بسم الله الرحمن الرحيم
التَّعريف بابن خَلدون
ورحلته غربا وشرقا
وأَصل هذا البيت من إشبيلية؛ انتقل سلفُنا - عند الجَلاء وغَلَبِ مَلك الجَلالِقة ابن أُدْفُونْش عليها - إلى تُونس في أَواسط المائة السابعة
نسبه
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر بن محمد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن خَلدون. لا أَذكر من نسَبي إِلى خَلدون غير هؤلاء العشرة، ويغلب على الظن أنهم أكثر، وأنه سقط مثلهم عددًا؛ لأنَّ خَلدون هذا هو الداخل إلى الأَندلس، فإن كان أَولَ الفتح فالمدَّة لهذا العَهْد سبعُمائة سنة، فيكونون زُهاءَ العشرين؛ ثلاثةً لكل مائة، كما تقدم في أَول الكتاب الأَول.
وَنَسَبُنا حَضْرمَوت، من عَرب اليمن، إلى وائل بن حُجْر، من أَقيال العَرب، معروفٌ وله صُحبة. قال أبُو محمد بن حَزْم في كتاب الجمهرة: وهو وائل بن حُجْر بن سعيد بن مَسْروق بن وائل بن النُّعمان بن ربيعة بن الحَارِث بن عَوف ابن
1 / 27
سعد بن عَوف بن عديَّ بن مالك بن شُرَحْبيل بن الحارث بن مالك بن مُرَّة بن حِمْيَرِي بن زيد بن الحَضْرَميْ بن عمرو بن عبد الله بن هانئ بن عوف بن جُرشم بن عبد شمس بن زيد بن لأي بن شَبْت بن قُدامة بن أَعجَب بن مالك بن لأي بن قحطان. وابنُه عَلقَمة بن وائل وعبد الجبَّار بن وائل.
وذكره أبو عُمر بن عبد البَرِّ في حرف الوَاو من الاستيعاب، وأنَّه وفد على النّبي ﷺ، فبسَطَ له رداءَه، وأجلسه عليه، وقال: اللهم بارك في وائل بن حُجْر وولده وولد ولده إلى يوم القيامة.
وبعث معه معاويةَ بن أَبي سُفيان إلى قومه يعلَّمهم القرآنَ والإِسلامَ، فكانت له
بذلك صِحابة مع معاوية. ووفد عليه لأول خِلافته وأَجازه، فردَّ عليه جائزته ولم يقبلها. ولما كانت واقعة حُجْر بن عَدِيّ الكِندي بالكوفة، اجتمع رؤوس أهل اليمن، وفيهم وائل هذا، فكانوا مع زياد بن أَبي سُفيان عليه، حتَّى أَوثقوه وجاؤوا بِه إلى مُعاوية، فقَتَله كما هو معروف.
قال ابن حزم: ويُذكَر بنو خَلدون الإِشْبِيليُّون من ولده، وجَدُّهم الداخل من الشَّرْق خالد المعروف بخَلدون بن عثمان بن هانئ بن الخطاب بن كُرَيب بن مَعْدِ يكَرِب ابن الحارث بن وائل بن حُجْر. قال: وكان من عَقِبِه كُرَيْب بن عثمان بن خَلدون وأخوه خالد، وكانا من أَعظم ثوار الأَندلس.
قال ابن حَزم: وأخوه محمَّد كان من عَقِبِه أبو العاصِي عمرو بن محمد بن خالد بن محمَّد بن خَلدون.
1 / 28
وبنو أبي العاصي: محمَّد، وأحمد، وعبد الله. قَال: - وأَخوهم عثمان، وله عقِب. ومنهم الحكيم المشهور بالأَندلس من تلامِيذِ مَسْلَمَة المَجْريطي، وهو أبو مُسلم عمر بن محمد بن بَقِيّ بن عبد الله بن بكر بن خالد ابن عثمان بن خالد بن عثمان بن خَلدون الدَّاخل. وابن عمه أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله. قال: ولم يبق من ولد كُرَيب الرئيسِ المذْكور إلا أَبو الفضل بن محمد بن خَلَف بن أَحمد بن عبد الله بن كُرَيْب - انتهى كلام ابن حَزم.
سلفه بالأندلس
ولمَّا دخل خَلدون بن عُثمان جدُّنا إلى الأَندلس، نزل بِقَرْمُونَة في رَهط من قومه حَضْرَمَوت، ونَشَأَ بيتُ بَنِيه بِها، ثم انتَقلوا إلى إِشْبِيلِيةَ. وكانوا في جُند اليَمَن، وكان لكُرَيب من عقِبِه وأخيه خالد، الثورةُ المعروفةُ بأشبيلية أَيام الأَمير عبد الله المرواني، ثار على ابن أبي عَبْدة، وملكها من يَده أعوامًا، ثم ثار عليه إبراهيم ابن حجَّاج، بإِملاءِ الأمير عبد الله وقَتله، وذلك في أَواخر المائة الثالثة.
