Путешествие в мысли Заки Наджиба Махмуда
رحلة في فكر زكي نجيب محمود
Жанры
علينا أن ننتبه جيدا إلى أمثال هذه العبارات المهمة التي تدل أولا على أنه أخذ منهج الوضعية المنطقية في التحليل دون المذهب، وعلى أنه أراد ثانيا أن يوظف هذا المنهج لصالح الفكر التنويري، ولو أن الرجل أراد أن يكون مدرسة، كما يزعم نقاده، تنشر مبادئ الوضعية المنطقية، وتترجم نصوصها وتروج أفكارها، لوجد عشرات من تلاميذه على استعداد للقيام بهذا الدور منذ زمن بعيد (راجع ذلك بالتفصيل في مقالنا «زكي نجيب محمود كما عرفته» فيما سبق)، ولوجد من تلاميذه من يؤلف، ومن يترجم، ومن ينقل الوضعية المنطقية من شتى زواياها وأبعادها إلى الثقافة العربية، لكنه لم يفعل، بل كانت معظم الرسائل الأكاديمية التي أشرف عليها إبان فترة أستاذيته بالجامعة، تدور حول موضوعات فلسفية لا علاقة لها بالوضعية المنطقية.
كانت رسالة كاتب هذه السطور عن «المنهج الجدلي عند هيجل»، ورسالة د. محمود زيدان عن «وليم جيمس»، ورسالة فرحات عمر عن «القانون العلمي»، ورسالة المرحوم عزمي إسلام عن «جون لوك»، ورسالة د. أحمد فؤاد كامل عن «ليبنتز» ... إلخ.
الوضعية المنطقية ... في خدمة التنوير ...!
وسقراط مصر - مثل سقراط أثينا - لم يكن يريد للناس أن تستخدم لفظا واحدا بغير تحديد، وتحليل، وتعريف، فكانت الدعوة إلى الدقة في تحديد الأفكار والمفاهيم وعدم الخلط بين المعاني. ومن أثقل الهموم التي حملها شيخ الفلاسفة طوال ما يزيد على ستين عاما، وهو يتشدد على الشروط المفروضة على المتحكم الجاد، إذا نطق بعبارة أراد بها انتقال فكرة من رأسه إلى رءوس الآخرين («موقف من الميتافيزيقا»، مقدمة الطبعة الأولى).
وها هنا يكون عمل الفلاسفة أن تدنو بنا من تلك المفاهيم لنراها في تفصيلاتها ودقائقها: والعجيب أن يتهمك الناس نتيجة لهذا التحليل أو التحديد، بأنك تعقد البسيط، وتصعب السهل، حين جاءهم الفيلسوف بتحليل يفكك لهم أوصال المفاهيم التي يتداولونها، فثاروا في وجهه، وكأنهم كانوا يجدون النعمة في الفهم المبهم، ويخشون أن يفسد تحليل الفلاسفة عليهم ما كانوا به ينعمون! (هموم المثقفين، ص66)، منهج التحليل الذي أخذه من الوضعية المنطقية، والذي لاءم تفكيره ملاءمة جعلته يقول: «كأنما هو ثوب فصل على طبيعة تفكيري تفصيلا جعل الرداء على قد المرتدي، بل إني شعرت في اللحظة نفسها، بأنه إذا كانت الثقافة العربية بحاجة إلى ضوابط تصلح لها طريق السير، فتلك الضوابط تكمن ها هنا ...» (قصة عقل، ص92)، هذا هو المنهج الذي ارتضاه لنفسه، فكيف استخدم شيخ الفلاسفة هذا المنهج؟!
كانت طريقته في التحليل أن يمسك بعدسة مكبرة تكشف للقارئ عناصر الفكر التي هي مدار الحديث، فذلك وحده كفيل بأن يزيل ضباب الغموض الذي يكتنف المفاهيم المحورية التي تدور حولها ثقافتنا (قصة عقل، ص133)؛ فالتوضيح معناه تحليل المفهوم الغامض لاستخراج العناصر الداخلة في تكوينه لكي نفهمه، تماما مثل أي عملية كيميائية؛ فلكي تفهم الماء أو الهواء، أو قطعة الفحم، أو ما شئت، فهما علميا، عليك بتحليلها، في المعامل، وكذلك التحليل العقلي للأفكار الغامضة، عليك أن تحللها تحليلا عقليا لكي تكشف عناصرها ومكوناتها التي دخلت في تكوينها.
ولما كان سقراط مصر - مثل سقراط أثينا - صاحب رأي مستقل، فقد راح يبدي وجهة نظره، ويوجه سهام النقد، أثناء عملية التحليل، لكثير من أوضاع مجتمعه، دون أن يلتزم بأفكار حزب معين، أو بموقف أيديولوجي خاص. ولقد أمده هذا الموقف المستقل بحرية الحركة في نقد وتحليل أي مفهوم، يظهر على مسرح حياتنا الثقافية أو السياسية، دون أن يجد في هذا التحليل حرجا ولا غضاضة! فأنت تراه قابعا ممسكا بالقلم، يتلقف كل ما يظهر من أفكار ومفاهيم ليبدأ عمله، لا يهمه بعد ذلك المصدر الذي أطلق الفكرة: رئيس الجمهورية أو جمهور الناس في الشارع.
التطرف والإرهاب
ويضع شيخ الفلاسفة «التطرف الديني» تحت المجهر، لينتهي من تحليله إلى أن هناك أربع خصائص للمتطرف في مجال الدين أو في أي مجال غير الدين، هي:
سمة أولى للمتطرف، وهي سمات تؤخذ عليه، أن يقوم بإرهاب الآخرين، لإرغامهم على قبول ما يدعو إليه هو وزمرته، وفي ذلك الإرهاب يسكن جوهر التطرف ... فليست المسألة أن يختار لنفسه وجهة نظر، يرى الأفكار والمواقف من خلالها، وإنما المسألة أنه يريد أن يرغم الآخرين بالقوة على الأخذ بها، فقد كانت وجهة نظر «الخوارج» مثلا خالية مما يؤخذ عليهم، ومع ذلك فقد نفرت منهم الأمة الإسلامية، لماذا؟ كانت العلة في تطرفهم هي اللجوء إلى القسوة العنيفة، إرهابا لكل من وقعت عليه أيديهم، حتى يوافق على وجهة نظرهم، وإذا لم يفعل قتلوه بأفظع صور القتل وأبشعها؛ مع أنهم كانوا لا ينقطعون عن عبادة الله لحظة واحدة! إذا كان اتخاذ الإرهاب وسيلة لإرغام الخصوم هو العلامة الحاسمة التي تميز المتطرف عمن سواه، كان محالا أن يلجأ إليها إنسان قوي واثق بنفسه وعقيدته، وإنما يلجأ إليه من به ضعف في أي صورة من صوره، لماذا؟ لأن الإنسان إذا أحس في نفسه ضعفا تملكه الخوف من أن يطغى عليه أصحاب المواقف الأخرى، وكأي خائف آخر ترى المتطرف هلعا جزوعا، يسرع إلى أقرب أداة للفتك بخصمه إذا استطاع، قبل أن تسنح الفرصة أمام ذلك الخصم!
Неизвестная страница