Путешествие в мысли Заки Наджиба Махмуда
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Жанры
85
واستكمالا لهذه الصورة جاءت حياتنا الفنية انعكاسا لهذه النظرة الشمولية التي تعلي من شأن الخارج على حساب الداخل؛ فالمعيار يهبط عليك من أعلى، ولا ينبثق من طويتك؛ ولهذا كانت الأولوية في حياتنا الفنية لسلامة الشكل لا لحيوية المضمون: فالرسوم أشكال هندسية، والقصائد تفعيلات موزونة، وتسربت هذه الشكلية إلى مناشط الحياة جميعا، فما دمت قد حافظت على الشكل المقبول، عند القانون أو عند الشرع أو العرف، فقد أديت واجبك بغض النظر عما ينطوي عليه هذا الشكل من لباب الفعل، فنحن نهتم «بالمظهر» لا بالحقيقة: فأظهر للناس في أوضاع الغنى تكن غنيا، وفي أوضاع الحرية تكن حرا، وفي أوضاع العالم تكن عالما، فالمهم هو أن يسلم الشكل من الشوائب.
86
وهكذا ينتهي مفكرنا إلى أن من تصورنا لهذه الثنائية التي تفصل بين السماء والأرض، نشأ طغيان الحاكم بالمحكوم، وانهدمت ضرورة القوانين في الطبيعة والمجتمع على السواء، وعلت الإرادة على الفكر، وسبقت قوة الجاه رجحان الحق، وأصبحت الفضيلة واجبات مفروضة، وبات الفن شكلا بغير مضمون.
87
ولا يرى مفكرنا مانعا أن تبقى هذه الثنائية فيما يختص بعلاقة الإنسان بربه، لكنه يوجب أن تضاف إليها ثنائية جديدة تكفل لنا النتائج المسايرة للعصر الجديد، وهي ثنائية العلم والحرية ... أما «العلم فهو يعني معرفة ظواهر الطبيعة؛ أي العلم بالطبيعة وما فيها من صنوف الكائنات، غير أن ذلك يستوجب أن يكون الإنسان نفسه «ذاتا، عارفة، عالمة، باحثة، منقبة»، فيصبح هناك ذات تعلم وموضوع يعلم: الذات العارفة، والموضوع المعروف، الإنسان والعالم.»
والنتيجة التي تلزم عن هذه القسمة هي ضرورة أن يخضع الإنسان لواقع العالم كما يثبته العلم، مع ضرورة أن تظل للذات حريتها، فترغب وترهب، وتحب وتكره وتختار وتدع، وتقبل وتدبر، وتجرؤ وتجبن ... إلخ.
فالعلم بالطبيعة الخارجية قيد، وانطلاق الطبيعة الداخلية على سجيتها حرية، والجمع بين ذلك القيد وهذه الحرية هي ما تريده للمواطن العربي، وإذا تقيد الناس بحقائق العلم تشابهوا على اختلاف قومياتهم وتباين أجناسهم. أما الحرية نفسها انطلاق الذات وراء طبيعتها، وها هنا يختلف الناس، فردا عن فرد أولا، وأمة عن أمة ثانيا. إنني حين أثبت حقائق الطبيعة الخارجية، فذلك «علم» والعلم واحد للجميع، أما حين اتعقب حقائق الطبيعة الداخلية، فذلك «فن» و«الفن منوع بتنوع الأفراد والأمم»، العلم موضوعي والفن ذاتي، وينبغي أن أحذر خلط العلم بأهواء الذات، أو أن أزيف الفن بموضوع يملى عليه من الخارج، وبالعلم المقيد والفن الحر يتكون الإنسان المعاصر، وعند مفكرنا أن العربي متخلف عن عصره؛ لأنه لم يكتسب العلم بالطبيعة. كما أنه لم ينشئ فنا يعبر عن ذاته؛ فهو إن عرف شيئا عن «العلم» فقد استمده من غيره ثم حفظه حفظ التلميذ لدرسه، والفن كذلك سلعة منقولة عن سوانا (عن أسلافنا أو معاصرينا)، فإذا كان في المنقول فن؛ فالفن لغيرنا عبر به عن ذاته هو، أما نحن فذواتنا مطمورة تنتظر الفنان الأصيل.
فإذا انطلقنا من هذه النقطة: الحقيقة العلمية عن الواقع التي يتشابه الناس في الخضوع لها، والعبارة الفنية التي تصور الذات، فتتشابه جميعا في الحرية عند صوغها، أسلمتنا هذه النقطة إلى نتيجة لازمة؛ وهي أننا سواسية أمام العلم والفن معا، فلا يكون التفاوت بيننا بسبب المنصب أو الجاه أو النفوذ أو الثراء، بل فلانا أصاب الحق في العلم والصدق في الفن، بالعلم المشترك نعرف العالم ونغيره، وبالحق الذاتي نعرف الإنسان ونقومه، بالعلم المشترك تنشأ الحضارة بنظمها ومصانعها وتجارتها ... إلخ، وبالتعبير الفني عن الذات تنشأ الثقافة بقيمها التي تفرق بين الحسن والقبيح، والمقبول والمرذول.
88 (6-3) قيمة العقل في تراثنا
Неизвестная страница