وتلخيص الخبر عن ثورته، على ما نقله ابن سَعيد عن الحِجَاري وابن
1 / 29
حَيَّان
وغيرهما، وينقلونَهُ عن ابن الأَشعث مؤَرخ إِشْبِيلِيةَ: أن الأَندلس لما اضطربت بالفتن أيام الأمير عبد الله تطاول رؤساء إِشْبِيلِيةَ إلى الثَّورة والاستبداد، وكان رؤَساؤها المتطاولون إلى تلك في ثلاثة بيوت: بيت بَني أبي عَبْدَة، ورئيسهم يومئذ أُمَيَّة بن عبد الغافر بن أبي عَبْدَة، وكان عبدُ الرحمن الداخل ولَّى أبا عبده إِشْبِيلِيةَ وأَعمالها، وكان حَافدُه أُمَيةُ من أعلام الدولة بقرطبة، ويولونه الممالك الضخمة. وبيت بني خلدون هؤلاءِ، ورئيسُهم كُرَيْب المذْكور، ويَردفه أخوه خالد.
قال ابن حَيَّان: وبيت بني خَلدون إلى الآن في إِشْبِيلِيةَ نهاية في النَّباهة، ولم تزل أعلامُه بين رياسة سلطانية ورياسة علمية. ثم بيت بني حجَّاج، وَرَئيسهم يومئذ عبد الله. قال ابن حَيَّان: هم - يعني بني حجَّاج - من لَخْم، وبيتُهم إِلَى الآن في إِشْبِيلِيةَ ثَابِت الأصل، نَابت الفرع موسوم بالرياسة السلطانية والعلمية. فلما عظمت الفتنة بالأندلس أعوامَ الثمانين والمائتين، وكان الأَمير عبد الله قد ولَّى على إِشْبِيلِيةَ أُمَيَّة بن عبد الغافر، وَبعَثَ معه ابنَه محمدًا، وجعله في كفالته، فاجتمع هؤُلاء النَّفَر، وثارُوا بِمحمَّد بن الأمير عبد الله وبأمية صاحبهم، وهو يمالئهم على ذلك، ويكيد بابن الأمير عبد الله. وحاصروهما في القَصْر، حتَّى طلب منهم الّلحاق بأبيه فأَخرجوه، واستبدّ أُمية إِشْبِيلِيةَ، ودَسَّ على عبد الله بن حجَّاج من قَتَله، وأَقام أخاه إبراهيمَ مكانه. وضبط إِشْبِيلِيةَ، واسترهنَ أولادَ بَنِي خَلدون وبني حجَّاج، ثم ثاروا به، وهمَّ بقتل أبنائهم فراجَعوا طاعتَه. وحلفوا له، فأَطلق أبناءَهم فانتقضوا ثانية. وحاربوه فاستَمات وقَتَل حُرَمه، وعَقَر خُيولَه، وأحرق موجودَه. وقاتَلهم حتى قَتلوه مقبلًا غيرَ مدبر، وعاثت العامَّة في رأْسِه. وكتبوا إلى الأَمير عبد الله بأنه خَلَع فقتَلوه، فقبل منهم مداراة، وبعث عليْهم هشامَ بن عبد الرحمن من قَرابته، فاستبدُّوا عليه، وفتكوا بابنه، وتولَّى كِبر ذَلك كريب بن خَلدون، واستقلَّ بإِمارتها.
وكان إبراهيم بن حجَّاج بعد ما قُتل أخوه عبدُ الله - على ما ذَكَرَهُ ابن سَعيد عن
1 / 30
الحِجَاري - سَمَت نفسُه إلى التَّفَرد، فظاهر ابْنَ حَفصُون أعظم ثوار الأندلس يومئذ، وكان بمَالَقَة وأعمالها إلى رُنْدَة، فكان له منه ردْءٌ. ثم انصرف إلى مُداراة كُرَيْب بن خَلدون وملابسته، فَردَفه في أمره، وشَركَه في سلطانه، وكان في كُرَيب تحامل على الرَّعية وتعصُّب، فكان يتجَهُّم لهم، ويغلظ عليهم، وابن حَجَّاج يَسْلك بهم الرفق والتلطف في الشفاعة لهم عنده، فانحرفوا عن كُريبِ إلى إبراهيم. ثم دسَّ إلى الأمير عبد الله يطلب منه الكتاب بولاية إِشْبِيلِيةَ، لتسكن إِليه العامَّة، فكتب إليه العهدَ بذلك. وأَطلع عليه عُرَفَاءَ البلد، مع ما أشربوا من حُبِّه، والنَّفرة عن كُريْب، ثم أجمع الثورة، وهاجت العامة بكُرَيْب فقتلوه، وبعث برأْسه إلى الأمير عبد الله، واستقرَّ بإِمارة إِشْبِيلِيةَ.
