Путешествие в мысли Заки Наджиба Махмуда
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Жанры
13
التي قد نبدأ فيها من وقائع الطبيعة، وهو ما تفعله مجموعة العلوم الطبيعية، كما ذكرنا، وقد نبدأ من «فروض» كالرياضة: فتكون مبادئ مختارة ليس فيها إلزام لأحد من غير أصحابها، فقد يفرض الرياضي أن المكان مستو ثم يبني النتائج على فرضه هذا، أو قد يفرض أن المكان كري ثم يستنبط، أو أن المكان أسطواني. وهكذا.
14
غير أنه إذا كانت الرياضة هي المثل الكلاسيكي للبداية التي تبدأ من فروض، أو مبادئ مختارة، فإن الديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تبنى على «مبادئ»، فكل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه ويستنبط، بحيث تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابا بالنسبة إلى نص كتابها.
15
وهنا نلفت النظر إلى نقطة هامة وخطيرة: وهي أن المنظومات الفكرية المختلفة، وإن تكن كل منها مستقلة عن الآخرين في صواب أحكامها أو خطأ تلك الأحكام؛ أعني أن كلا منها إذا استشهد بصواب حكم معين فمرجعه هو مبدؤه، لا مبدأ المنظومة الأخرى، إلا أننا نستطيع المفاضلة بين هذه المنظومات الكثيرة المتجاورة، على أساس ما تؤديه كل منها للحياة الإنسانية من سعادة أو من تسام أو غير ذلك؛ فالأمر هنا شبيه بأن ترى بيوتا متجاورة، لكل منها أساسه الذي أقيم عليه، ولكل منها أجزاؤه الداخلية التي بنيت على ذلك الأساس، فلا يكون بيت منها حجة على بيت آخر، فقد يهدم أحدهما لضعف أساسه، بينما يبقى الآخر بقوة أساسه، لكن استغلال هذه البيوت المتجاورة بعضا عن بعض، لا يمنع من المفاضلة بينها من ناحية ما تؤديه في حياة ساكنيها.
16
ضربنا مثلين للمبادئ المفروضة نختارها ليبدأ منها العقل سيره، هما «العلوم الرياضية»، و«البناءات الدينية»، ونستطيع أن نسوق مثلا ثالثا من الفكر السياسي، فها هنا كذلك تجد النظرية السياسية تبدأ من «مبدأ» معين تقيم عليها بناءها كله: خذ مثلا فيلسوفين إنجليزيين هما «هوبز» و«لوك»، الأول يقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم للأقوى. وهذا، الأقوى إذا ظفر بالسلطان لم يعد من حق الشعب المحكوم أن يقيله أو أن يعترض عليه. أما الثاني فيقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب، وبذلك يكون للشعب حق إقالة الحاكم إذا انحرف عما أرادوه من أجله، من المبدأ الأول ننتهي إلى حكم الفرد المستبد، ومن المبدأ الثاني ننتهي إلى حكم الشعب لنفسه، هكذا نجد أنفسنا أمام منظومتين فكريتين، كل منهما ترتكز على ركيزة، وكل منهما يحكم على نتائجها بالصواب أو الخطأ بحسب طريقة استنباطها من مبادئها، فكيف تفاضل بينهما إذا أردنا أن نختار لأنفسنا إحداهما دون الأخرى؟ لأننا لا نفاضل بينهما على أساس صواب إحداهما وخطأ الأخرى؛ لأن كلا منهما قد تكون صحيحة الأجزاء، ما دامت هذه الأجزاء مستنبطة استنباطا سليما من المنبع. بعبارة أخرى قد تكون كلتا المنظومتين صوابا على ما بين تفصيلاتهما من اختلاف بعيد، لسنا نفاصل بينهما على أساس الصواب والخطأ لأن كلا منهما مبنية على «مبدأ»، والمبدأ «فرض»، والفرض لا يوصف بصواب أو خطأ، وإنما تكون المفاضلة على أساس النفع للإنسان في حياته ... وقل مثل ذلك في جميع المذاهب الفلسفية الأخرى.
17
العقل، إذن، فاعلية أو نشاط نسير به من «أ» إلى «ب»، وقد تكون «أ» معطيات الحس، و«ب» هي القوانين أو أدوات الربط بين الظواهر الطبيعية، وذلك هو طريق العلم الطبيعي، وقد تكون «أ» بداية مفترضة هي الرموز الرياضية أو هي «النصوص الأدبية» أو «النظريات السياسية»، أو المبادئ النظرية في المذاهب الفلسفية المختلفة ... إلخ، ويكون أساس المفاضلة بينها هو مدى نفعها لحياة الإنسان.
Неизвестная страница