدتهم ثمّت على ما ربّما تقصر عنده ألسنة المحدّثين أو تجفّ دونه أقلام الكاتبين. على أنّه لا يذهب على عاقل أنّ تاريخ البلاد، من جهة سياستها وعمارتها وحالة سكانها المعاشية والتجارية، ممّا لا يلازم بالضرورة حالة واحدة أو يقف عند حدّ محدود تتعاقب عليها حوادث الأيّام والليال، ويلحقها كسائر العالم وصف التغيير من حال إلى حال.
بيروت مدينة قديمة التاريخ من أشهر وأهم مدن سوريا التجارية واقعة على شاطئ بحر الروم، وهي أكبر ميناء في بلاد الشام. ومركزها الطبيعي غاية في الجمال، وعدد سكانها يبلغ الآن نحو١٥٠ ألف نسمة، أغلبهم من الطوائف المسيحية، وعدد العسكر فيها يقرب من ١١٠٠ جندي منهم ٨٠٠ من البيادة والطوبجية ونحو ٣٠٠ من السواري. وأكثر مناظرها الطبيعية كانت في باب الجمال، ممّا قلّ أن يتناوله النظر في غيرها من البلاد الأخرى.
وصف منظر
نعم، وهل رأى الوافدون على بيروت، في ما كانوا شاهدوه، أحسن وأشهى وأخصب وأينع وأجمل وأبدع من منظر هناك، واقع بين البحر المتوسط وجبل لبنان، قد اِمتلأ من كلّ الجهات بالزروع المزهرة والأشجار المثمرة؟ تراه وقد اتّشح على طوله الطويل وعرضه الجميل بوشاح بهيّ ورداء سندسيّ يملأ عين مبصره بهجة ورواء وحسنًا وبهاءً، كما يملأ قلبه طربًا وحبورًا وفرحًا وسرورًا. هذا لعمرك منظر السفح، بينما تنظر إلى سكون الجبل وثباته واِضطراب البحر وثباته كأنّهما، وقد حاصراه بينهما، عاشقان يتجاذبان حبّه ويتنازعان وصله وقربه. وما أبرّه بعاشقيه وأوفاه بعهد صاحبيه، فلقد كان في موقعه أحسن ما يكون مطلوب بين طالبين ومعشوق أراد إرضاء العاشقين، غير أن الماء قد غلبته غيرته وأخذته غريزته وملكته أثرته، فلم يزل متهيّجًا لا يهدأ له بال ومتحرّكًا لا يستقرّ على حال، وكأنّ الجبل وهو ساكن سكونه محبّ قد اِمتلأ ثقة بمحبوبه أو غالب ظفر من مغلوبه بمطلوبه.
1 / 51