قال ابن حَيَّان: وحَصَّن مدينة قَرمُونَة من أَعظم معاقل الأندلس، وجعلها مُرْتَبَطا لخيوله، وكان ينتقل بينها وبين إِشْبِيلِيةَ. واتخذ الجُند ورتَّبهم طبقات، وكان يصانع الأميرَ عبد الله بالأموال والهَدايا، وببعث إليه المَدَدَ في الصَّوائف. وكان مقصودًا مُمَدَّحًا، قصده أهل البيوتات فوصلهم، وَمَدحَهُ الشعراء فأجازَهم، وانتجعه أبو عمر ابن عبد ربِّه صاحب العِقد، وقصدَهُ من بين سائر الثوار، فعرَفَ حقه، وأعظم جائزتَهُ.
وَلَم يزل بيت بني خَلدون بإِشْبِيلِيةَ - كما ذكَرَهُ ابن حَيَّان وابنُ حَزْم وغيرُهما - سائرَ أَيام بني أمية إلى أَزمان الطَّوائف -، وانْمَحت عنْهم الإمارة بما ذهب لهم من الشوكة.
ولما علا كعبُ بن عَبَّاد بإِشْبِيلِية، واستبدَّ على أهلها، استوزر من بني خَلدون
1 / 31
هؤلاء، واستَعملهم في رُتَب دولته، وحضروا معه وقعة الزَّلاَّقة كانت لابن عَبَّاد وليوسف بن تَاشِفين على مَلِكِ الجلالقة، فاستشهد فيها طائفةٌ كبيرة من بني خَلدون هؤلاء، ثبتوا في الجولة مع ابن عَبَّاد فاستُلْحِموا في ذلك الموقف. ثم كان الظُهور
للمسْلمين، ونصَرهم الله على عدوّهم. ثم تَغلب يوسف بن تَاشِفين والمُرابِطُون على الأَندلس، واضمحلَّت دولةُ العَرَب وَفِنيتْ قبَائلُهم.
سلفه بأفريقية
ولما استولى الموحِّدون على الأَندلس، وملكوها من يد المرابطين، وكان ملوكُهم: عبدَ المؤمن وبنيه. وكان الشَّيخ أبو حَفص كبير هِنْتَاتَةَ زعيم دولتهم، وولَّوه على إِشْبِيلِية وغَربِ الأندلس مرارًا، ثم ولوا ابنَه عبد الواحد عليها في بعض أيامهم، ثم ابنَه أَبا زكرياءَ كذلك، فكان لِسَلَفِنَا بإِشْبِيلِية اتصالٌ بهم، وَأَهدَى بعضُ أجدادنا من قِبَل الأمهات، وَيُعْرَف بابن المحْتَسِب، للأمير أبي زكرياء يحيى بن عبد الواحد ابن أبي حفص أيام ولايته عليهم، جارية من سَبْي الجلالقة، اتخذها أم ولد، وكان له منها ابنه أبو يحيى زكريا ولي عهده الهالك في أيامه، وأخواه: عُمر وأبو
1 / 32
بكر، وكانت تُلقَّب أم الخلفاء. انتقل الأمير أبو زكريا إلى ولاية إفريقية سني العشرين والستمائة. ودعا لنفسه بها، وخلع دعوة بني عبد المؤمن سنة خمس وعشرين. واستبد بإفريقية، وانتقضت دولة الموحدين بالأندلس، وثار عليهم ابن هود. ثم هلك واضطربت الأندلس، وتكالب الطاغية عليها، وردد الغزو إلى الفُرُنْتِيرَة، بسيطِ قرطبة وإِشْبِيلِية إلى جَيَّان، وثار ابن الأحمر بغرب الأندلس من حصن أرجونة، يرجو التماسك لما بقي من رمق الأندلس. وفاوض أهل الشورى يومئذ بإِشْبِيلِية. وهم بنو الباجي، وبنو الجَدّ، وبنو الوزير، وبنو سيَّد الناس، وبنو خلدون. وداخلهم في الثورة على بن هود، وأن يتجافوا للطاغية عن الفُرُنْتِيرَة، ويتمسكوا بالجبال الساحلية وأمصارها المتوعرة، من مالقه إلى غرناطة إلى المَرِيَّة، فلم يوافقوه على بلدهم.
وكان مقدمهم أبو مروان الباجي، فنابذهم ابن الأحمر وخلع طاعة الباجي، وبايع مرة لابن هود، ومره لصاحب مراكش من بني عبد المؤمن، ومرة للأمير أبي
زكرياء صاحب إفريقية. ونزل غرناطة، واتخذها دارا لملكه، وبقيت الفَرُنْتِيرَةُ وأمصارها ضاحية من ظل الملك، فخشي بنو خلدون سوء العاقبة مع الطاغية، وارتحلوا من إشبيلية إلى العدوة، ونزلوا سَبتة وأَجْلبَ الطاغية على تلك الثغور،
1 / 33
فملك قرطبة، وإشبيلية، وقرمونة وجيان وما إليها، في مدة عشرين سنة. ولما نزل بنو خلدون سبتة أصهر إليهم العَزَفِيٌّ بأبنائه وبناته، فاختلط بهم، وكان له معهم صِهْرٌ مذكور. وكان جدُّنا الحسن بن محمد، وهو سبط بن المحْتَسِب، قد أجاز فيمن أجاز معهم، فذكر سوابق سلفه عند الأمير أبي زكرياء، فقصَدَه وقدم عليه فأَكرم قدومه. وارتحل إلى المشرق، فقضى فَرْضَه. ثم رجع ولحق بالأمير أبي زكرياء على بُونَة، فأكرمه، واستقر في ظل دولته، ومرعى نعمته، وفرض له الأرزاق، وأقطع الإقطاع. وهلك هنالك، فدفن ببونة. وخلف ابنه محمدًا أبا بكر، فنشأ في جو تلك النعمة ومرعاها. وهلك الأمير أبو زكرياء ببونة سنة سبع وأربعين، وولي ابنة المستنصر محمد، فأجرى جدنا أبا بكر على ما كان لأبيه. ثم ضرب الدهر ضربانه، وهلك المستنصر سنة خمس وسبعين، وولي ابنه يحيى، وجاء أخوه الأمير أبو اسحق من الأندلس، بعد أن كان فر أمام أخيه المستنصر. فخلع يحيى، واستقل هو بملك إفريقية، ودفع جدونا أبا بكر محمدًا إلى عمل الأشغال في الدولة، على سنن عظماء الموحدين فيها قبله؛ من الانفراد بولاية العمال، وعزلهم وحسبانهم، على الجباية، فاضطلع بتلك الرُّتْبة. ثم عقد السلطان أبو إسحق لابنه محمد، وهو جدنا الأقرب، على حجابة ولي عهده ابنه أبي فارس أيام أقصاه إلى بجاية. ثم استعفى جدُّنا من ذلك فأعفاه، ورجع إلى الحضرة. ولما غلب الدعي بن أبي عمارة على ملكهم بتُونِس، اعتَقَل جدَّنا أبا بَكر محمدًا، وصادره على الأموال، ثمَّ قتله خنقًا في محبِسِه. وذهب ابنه محمد جدنا الأقرب مع السلطان أبي إسحق وأبنائه إلى بِجَاية، فقبض عليه
1 / 34
ابنه أبو فارس، وخرج في
العساكر هو واخوته لمدافعة الدَّعِيَّ بن أبي عمارة، وهو يشبَّه بالفضل ابن المخلوع، حتى إذا استلحموا بمَرَّمَاجَنَّة خلص جَدُّنا محمد مع أبي حفص بن الأمير أبي زكرياء من الملحمة، ومعهما الفَازَازي وأبو الحسين بن سيد الناس، فلحقوا بمنجاتهم من قلعة سنان. وكان الفازازي من صنائع المولى أبي حفص، وكان يؤثره عليهم. فأما أبو الحُسين بن سيد الناس فاستنكف من إيثار الفازازي عليه، بما كان أعلى رتبة منه ببلده إشبيلية، ولحق بالمولى أبي زكرياء الأوسط بِتِلمْسان، وكان من شأنه ما ذكرناه. وأما محمد بن خلدون فأقام مع الأمير أبي حفص، وسكن لإيثار الفازازي. ولما استولى أبو حفص على الأمر رعى له سابقته، وأقطعه، ونظمه في جملة القواد ومراتب أهل الحروب، واستكفى به في الكثير من أهل ملكه، ورشحه لحجابته من بعد الفازازي. وهلك، فكان من بعده حافدُ أخيه المستنصر أبو عصيدة، واصطفى لحجابته محمد بن إبراهيم الدَّبَّاغ كاتب الفازازي، وجعل محمد بن خلدون رديفًا في حجابته. فكان كذلك إلى أن هلك السلطان، وجاءت دولة الأمير خالد، فأبقاه على حاله من التجِلَّة والكرامة، ولم يستعمله ولا عقد له، إلى أن كانت دولة أبي يحيى بن اللحياني، فاصطنعه، واستكفى به عندما نَبضَت عروق التغلب للعرب؛ ودفعه إلى حماية الجزيرة من دلاج، أحد بطون سُلَيم الموطنين بنواحيها، فكانت له في ذلك آثار مذكورة. ولما انقرضت دولة ابن اللحياني خرج إلى المشرق، وقضى فرضه سنة ثمان عشرة، وأظهر التوبة والإقلاع، وعاود الحج متَنَفِّلا سنة ثلاث وعشرين، ولزم كِسْر بيته. وأبقى السلطان أبو يحيى عليه نعمته في كثير مما كان بيده من الإقطاع والجراية، ودعاه إلى حجَابَته مرارًا، فامتنع.
أخبرني محمد بن منصور بن مَزْنَى، قال: لما هلك الحاجب محمد بن عبد العزيز الكردي المعروف بالمِزْوَار، سنة سبع وعشرين وسبعمائة، استدعى السلطان
1 / 35
جَدَّك
محمد بن خلدون، وأراده على الحجابة، وأن يفوِّض إليه في أمره، فأبى واستعفى، فأعفاه، َوَوَامَرهُ فيمن يوليه حجابته، فأَشار عليه بصاحب الثغر: بجاية، محمد بن أبي الحسين بن سيد الناس، لاستحقاقة ذلك بكفايته واضطلاعه، ولقديم صحابة بين سلفهما بتونس، وبإشبيلية من قبل. وقال له: هو أقدر على ذلك بما هو عليه من الحاشية والذوين، فعمل السلطان على إشارته، واستدعى ابن سَيِّد الناس، وولاَّه حجابته. وكان السلطان أبو يحيى إذا خرج من تُونس يستعمل جدنا محمدًا عليها، وثوقًا بنَظَرِه واستنامة إليه، إلى أن هلك سنة سبع وثلاثين، ونزع ابنه، وهو والدي محمد أبو بكر، عن طريقة السيف والخدمة، إلى طريقة العلم والرباط، لما نشأ عليها في حجر أبي عبد الله الزُّبَيْدي الشهير بالفقيه، كان كبير تونس لعهده، في العلم والفُتيا، وانتِحال طرق الولاية التي ورثها عن أبيه حُسين وعمه حَسن، الوليين الشَّهيرين. وكان جدنا ﵀ قد لزمه من يوم نزوعه عن طريقه، وألزمه ابنَه، وهو والدي ﵀ فقرأَ وتفَقَّه، وكان مقدَّمًا في صناعة العربية، وله بصر بالشعر وفنونه. عهدي بأهل الأدب يتحاكمون إليْه فيه، ويعرضون حَوْكَهم عليه، وهلَك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعمائة.
نشأته ومشيخته وحاله
أما نشأتي فإني وُلدت بتونس في غرة رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، وربيت في حجر والدي ﵀ إلى أن أَيْفَعت وقرأْت القرآن العظيم على الأُستاذ المكتِّب أبي عبد الله محمد بن سعد بن بُرَّال الأنصاري، أصله من جالية الأندلس من أعمال بلنسية، أخذ عن مشيخة بلنسية وأعمالها، وكان إمامًا في القراءات، لا
1 / 36
يُلحَق شَأوه، وكان من أشهر شيوخه ففي القراءات السبع أبو العباس أحمد بن محمد البطرني، ومشيخته فيها، وأسانيده معْروفة. وبعد أن استظهرت القرآن الكريم من حفظي، قرأته عليه بالقراءات السبع المشهورة إفرادًا وجمعًا في
إحدى وعشرين خَتْمة، ثم جمعتها في ختمة واحدة أخرى، ثم قرأت برواية يعقوب ختمة واحدة جمعًا بين الروايتين عنه، وعرضت عليه ﵀ قصيدتي الشاطبي؛ اللامية في القراءات، والرائية في الرسم، وأخبرني بهما عن الأستاذ أبي العباس البطرني وغيره من شيوخه؛ وعرضت عليه كتاب التَّقَصِّي لأحاديث الموطأ لابن عبد البر، حذا به حذو كتابه التمهيد على الموطأ، مقتصرًا على الأحاديث فقط. ودارَسْتُ عليه كتبًا جَمَّة، مثل كتاب التَّسْهِيل لابن مالك ومختصر ابن الحاجب في الفقه، ولم أكملهما
1 / 37
بالحفظ، وفي خلال ذلك تعلمت صناعة العربية على والدي، وعلى أستاذي تونس: منهم الشيخ أبو عبد الله بن العربي الحصايري، وكان إمامًا في النحو وله شرحٌ مستوفى على كتاب التسهيل. ومنهم أبو عبد الله محمد بن الشواش الزرزالي. ومنهم أبو العباس أحمد بن القصار؛ كان ممتعًا في صناعة النحو، وله شرح على قصيدة البردة المشهورة في مدح الجناب النبوي، وهو حي لهذا العهد بتونس.
ومنهم: إمام العربية والأدب بتونس، أبو عبد الله محمد بن بحر؛ لازمت مجلسه، وأفدت عليه، وكان بحرًا زاخرًا في علوم اللسان. وأشار علي بحفظ الشعر، فحفظت كتاب الأشعار الستة، والحماسة للأعلم، وشعر حبيب، وطائفة من شعر المتنبي، ومن أشعار كتاب الأغاني. ولازمتُ أيضًا مجلس إمام المحدثين بتونس؛
1 / 38
شمس الدين أبي عبد الله محمد بن جابر بن سلطان القَيْسي الوادياشي، صاحب الرحلتين؛ وسمعت عليه كتاب فسلم بن الحجاج، إلا فَوْتا يسيرا من كتاب الصيد؛ وسمعت عليه كتاب الموطأ من أوله إلى آخره، وبعضًا من الأمهات الخمس؛ وناولني كتبًا كثيرة في العربية والفقه، وأجازني إجازة عامة، وأخبرني عن مشايخه المذكورين في بَرْنَامَجِه، أشهرهم بتونس قاضي الجماعة أبو العباس أجمد بن الغماز الخزرجي.
وأخذت الفقه بتونس عن جماعة؛ منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الجَيَّاني، وأبو القاسم محمد القصير؛ قرأت عليه كتاب التَّهذيب لأبي سعيد البرادعي؛ مختصر المدوَّنة، وكتاب المالكية، وتفقَّهت عليه. وكنت في خلال ذلك أنتاب مجلس شيخنا الإمام، قاضي الجماعة أبي عبد الله محمد بن عبد السلام، مع أخي محمد رحمة الله عليهما. وأفدت منه، وسمعت عليه أثناء ذلك كتاب المُوَطَّأ للإمام مالك، وكانت له فيه طرق عالية، عن أبي محمد بن هارون الطائي قبل اختلاطه إلى غير هؤلاء من مشيخة تونس، وكلهم سمعت عليه، وكتب لي
1 / 39
وأجازني؛ ثم درجوا كلهم في الطاعون الجارف.
وكان قدم علينا في جُمْلة السلطان أبي الحسن، عندما مَلك إفريقية سنة ثمان وأربعين، جماعة من أهل العلم، وكان يلزمهم شهود مجلسه ويتجمل بمكانهم فيه: فمنهم شيخ الفتيا بالمغرب، وإمام مذهب مالك، أبو عبد الله محمد بن سليمان السطي؛ فكنت أنتاب مجلسه، وأفدت عليه. ومنهم كاتب السلطان أبي الحسن، وصاحب علامته التي توضع أسافل مكتوباته، إمام المحدثين والنُّحاة بالمغرب، أبو محمد بن عبد المُهَيمن بن عبد المهيمن الحضرمي؛ لازمته، وأخذت عنه، سماعًا، وإجازة، الأمهات الست، وكتاب الموطأ، والسِّيَر لابن اسحق، وكتاب ابن الصَّلاح في الحديث، وكتبًا كثيرة شذت عن حفظي. وكانت بضاعته في الحديث وافرة، ونحلته في التقييد والحفظ كاملة، كانت له خزانة من الكتب تزيد على ثلاثة آلاف سفر؛ في الحديث، والفقه، والعربية، والأدب، والمعقول، وسائر الفنون؛ مضبوطة كلها، مقابلة. ولا يخلو ديوان منها عن ثبت بخط بعض شيوخه المعروفين في سنده إلى مؤلفه، حتى الفقه، والعربية، الغريبة الإسناد إلى مؤلفيها في هذه العصور. ومنهم الشيخ أبو العباس أحمد الزواوي، إمام المقرئين بالمغرب. قرأت عليه القرآن العظيم، بالجمع الكبير بين القراءات السبع، من طريق أبي عمرو الداني، وابن شُرَيْح، في ختمة لم أكملها، وسمعت عليه عدة كتب، وأجازني
بالإجازة العامة.
ومنهم شيخ العلوم العقلية، أبو عبد الله محمد بن إبراهيم الآبلي. أصله من
1 / 40
تلمسان، وبها نشأ، وقرأ كتب التعاليم، وحذق فيها؛ وأظله الحصار الكبير بتلمسان أمام المائة السابعة، فخرج منها، وحج، ولقي أعلام المشرق يومئذ، فلم يأخذ عنهم؛ لأنه كان مختلطًا بعارض عرض في عقله. ثم رجع من المشرق، وأفاق، وقرأ المنطق والأصلين، على الشيخ أبي موسى عيسى ابن الإمام؛ وكان قرأ بتونس، مع أخيه أبي زيد عبد الرحمن، على تلاميذ ابن زيتون الشهير الذكر؛ وجاء إلى تلمسان بعلم كثير من المعقول والمنقول، فقرأ الآبلي على أبي موسى منهما كما قلناه. ثم خرج من تلمسان هاربًا إلى المغرب، لأن سلطانها يومئذ، أبو حمو من ولد يَغْمِرَاسِنْ بن زيان، كان يكرهه على التصرف في أعماله، وضبط الجباية بحسبانه، ففر إلى المغرب، ولحق بمرَّاكش، ولزم العالم الشهير أبا العباس بن البَنَّاء الشهير الذكر، فحصَّل عنه سائر العلوم العقلية، وورث مقامه فيها وأرفع، ثم صعد إلى جبال الهساكرة، بعد وفاة الشيخ، باستدعاء علي بن محمد بن تروميت، ليقرأ عليه، فأفاده، وبعد أعوام استنزله ملك المغرب، السلطان أبو سعيد، وأسكنه بالبلد الجديد، والآبلي معه.
ثم اختصه السلطان أبو الحسن، ونظمه في جملة العلماء بمجلسه، وهو في خلال ذلك يُعلِّم العلوم العقلية، ويبثها بين أهل المغرب، حتى حذق فيها الكثير منهم من سائر أمصارها، وألحق الأصاغر بالأكابر في تعليمه.
ولما قدم على تونس في جملة السلطان أي الحسن، لزمته، وأخذت عنه الأصلين، والمنطق، وسائر الفنون الحكمية، والتعليمية؛ وكان ﵀، يشهد لي بالتبريز في ذلك.
وممن قدم في جملة السلطان أبي الحسن: صاحبنا أبو القاسم عبد الله بن يوسف
1 / 41
بن رضوان المالقي. كان يكتب عن السلطان، ويلازم خدمة أبي محمد عبد المهيمن رئيس الكتاب يومئذ، وصاحب العلامة التي توضع عن السلطان أسفل المراسيم والمخاطبات، وبعضها يضعه السلطان بخطه.
وكان ابن رضوان هذا من مفاخر المغرب، في براعة خطه، وكثرة علمه، وحسن سَمْته، وإجادته في فقه الوثائق، والبلاغة في التَّرسيل عن السلطان، وحَوْك الشعر، والخطابة على المنابر؛ لأنه كان كثيرًا ما يصلي بالسلطان. فلما قدم علينا بتونس، صحبته، واغتبطت به، وإن لم أتخذه شيخًا، لمقاربة السن، فقد أفدت منه كما أفدت منهم.
وقد مدحه صاحبنا أبو القاسم الرحوي شاعر تونس في قصيدة علي رَوِيِّ النون، يرغب منه تذكرة شيخه أبي محمد عبد المهيمن في إيصال مدحه إلى السلطان أبي الحسن، في قصيدته على روي الباء، وقد تقدم ذكرها في أخبار السلطان.
وذكر في مدح ابن رضوان أعلام العلماء القادمين مع السلطان وهي:
عرفت زماني حين أنكرت عرفاني ... وأيقنت أن لاحظ في كف كيوان
وأن لا اختيار في اختيار مُقَوَّمٍ ... وأن لا قراع بالقران لأقْرِاني
وأن نظام الشكل أكملَ نظِمِه ... لأضعف قاض في الدليل برجحان
وإن افتقار المرء في فقراته ... ومن ثقله يغني اللبيب بأوزان
فمن بعد ما شمت الخلاب ولم أرع ... لهشة راض أو لشرة غضبان
ولم يعشني للنار لمع شعاعها ... فما كل نار نار موسى بن عمران
1 / 42
ولم يبق لي في الغيب من أمل سوى ... لقاء ابن رضوان وجنة رضوان
هنالك ألفيت العلا تنتمي إلى ... أناس ضئيل عندهم فخر غسان
وأرعيت من روض التأدب يانعًا ... وحييت من كنز العلوم بقعيان
وردت فلم تجدب لديه ريادتي ... وصدق طرفي ما تلقته آذاني
فحسبك من آدابه كل زاخر ... يحييك معسولًا بدُرٍّ ومرجان
يحييك بالسِّلك الذي لم تحط به ... طروس ابن سهل أو سوالف بوران
فقل بابلي إن ينافثك لفظة ... وفي وشيه الأطراس قل هو صنعاني
خلائق لم تخلق سدى بل تكملت ... بإسداء إنعام وإيلاء إحسان
ثم يقول في ذكر العلماء القادمين:
هم القوم كل القوم، أما حلومهم ... فأرسخ من طودي ثبير وثهلان
فلا طيش يعروهم وأما علومهم ... فأعلامها تهديك من غير نيران
بفقه يشيم الأصبحي صباحه ... وأشهب منه يستدل بشهبان
وحسن جدال للخصوم ومنطق ... يجيئان في الأخفى بأوضح برهان
سقت روضة الآداب منهم سحائب ... سحبن على سحبان أذيال نسيان
فلم يبق نأي ابن الإمام شماخة ... على مدن الدنيا لأنف تلمسان
وبعد نوى السطي لم تسط فاسه ... بفخر على بغدان في عصر بغدان
1 / 43
وبالآبلي استسقت الأرض وبلها ... ومستوبل ما مال عنه لأظعان
وهامت على عبد المهيمن تونس ... وقد ظفرت منه بوصل وقربان
وما علقت مني الضمائر غيره ... وإن هويت كلًا بحب ابن رضوان
وكتب هذا الشاعر: صاحبُنا الرحوي يذكر عبد المهيمن بذلك:
لهي النفس في اكتساب وسعي ... وهو العمر في انتهاب وَفَيَّ
وأرى الناس بين ساع لرشد ... يتوخى الهدى وساع لغي
وأرى العلم للبرية زينًا ... فتَزَيَّا منه بأحسن زِيِّ
وأرى الفضل قد تجمَّع كلًا ... في ابن عبد المهيمن الحضْرَمِيِّ
حل بالرتبة العلية في حضْ ... رِةِ مَلْك سامي العِمَادِ عَليِّ
قلم أوسع الأقاليم أمْرًا ... فله قد أطاع كل عصي
قدر ما يفيد منه احتذار ... فبأي تراه يقضي باي
يمنح العز والعلا ويوالي ... بالعطايا الجسام كل ولي
يلجأ الدارعون خوفًا إليه ... فهو يزري بالصارم المشرفي
هو أعلى الأقلام في كل عصر ... حيث ينمى إلى الإمام علي
حليت تلكم الرياسة منه ... بفريد في كل معنى سني
سالك في النظام درًا وطورًا ... ناثر دره بنشر وطي
بدع للبديع ترمي بحصر ... ولصابي بني بويه بعي
ويرى أخرس العراق لديه ... إنه بالشآم كالأعجمي
وعلوم هي البحور ولكن ... ينثني الواردون منها بري
تصدر الأمة العظيمة عنه ... بحديث مجود مروي
وبفقه فيه وحسن مقال ... يضع النور في لحاظ العمي
وبنحو ينحي على سيبويه ... ببيان في المبهمات جلي
1 / 44
عمي الأخفشان عنه وسدت ... عن خفاياه فطنة الفارسي
يا أخا الحكم في الأنام وإني ... لأُنادي رب النَّدَى والنَّدِيِّ
بنت فكري تعرضت لحماكم ... فالقَها راضيًا بوجه رضي
تبتغي القرب من مراقي الأماني ... والترقي للجانب العلوي
فأنِلْها مَرامَها نلت سَهلًا ... كل دان تبغي وكل قصي
ثم كانت واقعة العرب على السلطان بالقيروان، في فاتحة تسع وأربعين، فشغلوا عن ذلك، ولم يظفر هذا الرَّحَوي بطلبته. ثم جاء الطاعون الجارف، فطوى البساط بما فيه، وهلك عبد المهيمن فيمن هلك، ودفن بمقبرة سلفنا بتونس، لخلة كانت بينه وبين والدي، ﵀، أيام قدومهم علينا.
فلما كانت واقعة القيروان، ثار أهل تونس بمن كان عندهم من أشياع السلطان أبي
الحسن، فاعتصموا بالقصبة دار الملك، حيث كان ولد السلطان وأهله، وانتقض عليه ابن تافراكين، وخرج من القيروان إلى العرب، وهم يحاصرون السلطان، وقد اجتمعوا على ابن أبي دبوس، وبايعوا له، كما مر في أخبار السلطان، فبعثوا ابن تافراكين إلى تونس، فحاصر القصبة، وامتنعت عليه. وكان عبد المهيمن يوم ثورة أهل تونس، ووقوع الهيعة، خرج من بيته إلى دارنا، فاختفى عند أبي ﵀، وأقام مختفيًا عندنا نحوًا من ثلاثة أشهر. ثم نجا السلطان من القيروان إلى سوسة، وركب البحر إلى تونس، وفر ابن تافراكين إلى المشرق. وخرج عبد المهيمن من الاختفاء، وأعاده السلطان إلى ما كان عليه، من وظيفة العلامة والكتابة، وكان كثيرًا ما يخاطب والدي ﵀ ويشكره على موالاته، ومما كتب إليه وحفظته من خطه:
1 / 45
لحمد ذوي المكارم قد ثناني ... فعال شكره أبدًا عناني
جزى الله ابن خلدون حياة ... منعمة وخلدًا في الجنان
فكم أولى ووالى من جميل ... وبر بالفعال وباللسان
وراعى الحضرمية في الذي قد ... حبا من وده ومن الحنان
أبا بكر ثناءك طول دهرى ... أردد باللسان وبالجنان
وعن علياك ما امتدت حياتي ... أكافح بالحسام وباللسان
فمنك أفدت خلًا لست دهري ... أرى عن حبه أثني عنان
وهؤلاء الأعلام الذين ذكرهم الرحوي في شعره، هم سباق الحلبة في مجلس السلطان أبي الحسن، اصطفاهم لصحابته من بين أهل المغرب. فأما ابنا الإمام منهم فكانا أخوين من أهل برشك، من أعمال تلمسان، واسم أكبرهما: أبو زيد عبد الرحمن، واسم الأصغر: أبو موسى عيسى، وكان أبوهما إمامًا ببعض مساجد برشك، واتهمه المتغلب يومئذ على البلد زيرم بن حماد، بأن عنده وديعة من المال
لبعض أعدائه، فطالبه بها، فلاذ بالامتناع، وبيته زيرم، لينتزع المال من يده، فدافعه وقتل، وارتحل ابناه هذان الأخوان إلى تونس في المئة السابعة، وأخذا العلم بها عن تلاميذ ابن زيتون، وتفقها على أصحاب أبي عبد الله بن شعيب الدكالي، وانقلبا إلى المغرب بحظ وافر من العلم. وأقاما بالجزائر يبثان بها العلم، لامتناع برشك عليهما من أجل (ضَرَر) زيرم المتغلب عليها، والسلطان أبو يعقوب يومئذ، صاحب المغرب الأقصى من بني مرين، جاثم على تلمسان يحاصرها الحصار الطويل المشهور، وقد بث جيوشه في نواحيها، وغلب على الكثير من أعمالها وأمصارها،
1 / 46